شوف تشوف

الرأي

تصنيف الريف والمدينة

وائل عصام
شهدت المدن العربية هجرة ريفية واسعة في العقود الأخيرة، وأدت موجات الترييف هذه إلى تغيير طبيعة معظم المدن الكبرى، والأهم هو التأثير الكبير على القيم والعادات والروابط الاجتماعية للسكان داخل حدود المدينة، هذا الاختلال أدى بالتالي إلى ظهور سكان مدن ليسوا بالضرورة «حضريين» ويحملون عادات المدينة، وتمدين نسبة من سكان الريف، بحيث تخلوا أيضا عن بعض عادات الريف، لكنهم لم يصبحوا مدنيين، مقارنة بسكان تلك المدن القديمة، فأصبح الحال تركيبة هجينة جديدة، بحاجة إلى التدقيق في إطلاق التصنيفات.
كما أن هذا الواقع يقودنا إلى التفريق بين إطلاق اسم الحالة المدنية على حدود المدينة الجغرافية، وقيم السكان، لأن الكثير من سكان المدن هم جغرافيا داخل إطار المدينة، لكن قيمهم وروابطهم الاجتماعية لا تزال هجينة بين الريف والمدينة.
في بغداد وحلب والموصل وغيرها، أدى نزوح كتل سكانية من الريف (في معظم الأحيان) إلى إقامة أحياء داخل المدينة، أشبه بالكانتونات، يشترك سكانها في انحدارهم العشائري أو الريفي، ويحافظون بالتالي على روابطهم وعاداتهم وقيمهم، ويشكلون بالتالي كتلا غير منسجمة، مع سكان المدينة الأصليين. فهناك أحياء كاملة في الموصل وحمص يسكنها عشائريون يسمون «عرب المدينة»، وحتى اليوم يتم النظر إليهم بتمييز من قبل عائلات المدينة القديمة، وهذه الحال راسخة بشدة في حلب، بين أهل المدينة والريف، خصوصا مع المشاركة القوية للريف الحلبي، مقابل الدور الخجول للمدينة، عدا عن أحيائها الشرقية الفقيرة، ذات الانحدار الريفي أصلا.
وفي دراسة ستنشر قريبا، يخلص زميل باحث من حمص، إلى أن الطبقة المدنية التجارية في كثير من المدن السورية، قد تبدلت بنسبة تفوق 60 في المائة بعائلات أخرى، في القرن الأخير. ويمكن فهم هذا بالنظر مثلا إلى الهجرة المعاكسة من المدينة إلى الريف في دمشق، حيث باعت الكثير من العائلات الدمشقية بيوتها وسكنت غوطة دمشق، ولكن ماذا بقي من «غوطة» ومن «ريف»؟ في ريف الغوطة الدمشقي معظم المساحات الخضراء الزراعية أكلتها الكتل الإسمنتية، وحولت الغوطة إلى منطقة يصعب تصنيفها، إن كانت ريفا أو مدينة، حتى أن الباحث الاجتماعي حنا بطاطو، يميل لوصف سكان الغوطة أهل مدن، لأن الكثير من قراهم قد تمدنت، بل إنه يمايز بينهم وبين سكان آخرين ريفيين، في المرج شرق الغوطة، الذين ما زالوا، حسب بطاطو، أقرب للبداوة بسلوكهم وعاداتهم، أما فلاحو حوران فيصنفهم في منزلة بين المنزلتين. إذن ليس من السهولة بمكان إطلاق التصنيفات القديمة على كل سكان الريف، أو المدينة، وحتى الريف قد ينقسم بناء على الانتماء الطائفي، ضمن الريف الواحد، وهذا ما يقوله أيضا حنا بطاطو، إذ يصف بعض الطوائف، كالدروز والعلويين، «من بين طوائف سوريا الدينية الأكثر انغلاقا». ويضيف: «والقاعدة هي أن المرء لا يمكنه أن ينضم إلى هذه الطوائف، بل يمكنه أن يولد فيها فحسب. ولديها جميعا حس حاد بهويتها الخاصة، ويحركها شعور قوي بالمسؤولية نحو إخوتها في الدين».
وقد تزايد النقاش حول الريف والمدينة في ظل الحراك السياسي القائم، خصوصا في العراق وسوريا، حيث لعب سكان الريف أدوارا فاعلة، سواء في الثورة أو التشكيلات العسكرية، ورغم أن هذا الجانب بحاجة إلى تفصيل لا يتسع في هذا المقال، لكن إن كان الكثير من الانتقادات قد وجهت إلى المناطق الريفية في سوريا، بسبب الأخطاء التي شابت نشاطها العسكري في الثورة السورية، إلا أن المفارقة تكمن في أن الذين ينتقدونها من سكان المدن لم يقدموا في الحقيقة أي مشروع بديل، ومن البداية لم يشاركوا بالفاعلية نفسها، لا في الحراك السلمي ولا في العمل العسكري. ويمكننا ملاحظة أن البؤر المدنية التي كانت معقلا لحراك ثوري بارز كانت، إما مدنا عشائرية مثل درعا، أو تسكن أحياءها نسبة من العشائر كحمص، أو أنها ذات أصول ريفية، كما حلب الشرقية، ولكن اللافت حقا، إنه بينما انقسمت المعارضة السورية بين توجيه اللوم للريف أو للمدينة، (في حال استنباط إجابات مزيفة عن سؤال لماذا أخفقنا؟)، إلا أن النظام السوري نفسه، وهو ينحدر من أصول ريفية، تعامل مع خصومه المنقسمين في المعارضة «ريفا ومدينة» ككتلة واحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى