تصفية البغدادي.. حقيقة واحدة وثلاث نظريات مؤامرة
صبحي حديدي
كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أحدث المنضمين إلى نظرية المؤامرة الشهيرة التي تقول إن البغدادي، رأس «داعش» و«خليفة» هذا الزمان، هو صنيعة الولايات المتحدة؛ لأن التنظيم الإرهابي انبثق «بعد الغزو الأمريكي للعراق وإفراج الأمريكيين عن المتطرفين»، و«لهذا فإنهم، بدرجة ما، أقدموا على تصفية الرجل الذي خلقوه، إذا صح أنهم تمكنوا منه فعلا». ضمن التصريح ذاته، لقناة 24 الإخبارية الروسية، شدد لافروف على أن القوات الروسية، المنتشرة على مقربة من الموقع الذي قتل فيه البغدادي حسب رواية واشنطن، تواصل «دراسة حقائق إضافية، ولا تستطيع حتى الآن تأكيد معظم ما قالته الولايات المتحدة».
قبل لافروف كان بشار الأسد قد أدلى بدلوه فاعتبر أن لا علاقة لنظامه بالعملية، ولم يسمع بها «إلا من الإعلام»، و«الأهم من ذلك» أنه لا يعرف إذا كانت العملية حصلت أم لا؛ لأن «السيناريو» الذي نشرته الولايات المتحدة هو «جزء من الخدع الأمريكية وعلينا ألا نصدق كل ما يقولونه، إلا إذا أتوا بالدليل». وإذا جاز أن لافروف يداري حرجا عسكريا ودبلوماسيا، جراء استباحة الحوامات الأمريكية لأجواء سيطرة الطيران الحربي الروسي؛ فإن الأسد، في المقابل، ينطق بالحقيقة من حيث لا يتقصد قول الصدق، لأنه بالفعل آخر من يعلم أو يُعلم!
نظرية مؤامرة ثانية تقول إن قوى قيادية داخل «داعش»، فاعلة وصاعدة، مكنت البنتاغون من تصفية البغدادي ضمن الافتراض ذاته الذي يقول إن التنظيم صنيعة أمريكا؛ وذلك لأن «الخليفة» بات عبئا ثقيلا ومربكا وسلبي الحضور والآثار، ليس فقط لأنه أوغل أكثر مما ينبغي في العنف وأراق الكثير من الدماء (في أوساط السنة تحديدا، أكثر من سواهم)، فحسب؛ بل كذلك لأنه صار قعيدا ومريضا ومشلول الحركة، وهذا أمر يناقض موقعه الرمزي ورصيده المعنوي لدى المؤمنين برضوان الله عليه وعلى خلافته. في عبارة أخرى: لقد توجب أن يصفيه صانعه، كي يأتي ببديل له أكثر ملاءمة للوظائف المناطة بالأصل، الـ«صنيعة» في أول الأمر وآخره.
نظرية ثالثة، لعلها الأكثر طرافة واقتناعا بالقدرات التخطيطية الهائلة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، تقول إن توقيت تصفية البغدادي يخدم غرضا خارجيا يتجاوز سوريا والعراق، منطقة عمليات «داعش» الكبرى، ليشمل آسيا وإفريقيا وأوربا. ذلك لأن انحسار حركة «الخليفة» شرق الفرات، أو حيثما تبقى له من نفوذ لدى خلاياه النائمة وشبه العلنية، لا يعني انحسارا مماثلا في مكانته لدى أنصاره وأتباعه هنا وهناك في العالم؛ بل قد يكون العكس هو الصحيح، إذ توطدت أكثر أسباب تمثيلاته كضحية لـ«قوى الكفر» و«الاستكبار» و«الصليبية المعاصرة». لا بد، إذن، من تهشيم هذه الصورة المستجدة، بالطريقة الجذرية الوحيدة، أي تصفية صاحبها وحاملها وموضوعها.
ثمة، إلى هذا، نظريات مؤامرة أخرى رابعة وخامسة وعاشرة… لا تخرج، أغلب الظن، عن محاور النظريات الثلاث سالفة الذكر؛ لكن كل هذا التنظير التآمري، سواء حول استيلاد «داعش» أو استئصال «الخليفة»، لا يمس جوهر الحقائق الكبرى التي تتقرى جذور صعود هذا التنظيم الإرهابي، وتتوغل في عمق التربة التي أعطت هذا النبت الشيطاني. وبدل التلهي في ترجيح نظرية أو أخرى، الأجدى تقليب الأرض ذاتها والتيقظ على العوامل المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أتاحت صعود «داعش»، ومهدت الدروب إلى ما تعرض له الاجتماع الإنساني والوطني في سوريا والعراق من تخريب رهيب.
ولا يتوجب أن تنسى معادلات التجنيد والتعبئة وحشد الأنصار والمتطوعين على هامش، ومن حول، العمليات الإرهابية الخارجية، في أوربا بصفة خاصة؛ وكذلك توظيف موجات الرهاب ضد الإسلام، بغرض إعادة إنتاج الوحوش البشرية التي نفذت أشد أعمال الإرهاب دموية. فالتجنيد المباشر جزء لا يتجزأ من الفلسفة التنظيمية للمنظمة الإرهابية، يتممه تجنيد غير مباشر لا يحتاج إلا إلى سلوك بغضاء مجاني ضد المسلمين؛ وما أكثره، في مجتمعات الغرب هذه الأيام!