تصحيح المسار الفلسطيني
نواف التميمي
تبرهن مجريات الأحداث مجددا على فشل الخيارات والرهانات التي ذهبت إليها القيادة الفلسطينية منذ ربع قرن، أي منذ تخلت عن الانتفاضة الشعبية الأولى مقابل خيار مؤتمر مدريد للسلام. لا تسمح مساحة هذه الزاوية بحصر كل المياه التي جرت من تحت أقدام الفلسطينيين منذ ذلك التاريخ، غير أن المحطة الأبرز عبر كل تلك السنين كانت اجتماع القمة العربية في بيروت العام 2002، عندما أجمع العرب، وقلما يُجمعوا، على ما عُرفت بالمبادرة العربية، القائمة على الأرض مقابل السلام، وطالبوا إسرائيل بإعادة النظر في سياساتها، وتبني خيار السلام العادل، والانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري حتى خط الرابع من يونيو 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان، مع التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، يتفق عليه وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتكون عاصمتها القدس الشرقية، في مقابل أن تعتبر الدول العربية النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام مع إسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها في إطار السلام الشامل. ويقال إن المبادرة في الأساس وليدة أفكار الكاتب الصحافي الأمريكي توماس فريدمان، انطلاقا من اقتناع الدول العربية بفشل الحل العسكري للنزاع، أو على الأصح عدم قدرة الأنظمة العربية على تحرير فلسطين بالسلاح، واسترداد بالقوة ما سُلب بالقوة.
قَبِل الفلسطينيون المبادرة العربية باعتبارها خيار العرب الاستراتيجي، وقَبِلها العرب باعتبارها مقبولة فلسطينيا. وهم، أي العرب، لن يقبلوا إلا بما يقبله الفلسطينيون، ولن يطالبوا بأكثر مما يرضي الفلسطينيين. وظلت المبادرة العربية، منذ ذلك الوقت، سقف العرب الذي استظل تحته الفلسطينيون، بعدما خابت رهاناتهم السابقة على مخرجات مؤتمر مدريد للسلام، ثم أصيبوا بخيبة أمل كبرى مع فشل اتفاقيات أوسلو، وتتالت الخيبات التي انتكس بها هجوم السلام الفلسطيني، كما يحلو للرئيس الفلسطيني محمود عباس تسميته.
في غضون كل تلكم السنين العجاف، راهنت القيادة الفلسطينية أساسا على النظام العربي الرسمي، وتخلت بشكل تام عن الجماهير العربية التي لطالما اعتبرتها، ما قبل مدريد، السند الحقيقي للشعب الفلسطيني وثورته. اليوم، ومع تهاوي النظام العربي أمام إسرائيل، وتسابق الأنظمة العربية على التطبيع مع الكيان المحتل، والتخلي عن المبادرة العربية، تقف القيادة الفلسطينية عارية، فلا إسرائيل اشترت المبادرة بدرهم، ولا الأنظمة العربية التزمت بما تعهدت به في بيروت، ولا تحرر شبر من الأرض. على العكس، رمت إسرائيل المبادرة العربية في سلة المهملات، وها هي الأنظمة العربية تتهاوى في مستنقع التطبيع قابلة بـ«السلام مقابل السلام»، بعدما فشلت في استعادة «الأرض مقابل السلام».
كما تبنت الأنظمة العربية مبادرة قمة بيروت في العام 2002 بوصفها خيارا استراتيجيا بعد فشل الحل العسكري، على الشعب الفلسطيني التخلي عن الرهانات الفاشلة والعودة إلى خيارات النضال التحرري المشروعة، بوصفها الطريق الأقصر والأوضح لتحرير الأرض. صار ضربا من الهبل الرهان على النظام العربي الرسمي. وكيف للفلسطيني أن ينشد التحرير والتحرر من أنظمة قمعية ديكتاتورية، تضطهد شعوبها، تطارد مثقفيها، تغتال الصحافيين والمعارضين، وتدعم الثورات المضادة بالمال والسلاح. هل يعقل أن تجلس حركة التحرر الفلسطينية إلى جانب أنظمة قمعية لا تقل استبدادا عن الاحتلال، وتتخلى عن موقعها إلى جانب الشعوب التواقة للحرية والعدالة والكرامة.
بعد فشل كل الرهانات والخيارات الفلسطينية، على الشعب الفلسطيني تغيير المسار بإجراء مراجعة شاملة لكل خياراته السياسية، واشتقاق استراتيجية نضالية مغايرة، ليس الرهان على الأنظمة العربية بندا فيها، وتقوم في عمقها على تصويب العلاقة مع الشعوب العربية الرافضة للتطبيع، القابضة على القضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب المركزية.