تشهير مجاني
من إبداعات مشروع قانون مكافحة الإرهاب الجديد ما نصت عليه المادة 33 التى تعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين كل من نشر بيانات عن العمليات الإرهابية تخالف ما أصدرته الجهات الرسمية. وهى مادة تبعث على القلق والخوف من جوانب عدة، فهى تعيد إلى الأذهان نموذج «وزارة الحقيقة» التى تصدرها جورج أورويل، مؤلف الرواية الشهيرة (1984)، التى عبر بها عن كآبة الأوضاع فى بريطانيا إذا كتب النصر للنازيين فى الحرب العالمية الثانية. ذلك أن المادة المذكورة اعتبرت أن البيان الرسمي وحده عنوان الحقيقة، ليس ذلك فحسب، وإنما نصت على معاقبة من ينشر أية بيانات أخرى مغايرة بالحبس مدة لا تقل عن سنتين، وهو ما لم يتخيله الكاتب البريطاني في روايته.
شيء من ذلك القبيل حدث فى روسيا التي صدر فيها قانون يحظر تقديم أي رؤية تاريخية مغايرة للأحداث والوقائع كما وردت فى سجلاتها الرسمية. وهو ما كشف النقاب عنه حين صادرت وزارة الثقافة شريطا سينمائيا أعدته إحدى شركات الإنتاج عن قيام الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين بتهجير قرية شيشانية سكانها 250 ألفا من المسلمين، إلى سيبيريا أثناء الحرب العالمية الثانية. واستندت وزارة الثقافة، في قرار المصادرة، إلى القانون سابق الذكر، حيث احتجت بأن قصة القرية التي تم تهجيرها لا وجود لها فى أرشيف الجهاز الأمني. وحين احتج منتجو الفيلم على المصادرة، فإن إعلام السلطة اتهمهم بالخيانة وموالاة الدول الغربية المخاصمة لروسيا والمتآمرة عليها.
مشروع القانون المصري الجديد خالف الدستور الذي ألغى الحبس في قضايا النشر، إلى جانب أنه يلغي صناعة الخبر وينصب المتحدث الرسمي محررا أول لكل وسائل الإعلام فى البلد. والذي لا ينال سوءا عن ذلك أن موقفه في هذه الجزئية من سمات الدول سيئة السمعة التي تصر على احتكار الحقائق وغسيل أدمغة الناس. غير عابئة بالثورة التى حدثت في عالم الاتصالات وجعلت التحكم فى العقول والمدارك فكرة بالية تجاوزها الزمن.
من المصادفات أنه في اليوم الذي نشر فيه نص مشروع القانون عقد وزير الخارجية المصري اجتماعا مع المراسلين الأجانب بالقاهرة، انتقد فيه نشر وسائل الإعلام الأجنبية إحصاءات وبيانات غير دقيقة عن الأحداث الجارية، ووجه إليهم تلقينا عرضا من خلاله الموقف المصري وحقيقة الصراع الدائر وتجليات الإرهاب في البلاد. وبعد اللقاء سمعت من أحدهم قوله إن وزير الخارجية تصور أنه يخاطب مراسلي الصحف المصرية، ونسى أن سامعيه يمثلون صحفا وقنوات تلفزيونية أجنبية تصدر في مناخ مغاير للحاصل فى مصر.
فى حين نقل وزير الخارجية عتابه وتوجيهاته للصحفيين والمراسلين الأجانب، فإن وزارته وزعت عليهم تعميما توجيهيها آخر حدد لهم المصطلحات التى يتعين استبعادها فى وصف العناصر المشتبكة مع السلطة في مصر، وتلك التى يفضل استخدامها فى تقاريرهم ورسائلهم الإخبارية.
وعلى طريقة قل ولا تقل، فإن البيان ذكر أنه في وصف المشاركين في العمليات الإرهابية، ينبغى ألا تستخدم مصطلحات، مثل الإسلاميين أو الجماعات الإسلامية أو الجهاديين أو الأمراء أو العلماء أو الأصوليين أو الدولة الإسلامية. أما المصطلحات المرشحة للاستخدام فهى: الإرهابيون ــ المتطرفون ــ المجرمون ــ القتلة ــ السفاحون ــ المتعصبون ــ الجلادون ــ المتوحشون ــ الجزارون… إلخ.
أدري أن ثمة تقليدا متبعا فى وسائل الإعلام المحترمة، يتم من خلال توافق مجلس التحرير بالمؤسسة على المصطلحات واجبة الاستعمال لوصف الأحداث أو النشطاء فى ضوء أعرافها وموقفها السياسي. إلا أنه من غير المألوف أن ترشح جهة حكومية في إحدى الدول مصطلحات بذاتها لتستخدمها وسائل الإعلام في دول أخرى. لذلك فإن التعميم قوبل بدرجات متفاوتة من الاستهجان والنفور لأنه بدا مؤشرا على الرغبة فى توجيه الصحف الأجنبية وليس المصرية فقط.
ليست معروفة الجهات التي تقف وراء هذه التصرفات التي تشوه صورة النظام القائم وتخصم من رصيده في العالم الخارجي. لذلك فليس مستغربا أن تتبنى أغلب وسائل الإعلام العالمية موقفا سلبيا إزاء النظام الذي بات سجله مؤسفا في المجالات الحقوقية والحريات العامة. وهو ما تلمسه السفارات المصرية بوضوح ويستشعره كل ذي صلة بالدبلوماسيين الأجانب. وقصة الصحفي الإسبانى ريكاردو كونزاليس، مراسل صحيفة «إلبايبس» الشهيرة بالقاهرة لها دلالتها فى هذا السياق. ذلك أن سلطات بلاده أبلغته أن أمنه بات في خطر فغادر المدينة على الفور، وبعد عودته إلى بلاده تحدث عن معاناة المراسلين الأجانب وتعسف السلطات المصرية معهم، حتى أصبحوا يعملون في ظروف «رديئة جدا»، كما قال لموقع «دويتش فيله» الألماني.
من المفارقات أن بعض الأصوات في مصر دأبت على اتهام وسائل الإعلام الأجنبية الناقدة للنظام بأنها مخترقة أو ممولة من جانب الإخوان، ناسين أن ممارسات الداخل التي ذكرت بعضها توفر على الراغبين فى التشهير جهودهم وأموالهم، حيث تحقق لهم ما يريدون بالمجان. وإذا استمرت مثل هذه السياسات، فلا أستبعد أن يبعث بعض الخصوم ببرقية إلى السلطات المختصة بالقاهرة يعبرون فيها عن امتنانهم قائلين: نشكركم على حسن تعاونكم!