شوف تشوف

الرأيالرئيسية

 تشريح بنية الوثنية السياسية

 

 

بقلم: خالص جلبي

 

تعتبر مأساة الشيخلي، صديق صدام الحميم، مأساة كاملة، كما جاءت في كتاب «القصة السرية لحياة صدام»، (تأليف كوغلن). فقد كان هذا المثقف البعثي من أقرب اثنين لصدام، بعد خاله الطلفاح، شاركه في السجن وعلى ظهر الدبابة في التآمر والاختفاء ومحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم؛ فلم يشفع له؛ وأنهى حياته مشردا معزولا بين سفير ومتقاعد، ثم قتل على باب البريد وهو يدفع فاتورة الهاتف، ولم يكن الوحيد؛ فقد قتل صدام تقريبا كل واحد، بمن فيهم أصهاره، فَيَتَّمَ أحفاده ورَمَّلَ بناته. وحين لم تبق أمة انتخب مائة بالمائة، دليلا على نهاية الأمة إلى الصفر. ومن أعجب من قتل ناظم كزار الذي دربه على أساليب التحقيق في قصر النهاية، حيث ينتهي كل من يصل إليه إلى نهايته، وهو بالأصل كان قصرا ملكيا في غاية ونهاية الروعة، فأصبح نهاية لأقدار المقرودين.. وكان من ألذها وأشهاها على قلب الجزار (الكزار) إطفاء السجائر في أحداق ومقل المستجوبين، وأخيرا خطط الكزار لقتل معلمه كما في قصة أبي مسلم الخراساني، فنجا هو والبكر بأعجوبة وقدر. واقتيد الكزار إلى المقصلة. كل ذلك قبل أن يدشن مصنع لإنتاج تماثيل صدام، وتنتشر في عالم العروبة من أقصاها إلى أقصاها، موضة عبادة الشخصية. وينفعنا التاريخ في قراءة هذا السفر الأسود من تاريخ الإنسان؛ فقد جاء في كتاب «الكامل في اللغة والأدب» للمبرد: أن «واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحس الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب فقالوا: شأنك. فخرج إليهم فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد أجرناك. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال ليس ذلك لكم. قال الله تبارك وتعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) فأبلغونا مأمننا؛ فنظر بعضهم إلى بعض، ثم قالوا: ذلك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن».

إن هذه القصة تحكي اختلاط الإلهي بالبشري، والتشدد بالجهل، والعنف بالمقدس. ومن معين الخوارج تستمد حركات (الإسلام السياسي) زخمها الحالي، ولعل أبرزها حركة داعش، ولذا فإن (أبو حمزة الخارجي) ينام اليوم مستريحا في قبره، فقد أعيد إحياء مذهبه من الأجداث.

كان الناس يظنون أن الصنم هو الحجر والتمر والخشب، ولكن محمد إقبال يقول إن أصنام قريش موجودة، فقط تبدل ثوبها في كل مناسبة، «تبدل في كل حال مناة شاب بنو الدهر وهي فتاة»، حسب تعبيره. وفي الوقت الذي تعيش حركات الإسلام السياسي خارج إحداثيات التاريخ والجغرافيا ولا تعرف ما هي المعاصرة وترتهن لقوة السلاح؛ فإن التاريخ ينقل لنا كوارث من التعصب تمت في أوروبا، فقد اندلعت حمى مجنونة في القرن السادس عشر على مستويين، الأولى قام بها البروتستانت عام 1529م في سويسرا وهولندا وألمانيا، تحت شعار: أيها الصنم إن كنت إلها كما تدعي فدافع عن نفسك، وإن كنت بشرا فيجب أن تنزف دما بالتصفية الجسدية.

كل ظنهم أن الوثنية هي في التماثيل والصور، كما يفعل السلفيون عندنا وفي كل دين. ويعلق «بيتر يتسلر Peter Jezler»، مدير المتحف التاريخي في «بيرن»: هل كان ما فعلوه جنونا، أم إرادة الله حقا كما يزعمون؟ وختم كلامه: «إنه سؤال للضمير في أوروبا المسيحية والعالم الإسلامي». والمهم أن أعظم التحف الأثرية في الشمال الأوروبي تم نسفها نسفا، بحيث يتحسر عليها الباحثون اليوم. وعاصر هذا المرض من التعصب الفيلسوف الإنساني «إيراسموس Erasmus von Rotterdam)، ووصف تلك النزعة التدميرية: (بأنها تشبه تدمير طروادة في العصر القديم). وأما التدمير الثاني وكان أشد هولا وأعظم مساحة، فكان لحضارات العالم القديم على يد عصابات من لصوص الإسبان، حيث لا تعلم أوروبا ماذا يحدث هناك. ووصف الفيلسوف والمؤرخ الألماني شبنغلر ما حدث بهذه الأسطر المأساوية:

«فحضارة المايا لم تمت جوعا، بل قتلت قتلا وهي في أوج ازدهارها، ودمرت كما تدمر زهرة عباد الشمس إذا ما قطع أحد المارة تاجها؛ فكل دول الأزتيك بما فيها من قوة عالمية وأكثر من اتحاد، وبما لها من حجم موارد أضخم بكثير من موارد الدول الإغريقية والرومانية في زمن هانيبال، ونظام مالي أعد بعناية، وتشريع بلغ درجة رفيعة من التطور، وأنظمة إدارية لم يحلم بها حتى وزراء شارل الخامس، وثراء عريض في الآداب واللغات، ومدن عظمى ذات مجتمعات متأدبة ولامعة ذهنية، مجتمعات لا يستطيع الغرب أن يقدم مجتمعا واحدا يضارع هاتيك. أقول كل هذه الدول وبكل مالها من أرصدة حضارية لم تندثر نتيجة لحرب يائسة، بل إنما جرفتها خلال سنوات قليلة، عصابة ضئيلة العدد من اللصوص، ودمرتها تدميرا جعل الآثار التي خلفها السكان بلهاء لا تحتفظ حتى بأي ذكرى عن تلك الحضارة؛ فمن المدينة العملاقة «تينو شتتلان» لم يبق حجر واحد لم يغيبه الثرى في أحشائه! وهكذا ترانا اليوم لا نعرف اسم مدينة من تلك المدن، ولم تعف يد الدمار إلا عن ثلاثة من كتبهم، لكنها كتب لم يتمكن أحد حتى الآن من قراءتها».

وقصة الوثنية السياسية في عالم العروبة اليوم تفتح النقاش حول مفهوم الصنم، فما هو؟ قد يكون الصنم حجرا أو بشرا أو (إيديولوجية)، ولكنه يتظاهر دوما بأنه متعالي ما فوق بشري، يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور، ويفرض على العقل الإنساني الانصياع والرهبة، أمام سيطرته.  

 

نافذة:

 

قد يكون الصنم حجرا أو بشرا أو إيديولوجية ولكنه يتظاهر دوما بأنه متعالي ما فوق بشري يملك صفات خارقة ويتلون حسب العصور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى