تزكية وزارة الأوقاف 42
تراجعت إلى الخلف.. وجدت نفسي وحيدا في الكاريان.. قاطعني أخي في الله «أبو أيمن» وأخته في الله «فاطمة».. هجرني «الإخوان».. بت سخرية للسلفيين.. وأيضا أصبحت مستهدفا من «الشيخ أبو بكر».. رجل في الأربعين من عمره.. أشعث اللحية.. عريض الجبهة.. تميل بشرته إلى السواد.. كلما نظرت إليه كنت أقول لنفسي إن هذا الرجل له مشكل في دينه.. يجسني دائما بنظراته الحادة الممزوجة بالكراهية.. كنت بدوري أمقته وأعتبره وبالا على البلاد والعباد.. وشرا مستطيرا.. أبو بكر هذا أو الشيخ «الهواري» ـ كما يحب أن يسمع ـ كان تكفيريا!!! لأول مرة في حياتي أتعرف إلى هذا الفصيل «الإسلامي»..
يسكن في «زريبة» من غرفتين وفناء.. يبعد عن «براكتنا» بحوالي 500 متر.. له حصان وعربة يشتغل عليهما.. له زوجة لم نر وجهها قط.. غطَّى كل أطرافها.. وحدها عين غائرة تطل من وراء حجاب من ورائه حجاب.. أبو بكر وزوجته وثلاث بناته يعيشون عزلة تامة داخل الكاريان..
وصل اجتهاد الأب في الدين إلى إعلان حرب لا رحمة فيها على زوجته.. حبسها أولا داخل البيت.. ثم حبسها داخل كومة من الملابس.. حرمها من آدميتها.. لم تعد كباقي النساء.. لا تضحك مثلهن.. ولا تخرج كما يخرجن.. ولا تتغنج كما يفعلن.. كل ذلك باسم الدين.. هكذا دين «الشيخ الهواري».. المرأة شر كله.. بل منبع الشر وإليه.. ولا سبيل للحد من هذا الخطر الداهم إلا بحبسها داخل البيت.. وإلى الأبد.. هذا ما فهم الرجل من الإسلام.. جرد زوجه حتى من بعض الضروريات العصرية.. كل شيء حرام في دينه.. الراديو والتلفاز.. وكل معالم الحضارة العصرية.. حول بيته تماما إلى حجرة من حجرات عهد الكهوف.. يفترش أبو بكر وأسرته الأرض.. يقول «العلامة» وحيد زمانه شيخ التكفيريين «سيدي الهواري»:
ـ التراب لا يرتاح إلا فوق التراب.. (فتوى يحرم بها سرير النوم).
يدعي «أبو بكر» أنه يتشبَّهُ بحياة «محمد» عليه الصلاة والسلام وبصحابته الأوفياء.. يعتقد أنه يعيش وسط مجتمع الكفار.. كل معاملة معهم حرام.. وكل مودة إليهم معصية.. وكل مخالطة لهم ذنب عظيم.. لا موالاة للكفار في دين الله.. الحاكم والمحكوم خارجان عن الملة.. وكل ما يأتي منهما هو الباطل بعينه.. قطع «أبو بكر» صلته بالدولة التي يعيش تحت خيمتها.. ليست له بطاقة وطنية.. ولا هوية على الإطلاق.. لا يتوفر على أي وثيقة إدارية تربطه ببلد اسمه المغرب.. لم يسجل بناته في كناش الحالة المدنية كما تقتضي ذلك أصول المواطنة الحديثة..
الغريب في الأمر أنه استطاع أن يجمع حوله بعض مجاهل القوم.. وأن تكون له أيضا «جلسة تربوية» على مقاسه.. ووفق «دينه» الجديد.. تبعه الأميون وبعض ذوي السوابق العدلية.. انتظموا على شاكلة عصابة إجرامية.. المضحك أنهم لا يشترون اللحم من عند الجزار.. ولا من عند بائع الدجاج.. السبب بسيط للغاية، فالجزارون وبائعو الدجاج ليسوا على ملة الإسلام.. فلا تجوز ذبيحتهم.. قلت مرة للإخوان:
ـ بالله عليكم.. كيف نضيع وقتنا في الحديث عن الانتخابات.. وتشكيل المجالس.. وإبرام الصفقات والتحالفات.. ونترك أمثال الشيخ «الهواري» يعيثون في الأرض فسادا.. فإذا لم نأخذ المبادرة ونواجه هذا الطوفان القادم، فسنكون أول غرقاه.. وأول ضحايا التكفيريين..
قلت لجلسائي:
ـ إن العلاج الوحيد لهذه الفوضى في الدين.. هو العلم.. إن هؤلاء الجهلة لا يقرؤون.. ولا يبحثون عن الحقيقة.. أسلموا أرواحهم لـ«المشايخ» فعبثوا بها.. وأوردوها المهالك.. إن الشر كله آت من المشرق.. وأول البلايا انتشار فتاوى «ابن تيمية» وكتب تلامذته من السلفيين في الأوطان.. علينا أن نجتث هذا الفكر من عقولنا.. ومن كتبنا.. ومن مناهجنا الدراسية.. سبب التشدد والغلو والتطرف والعنف والانتحار في سبيل الله هو الفكر العدمي لابن تيمية.. وتلميذه «محمد بن عبد الوهاب».. وكل من سار على دربهما من المشارقة والمغاربة المقلدين ممن نشروا ثقافة العنف والغلو في كل مكان…. قلت لأعضاء جلستنا:
ـ هل تعلمون أن «جماعتنا» هي أيضا مشرقية الهوى.. وأنها أيضا «سلفية».. متأثرة بالفقه الحنبلي.. وابن تيمية.. ومحمد بن عبد الوهاب.. والمودودي.. ورشيد رضا.. والبنا.. وقطب.. والغنوشي.. والترابي.. إنها مثل المولود الذي لا أب له.. ولا هوية له..
لم يعد أعضاء الجلسة يحتملون أكثر من هذا.. طفح الكيل.. وبدأ الإخوان يستفسرون عن أحوالي.. وعن «الشخبطة» الفكرية التي بدأت تظهر في الجلسة التي أنا مسؤول عنها..
زارني الأخ «أبو إيمان» في المنزل.. ثم قال لي:
ـ اسمع أخي.. نعرف موقفك من السياسة.. وأنك تخالف التوجهات الفكرية للجماعة.. لكن أن يصل بك الحال إلى أن تطعن في حركتنا.. وأصولها العقدية.. واجتهاداتها الفقهية.. وأن تتخلى عن برنامجها التربوي.. وتجعل لنفسك وجلستك برنامجا تربويا خاصا.. إن هذا لا يمكن السكوت عنه.. وإنه لفساد كبير في الأرض..
أكمل حديثه بعد أن قدمت له الشاي وبعض الحلوى كما يفعل معي عندما أزوره في بيته.. ثم أسرَّ إلي قائلا:
ـ اسمع فلان.. عندي لك اقتراح هام.. جاءتنا تعليمات خاصة بأنه بإمكان أعضاء «الجماعة» أن يحصلوا على تزكيات من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لممارسة الوعظ والإرشاد داخل المساجد.. وإمامة الناس بها.. وأيضا يمكن أن يصبحوا خطباء على منابر الجمعة.. لم يعد هناك أي مشكل مع الدولة.. يمكننا أن نقوم بواجبنا داخل هذه المؤسسات الدينية.. ومن حقنا ذلك.. وأنا أرى أنك أهل لهذا، فما عليك إلا أن تزور المكتب الفلاني.. وتتقدم بطلب في الموضوع.. الشرط الوحيد هو أن تكون حافظا لأجزاء من القرآن وملما ببعض الفقه.. خصوصا أحكام الطهارة والصلاة والحج.. راجع كل ذلك على طريقة المذهب المالكي، فهو مذهب المغاربة الأول.. ولن يقبل منك المسؤول في الوزارة غير ذلك.. أنت والحمد ما شاء الله تحفظ من القرآن.. وقرأت الكثير في مجال الفقه والفكر.. أنصحك بذلك.. فاسمع لما أقول..
ذهب «أبو إيمان» إلى حال سبيله.. تركني جامدا في مكاني.. لم أعد أفهم شيئا في هذه الحياة.. وجدت نفسي عاجزا عن ملاحقة التطورات التي تحصل بجانبي.. ماذا؟؟ الإخوان أيضا سيدخلون إلى وزارة الأوقاف.. عفوا «دين الأوقاف».. وسيتولون الوعظ والإرشاد والخطابة في المساجد.. من فتح لهم هذا الباب؟؟؟ وكيف حصل ذلك؟؟ ولماذا؟؟ أليس الإخوان أعداء للمخزن؟؟
فهمت حينها أن من رفض المشاركة السياسية من الإخوان لم يبق أمامه إلا الانخراط في «سياسة» الأوقاف.. لم أسمع كلام «أبو إيمان».. قلت مع نفسي: هل أنا شخص معاكس إلى هذا الحد؟
تذكرت ما قالته لي الوالدة رحمها الله:
ـ ستعاني يا ولدي كثيرا جراء عنادك (عكسك) الزائد.. إنك مثل أبيك الذي «ربَّاك».. إنك عود صلبٌ سيُكسِّرونَك لا محالة.. لماذا لا آخذ تزكية رسمية.. وأنفتح على فضاءات أرحب.. وأترك هذا الكاريان الذي ضاق بي إلى درجة الاختناق؟؟ لماذا لا أكون خطيب جمعة مثل «إخواني» وأقبض بعض المال عوض هذه البطالة المزمنة؟؟ وربما أشتغل في الوزارة مثلما فعل البعض؟ وربما.. وربما.. هكذا دخلت في دوامة من التردد القاتل..
لكن «النبهاء» من الإخوان وجدوها فرصة سانحة.. فتوافدوا على وزارة الأوقاف طلبا للتزكيات.. كانوا يزكون أنفسهم في ما قبل.. والآن أمسوا في حاجة إلى من يزكيهم لأداء واجب «الدعوة» إلى الله..
استجابت الإدارة لطلباتهم.. وانتشروا في مساجد البلاد.. يدعون إلى الله.. ويعظون الناس.. ويرشدون إلى دين الله.. طبعا وفق المذهب المالكي.. والعقيدة الأشعرية.. «الأتعاب» بطبيعة الحال ستتكلف بها الوزارة.. ستوزع عليهم الإدارة المنح.. والإكراميات.. والسفريات إلى الديار المقدسة.. وأجر التنقلات إلى أوربا في رمضان.. وقراءة القرآن والأمداح في المناسبات الدينية.. ازدادت حظوتهم عند من يملكون الحظوة.. تغير حال الخطباء والوعاظ.. اتسعت لهم الدنيا.. وفتحت لهم بابها، كما فتحت أحضانها لمن سبقوهم من أهل السياسة والكياسة..
لم يعد بعض الإخوان يرضون بأن يكونوا وعاظا أو خطباء فقط.. طمعوا في ما هو أسمى وأنبل.. رغبوا في ألقاب كبرى.. أحبوا أن يسموا أنفسهم «علماء».. فكان لهم ما رغبوا فيه.. فتحت لهم وزارة الأوقاف الباب على مصراعيه.. بل كل الأبواب.. وقالت لهم ادخلوا إلى مجالسنا العلمية مع الداخلين.. وزعت عليهم بطائق العضوية.. ومنهم من أصبح له أجر مقابل هذه الخدمات.. ومنهم من أصبحت له سيارة العمل.. والسائق الكيِّسُ.. والملبس الأنيق.. والفراش الوثير.. وطمعوا أيضا في الوجاهة.. والصدارة.. والإعلام..