عبد الإله بلقزيز
لا تختلف أنماط الصراعات على السلطة وتتعدد تبعا لنوع القوى الاجتماعية التي تنخرط فيها (عصبوية، طبقية) فحسب، ولا هي تختلف باختلاف الوسائل المستخدمة في تلك الصراعات فقط، بل ولا حتى باختلاف مستويات الثقافة السياسية التي يتشبع بها وعي القوى المشاركة فيها، بل يعود الاختلاف بينها أيضا إلى طبيعة الأهداف والغايات التي يرسمها كل فريق من فرقاء الصراع لنفسه خاتمة مطاف لخوضه في ذاك الصراع.
بل لقد يكون الهدف هو، بالذات، ما يحدد الأسلوب المناسب له في هذا الطور أو ذاك من أطوار الصراع على السلطة. يمكننا، في المعرض هذا، أن نشير إلى ثلاثة أهداف كبرى تتغياها، في الغالب، القوى التي تنخرط في صراعات على السلطة؛ وسنتناولها من الأقصى إلى الأدنى أو، تنازليا، من الأعلى إلى الأدنى.
الهدف الأول من الصراع على السلطة هو حيازتها الكاملة من قبل من يتنزل عنده هذا المطلب منزلة الغاية التي ينتهي إليها. وتفترض الحيازة الكاملة استيلاء على السلطة، أي سيطرة عليها في وجوهها كافة. وقد يأخذ الاستيلاء شكلا عنيفا فيتوسل لنفسه أدوات القوة المادية (ثورة مسلحة، انقلاب عسكري، ثورة شعبية…)، وقد يكتفي بالتعبير عن نفسه سلميا فيتوسل أدوات سلمية، ومن ذلك الوصول إلى السلطة عبر الاقتراع، كما هو مألوف في المجتمعات التي تقوم فيها أنظمة ديمقراطية. ينجب هذا النوع من حيازة السلطة مشهدا سياسيا قوامه نشوء نخبة سياسية حاكمة منسجمة التكوين (أو أقل تباينا في التكوين)، ذات برنامج سياسي موحد تسعى إلى تحقيقه منفردة، أي من غير شريك لها في السلطة؛ وهذا كان النمط الأغلب في الأنظمة السياسية في العالم، بما فيها تلك التي نشأت في حضن الشرعية الديمقراطية.
والهدف الثاني منه هو تقاسم السلطة بين قوى تتنازع عليها في المجتمع الواحد. ويضمر مبدأ التقاسم – من قبل من يأخذ به مختارا أو مضطرا – تسليما باستحالة حيازة السلطة حيازة منفردة، أو بالعجز عن ذلك أو بصعوبته وارتفاع شروط إمكانه. والغالب على العمل بهذا المبدأ أنه يقع في الحالات التي تتكافأ فيها القوى بين طالبي السلطة والمتنازعين عليها؛ حيث يقود توازن القوى إلى احتمالات ثلاثة: إما الصراع المفتوح الذي لا يقبل حسما من أحد، الأمر الذي يفضي – بالتالي- إلى الاستنزاف المتبادل إلى ما لا نهاية؛ أو الكف عن الصراع جملة لانعدام اليقين بإمكان كسبه؛ أو المواطأة بين المتصارعين على تقاسم ما يتصارعون عليه. غالبا ما يقع تفادي الاحتمالين الأول والثاني لعقمهما، فيما يجنح للاحتمال الثالث، لأن فيه مكسبا وإن لم يكن كاملا. وما أكثر أنظمة الحكم التي وقع فيها تقاسم السلطة بين غريمين (آخرها جنوب إفريقيا).
أما الهدف الثالث فأكثر تواضعا حتى من السابق: المشاركة في السلطة. وما من شك في أن في مبدأ المشاركة ما يستدل به على تواضع الطلب الناجم – هو نفسه – من تواضع إمكانات القوة لدى من يسعى إلى هذا الهدف. نحن لا نستبعد، طبعا، إمكان أن يكون مبدأ المشاركة من مقتضيات المرحلة التي يمليها واجب قسمة الفاعلية السياسية وأهدافها على محطات، وبالتالي لا نستبعد أن يكون (المبدأ) طِلْبَة حتى عند القوى السياسية ذات الثقل الكبير؛ خاصة إن كانت متشبعة بثقافة سياسية واقعية تحسب حساب ميزان القوة في الصراعات السياسية، غير أن الذي لا مرية فيه أن الهدف القائم على فكرة المشاركة السياسية يفصح عن قدر عال من الاعتدال السياسي يناسب، في الغالب، المجتمعات متعددة التكوينات أو البلدان التي لا تتمتع فيها الأحزاب السياسية المطالبة بالمشاركة بحيثية تمثيلية حقيقية.
ما من شك في أن ما يقرر في أي هدف تكون له الأولوية هو جملة الأوضاع السياسية التي يعمل فيها المتنازعون على السلطة. ولكن، من ينفي أن اختيار هذا الهدف ثقيل الكلفة أو قليل الكلفة لا يعود إلى الظروف الموضوعية وحدها، وبشكل حصري، بل إلى نوع التفكير السياسي لدى هذه النخبة السياسية أو تلك واتجاهات رؤاها المتراوحة بين الغلو والتطرف، من جهة، والواقعية والاعتدال من جهة أخرى. ولكن الذي لا يداخلنا شك فيه أن الأهداف التي يرسمها عقل متشبع بقيم الواقعية السياسية تظل الأكثر رصانة وإمكانا، وأقل أثمانا من غيرها، أو هكذا هي تبدو – على الأقل- لمن يقرأ تجارب التاريخ السياسي الإنساني الحديث.
نافذة:
ما من شك في أن ما يقرر في أي هدف تكون له الأولوية هو جملة الأوضاع السياسية التي يعمل فيها المتنازعون على السلطة