صرح قبل أيام، محمد الوفا، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة، المكلف بالشؤون العامة والحكامة، بأن الحكومة لم يعد بمقدورها توفير حاجيات قطاعي التعليم والصحة، وتحمل نفقاتهما، مفسرا ذلك بأنه مع «بروز تهديدات «داعش» قبل ثلاث سنوات، أصبح من اللازم توقيف الأقسام التعليمية والصحة من أجل توفير الاعتمادات للأمن».
التعليم.. هل هو أسبقية وطنية؟
رأى كثيرون من متتبعي الشأن التربوي ببلادنا في تصريح الوزير محمد الوفا توصيفا لواقع وليس مجرد استشراف مستقبلي، مستدلين بمعطيات كثيرة، سواء في الفترة الزمنية التي كان فيها هذا الوزير مشرفا على القطاع، أو في الفترة الزمنية التي تلته إلى اليوم. ذلك أن الحكومة الحالية، لم تقم بأي خطوة تعكس وضعه كـ«أسبقية وطنية». بل ماتزال تنظر له باعتباره قطاعا اجتماعيا ذا عبء ثقيل من ناحية النفقات. الأمر الذي يجعلها بعيدة كل البعد عن توجهات كل الخطابات الملكية، وكذا توجهات مؤسسة دستورية من حجم المجلس الأعلى للتربية والتكوين. هكذا سجل ملاحظون أنه لم يتم استثناء قطاع التعليم من عملية تقليص ميزانية التسيير، بالرغم من التأثير السلبي الكبير لهذا القرار على مستوى عدة مؤشرات حيوية في القطاع، وعلى رأسها العرض التربوي. وامتد هذا الاختيار طيلة السنوات التي تولت فيها هذه الحكومة تدبير الشأن العام. ويكفي أن نشير هنا إلى أن قانون ميزانية سنة 2016 حمل المزيد من التخفيضات لميزانية التسيير في قطاع التعليم بما يناهز 5 مليار درهم، لتصبح ميزانية التسيير المخصصة للقطاع أصغر بخمس مرات من التي كانت قبل مجيء الحكومة. بحسب خبراء من مديرية الشؤون المالية بوزارة التربية الوطنية. كل هذا من أجل أن تحافظ الحكومة على خط ائتماني من صندوق البنك الدولي في حدود 5 مليار دولار، والذي يشترط الإبقاء على معدل النمو في حدود 3 في المئة وعجز في حدود 3.5 في المئة وتضخم في حدود 1.7 في المئة.
وبالرغم من مشاركة الحكومة والأحزاب المشكلة لها في النقاش الوطني لإصلاح المدرسة، فإن هذا لم ينعكس على مستوى توفير التمويل اللازم للخطة التي أنتجها المجلس الأعلى للتربية والتكوين. حيث استمرت الحكومة في مسلسل تخفيض ميزانيات الاستثمار على مدى خمس سنوات متواصلة. ولم يتم استثناء قطاع التعليم بالرغم من وضعه كـ«أسبقية وطنية»، وهو الوضع الذي سمح لعدة منظمات دولية باستباحة القطاع. وفي ظل انعدام شروط الحكامة الجيدة في قطاع التعليم، فإن هذه المنظمات أصبحت تشرف مباشرة على مشاريع الإصلاح التي اقترحها المجلس. وهذا لأول مرة منذ الاستقلال.
عودة المنظمات الدولية
تصريح الوزير السابق للقطاع لا يعني فقط خوصصة القطاع، سيما على مستوى رهان توسيع العرض التربوي، وتحمل تكلفة تحقيق الجودة، على مستوى التدريس وتكوين المدرسين، بتمكين القطاع الخاص من وضع أكبر من «الشراكة»، بدليل عدم قدرة الحكومة على فرض النظام الأساسي المنظم لهذا القطاع والمعروف بـ006. ولكن بالسماح للمنظمات الدولية المختلفة، باستباحة القطاع، كل بحسب أجندته الخاصة. هكذا يعرف القطاع منذ 2015 عملية اجتياح غير مسبوقة من طرف المنظمات الدولية المختلفة، بشكل لم يشهده القطاع منذ الاستقلال. خبراء وزارة التربية الوطنية الذين اتصلتم بهم «الأخبار»، أكدوا حقيقة أن انعدام التواصل بين رئيس الحكومة ووزير التربية الوطنية، استفادت منه منظمات دولية كثيرة، رأت في بعض توجهات خطة «التدابير ذات الأولوية» أرضية مناسبة لتوجهاتها، مستندين إلى حقائق مستقاة من دهاليز وزارة التربية الوطنية الآن، حيث أضحى ممثلو هذه المنظمات يشرفون عمليا على قيادة وتدبير كل مشاريع ما بات يسمى بالتدابير ذات الأولوية، والتي يفترض أنها مستقاة من الرؤية الاستراتيجية للمجلس الأعلى للتربية والتكوين. ويتعلق الأمر بمنظمات، بعضها تابع للسفارات الأجنبية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا وفرنسا، ثم منظمات تابعة للأمم المتحدة وأخرى تابعة لأبناك عالمية. وهو تحول مثير للانتباه في تعاطيها مع القطاع، حيث لم يعد تدخلها استشاريا وتمويليا كما كان، بل أضحى تدخلا مباشرا. لتنفيذ كل المشاريع، سواء المتعلقة بتجديد البرامج والمناهج، أو تكوين المدرسين أو توسيع العرض التربوي والحكامة وإدماج التكنولوجيا في التعليم.
خبراء في وزارة التربية الوطنية سجلوا أن التحول في تعاطي المنظمات الدولية مع القطاع، جاء بعد رفض مجموعة من المانحين الدوليين منح قروض أخرى لإصلاح التعليم، سيما في ظل غياب شروط الحكامة الجيدة في القطاع. ثم توجه الحكومة إلى تخفيف النفقات العامة الموجهة له. وعدم قدرة الحكومة على فرض سياستها التي أعلنت عنها في التصريح الحكومي جعل القطاع خاليا تماما بخلاف ما كان عليه الأمر في مرحلة البرنامج الاستعجالي.
وعن الفرق بين مرحلة هذا البرنامج والمرحلة الحالية، أكدت نفس الجهة، أن المغرب في هذه المرحلة عمل على توفير السيولة المالية من مختلف المانحين الدوليين، وبتدخل شخصي من الملك محمد السادس. وقد تولى خبراء وزارة التربية الوطنية تنفيذ مختلف المشاريع التي تضمنها، مع الاعتماد على مكاتب الدراسات لتقديم المشورة أو الدراسات أو الاحصاءات، والاعتماد عليها في اتخاذ القرارات، لكن ومنذ مجيء هذه الحكومة، وفي ظل عدم قدرتها على إرجاع الديون التي حصل عليها المغرب لتمويل هذا البرنامج. لأن تخفيض ميزانية التسيير يمس بشكل مباشر القدرة على رد الديوان المتراكمة، ثم وفي ظل الإحراج الكبير الذي يشعر به المسؤولون عن القطاع، لتفعيل مبادئ الحكامة الجيدة، بما في ذلك توضيح حصيلة الافتحاصات التي عرفها، والتي أظهرت اختلالات كبيرة على مستوى التدبير، اتخذت في حالات كثيرة شكل التبذير والتربح، فإن المنظمات الدولية المتدخلة في قطاع التعليم تبنت أسلوبا مغايرا للتدخل، وهو الإشراف المباشر على المشاريع التي تتطلب اعتمادات مالية، وذلك عبر الاستعانة بـ«خبراء» مغاربة، سبق لهم أن اشتغلوا في القطاع، وأنشؤوا مكاتب دراسات خاصة، يضعون خبراتهم في خدمة هذه المنظمات.
كندا وفرنسا والولايات المتحدة
تواجد هذه الدول، وخاصة عبر خبرائها الرسميين المعتمدين في منظماتها، في قطاع التعليم المغربي ليس جديدا، فالولايات المتحدة الأمريكية تتدخل عبر بوابة «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» والمعروفة اختصارا بـUSAID والتي تبنت برنامجا سنة 2009 سمي «إتقان»، وهو برنامج يتدخل في القطاع على عدة مستويات. وعلى رأسها «الارتقاء بالتكوين وبالتدبير بالمشروع وبإسهام الرواد التربويين والاجتماعيين». ومايزال معمولا به إلى اليوم. ومؤخرا تبنت الوزارة مع الوكالة أيضا مشروعا آخر اسمه مشروع «رصيد» لإنجاز برنامج الارتقاء بالمهارات القرائية للمتعلمين والمتعلمات في سلك التعليم الثانوي الإعدادي بمختلف الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. أما فرنسا، وعبر مصلحة تابعة للسفارة الفرنسية تسمى بـSCAC أي مصلحة التعاون الثقافي فتتدخل في كل ما له علاقة بتعليم الفرنسية، سواء في التعليم المدرسي أو الجامعي، بما في ذلك المناهج والبرامج وتكوين المدرسين. ويتواجد حاليا خبراء فرنسيين في مختلف المديريات المركزية التي لها علاقة بهذه المجالات، مستعينين بـ«وسطاء» مغاربة في الميدان. أما كندا فتتبنى مشروعا يسمى «باجيسم» ويتعلق بتدبير المؤسسات التعليمية، وتكوين أطر الإدارة التربوية. يضاف إلى هذا، منظمات دولية كاليونيسكو ومكاتب تابعة لصناديق مانحة. والملاحظة التي ينبغي تسجيلها هنا، هي أن كل هذه المشاريع تشرف عليها سفارات هذه الدول، وكلها كانت تعمل في عهد الوزير السابق محمد الوفا، بالرغم من كل خرجاته الإعلامية ضد ما هو أجنبي. وبالتالي فحديثه عن كون قطاع التعليم يشكل عبئا ثقيلا على الدولة، هو توصيف لواقع. واقع تخلت فيه الحكومة عن قطاع التعليم لصالح منظمات ودول أجنبية.