بشير البكر
بدأت تتشكل بوضوح، وعلى نحو سريع، ملامح تحولات استراتيجية بالشرق الأوسط، تحكمها مصالح جديدة. ومن أهم سمات التطور الذي يحصل، تراجع حضور الولايات المتحدة وأوروبا، وتزايد النفوذين الصيني والروسي. وتشكل زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى الرياض، وانعقاد ثلاث قمم على التوالي، سعودية صينية، خليجية صينية، وعربية صينية، تطورا مهما وحدثا غير مسبوق في منطقة لا تزال أمريكا تحظى معها بعلاقات تاريخية متينة متعددة الأبعاد. ولهذا السبب، أبدت واشنطن رد فعل غاضب على لسان منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، الذي اعتبر التطورات «لا تؤدي إلى الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد التي تحاول الولايات المتحدة، وشبكتنا الواسعة من الحلفاء والشركاء، الحفاظ عليها». ويتضح من ردود الفعل الأمريكية على التوجه السعودي نحو الصين أن أبواب الخلافات باتت مفتوحة مع أمريكا وأوروبا، خصوصا أنهما دخلتا في حرب اقتصادية مع بكين، وبدأتا منذ جائحة كورونا مراجعة العلاقات الاقتصادية معها، ونقل الشركات الكبرى والمصانع والمخابر، التي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، وتوقف توظيف رؤوس أموال أمريكية وأوروبية في المشروعات الصينية العملاقة، وصارت الحركة تسير في الاتجاه المعاكس. كذلك بدأت عمليات عرقلة علنية مدروسة للاستثمارات الصينية بأمريكا وأوروبا، وتتخذ بعض دول أوروبا مواقف رافضة لتدفق رؤوس أموال صينية لأسواقها، كما حصل بألمانيا التي منعت شراء الصين ثلاث شركات ألمانية، في نونبر الماضي، تحت مبرر مخاوف بشأن الأمن القومي، وتدفق أسرار التكنولوجيا الحساسة إلى بكين.
ويبدو أن نتائج سياسة الانكفاء الأمريكي عن الخليج العربي والشرق الأوسط، التي بدأت في الولاية الثانية للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما (2009- 2017)، قد بدأت تظهر بقوة من خلال توجه دول بالمنطقة، للبحث عن شراكات جديدة في ظل التطورات الإقليمية المتسارعة والحرب الروسية على أوكرانيا، وحاجة هذه الدول إلى التكنولوجيا الحديثة، المدنية والعسكرية، وتطوير بناها التحتية الاستراتيجية من موانئ ومطارات وشبكات اتصالات. كما تجدر الملاحظة أن هذا التحول يأتي بعد تخلي واشنطن عن جزء من التزاماتها الأمنية تجاه السعودية خلال حرب اليمن، وعدم تقديم أسلحة حديثة لمواجهة الهجمات على المطارات والمنشآت الاقتصادية، مثل شركة آرامكو، بالصواريخ البالستية والطائرات المسيرة في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وتعلن السعودية أن هدف مساعيها بالانفتاح على الصين تنويع العلاقات الاقتصادية والتجارية، وفق قوانين المنافسة، ولكن الأمر لن يلبث أن يتجاوز ذلك إلى نشوء تفاهمات في أكثر من جانب، ولا يمكن أن يكون الاقتصاد محايدا في عالم الحروب التجارية شديدة الاستقطاب، ومن غير المستبعد بروز محاور جديدة، كما حصل داخل «أوبك بلس»، قبل شهرين، برفض السعودية طلب واشنطن زيادة إنتاج النفط، بل اتفقت مع موسكو على العكس، وقررت خفض الإنتاج. وحصل الأمر نفسه، بالنسبة إلى تركيا، الدولة العضو بحلف الأطلسي، والشريكة مع الاتحاد الأوروبي في سلسلة من اتفاقات التعاون. ومع ذلك، رفضت أنقرة التقيد بالعقوبات الغربية والاستجابة للحلف بخصوص حرب روسيا على أوكرانيا، بل حاولت الوقوف في الوسط، ولكنها من الناحية الفعلية أقرب إلى روسيا التي صارت تربطها بها علاقات متينة، وتفاهمات سياسية وعسكرية ثنائية بسوريا على وجه الخصوص، حيث تتشارك موسكو وأنقرة وطهران صيغة أستانة، التي هندست الوضع السوري بمراعاة مصالح الدول الثلاث واعتباراتها.