كثيرا ما يصعب التنبؤ بتحولات في الواقع الدولي مع أن إرهاصاتها تكون قد بدأت في التشكل، فمن كان مثلا يتنبأ بما حدث بعد قرابة سبع سنوات من وصول غورباتشوف إلى السلطة في الاتحاد السوفياتي؟
ولا شك في أن ما يدور اليوم من صدامات عسكرية في أوكرانيا وثيق الصلة بالحديث عن نظام دولي جديد، أعلنت روسيا والصين ما يمكن اعتباره «بيانَه التأسيسي»، قبيل العملية العسكرية الروسية بأيام، في البيان المشترك الذي صدر عن القمة الروسية الصينية. ولا شك في أن نتائج العملية العسكرية سوف تكون بالغة الدلالة على مستقبل نموذج القيادة في النظام الدولي، فانتصار المعسكر الغربي سوف يطيح بآمال روسيا في أن تتربع مع آخرين على قمة النظام، كما كان الحال إبان نموذج القطبية الثنائية، حتى ظهر غورباتشوف اعتبارا من عام 1985، فاتبع سياسة وفاق مع الولايات المتحدة أدت إلى تفكك الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991، بينما يحقق انتصار روسيا في الحرب آمالَها في استعادة وضعها القيادي السابق على قمة النظام الدولي.
ويجب أن يكون واضحا أن الجدل حول مستقبل نموذج القيادة في النظام الدولي لم يبدأ بالحرب في أوكرانيا، وإنما تَواكبَ مع مؤشرات لا شك فيها على تآكل نموذج القيادة الأحادي الذي انفردت بموجبه الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي، فبعد أن مَثَّلَ الغزو الأمريكي للعراق ذروة الانفراد بالقيادة تعثرت السياسة الأمريكية وأفضت إلى نتائج معاكسة لأهدافها من الغزو، ثم توالت المؤشرات على واقع دولي جديد بالصعود الروسي في ظل قيادة بوتين والتقدم الدؤوب للصين نحو القمة الدولية. وبلغ تآكل القيادة الأحادية الأمريكية ذروته بالخروج من أفغانستان، والذي بدت أولى ملامحه في الاتفاق مع «طالبان» في فبراير 2020 في ظل رئاسة دونالد ترامب، واكتملت في أولى سنوات ولاية الرئيس الحالي.
وهكذا فإن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، منذ فبراير 2022، لم تكن سوى تعبير عسكري عن محاولة ترجمة كل التطورات السابقة إلى واقع دولي جديد. ومع أن نتائج الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا ستكون بالغة الدلالة على تحولات جذرية في النظام الدولي، فإن ما صاحب هذه الحرب من تفاعلات لا يقل دلالة في أهميته، وأتخير من هذه التفاعلات ثلاثة.
وأول هذه التفاعلات هو ما كشفت عنه الحرب من علاقة تعاضد وثيقة بين روسيا والصين لم يعد ينقصها سوى التحالف العسكري، مع ملاحظة التعاون بينهما في إجراء المناورات المشتركة، وقد عززت السياسة الأمريكية هذه العلاقة باستفزازاتها المتكررة للصين في مسألة تايوان. وثاني هذه التفاعلات، ما بدا من حرص أوروبي على الحفاظ على العلاقة مع الصين، رغم تعارض السياستين الصينية والأوروبية تجاه ما يجري في أوكرانيا. وقد يمثل هذا في حد ذاته مؤشرا على تململ أو عدم رضا أوروبي عن الإدارة الأمريكية للشؤون العالمية.
أما النوع الثالث من التفاعلات فهو تحرك القوى الإقليمية في إطار هذه الحرب، ولعل أبرز مثال عليه هو موقف قوى عربية وازنة منها، بالحياد أولا ورفض الانصياع للرغبة الأمريكية في زيادة إنتاج النفط لاعتبارات سياسية ثانيا، ناهيك بانفتاح هذه القوى على محيطها الإقليمي، بما يعاكس المخططات الأمريكية.
وتحتاج كل هذه التطورات إلى إمعان نظر، لعلها تكشف عن ملامح أوضح لنظام دولي جديد.
أحمد يوسف أحمد