تحقيق..المفاحم القاتلة بتارودانت
ورشات تنشر الربو بين الأطفال وتحول الفضاء إلى سواد
«تروا دان»، هكذا صاحت سيدة كانت تغسل أكواما من الملابس بجانب نهر يحاذي المنطقة، وهي عبارة بالأمازيغية تقصد من «الأولاد غرقوا»، بعدما كانوا بالقرب منها يسبحون ويستمتعون، قبل أن تختطفهم المياه بغتة ويجرفهم النهر، فصرخت والدتهم وهي تجري بجانب النهر «تروا دان تروا دان»، ومنه أخذ اسم «تارودانت»، كما تحكي الأسطورة.
وإذا كان أبناء السيدة قد اختطفهم النهر، في سالف الزمان، فإن مختطفا آخر يتربص اليوم بأبناء مداشر وجماعات تارودانت، وإن كان الأسلوب والطريقة يختلفان، إذ إن عملية «الاختطاف» في هذا الأوان أضحت تتم بسبب «معامل الفحم الخشبي» القاتلة والمنتشرة بين السكان وفوق سهول مناطق مشرع العين وتازمورت وأولاد محلة بإقليم تارودانت.
تارودانت: محمد سليماني
نجوى بوستة، طفلة في عمر الزهور، لا يتجاوز سنها ست سنوات، لم تنعم طيلة هذا العمر القصير بهواء نقي بمنطقة مشرع العين (12 كيلومترا جنوب تارودانت). منذ أن وضعتها والدتها جميعة الرازي، وجدت أمامها مشكلة أدخنة المفاحم الخشبية، فلم يكد يصل عمرها ثلاثة أشهر حتى أصيبت بضيق التنفس. وخوفا على حياة ابنتها، أسرعت الأم لأخذها إلى طبيبة متخصصة في أمراض الجهاز التنفسي، لتكتشف أن الطفلة أصيبت بمرض الربو، مرض ظل يلازمها طيلة حياتها، بل زاد من معاناة أسرة فقيرة أصلا. الأب كهل يبلغ من العمر عتيا، لم يعد قادرا على العمل، فيما تشتغل الأم جميعة المغلوبة على أمرها في الضيعات الفلاحية، وما أن تتسلم مستحقاتها على رأس كل 15 يوما، حتى تسارع الخطى إلى الصيدليات لتقتني أجهزة الاستنشاق لابنتها نجوى. نوعان من أجهزة الاستنشاق تضعهما رهن تصرف الطفلة، يكلفها الأول مبلغ 115 درهما، فيما الثاني حوالي 45 درهما.
تحكي جميعة بنبرة حارقة وألم وحسرة، أن مرض الربو اقترب أيضا من ابنتها الثانية البالغة من العمر ثماني سنوات، وهو ما زاد من معاناتها من جديد. تقول جميعة، في لقاء مع «الأخبار»، وهي تذرف الدموع: «صحاب الفاخر يشدو الفلوس وأنا كنخسر بسبابهم الفلوس».
المعاناة نفسها تقاسيها الطفلة فاطمة الزهراء لمين ذات العشر سنوات، والتي تدرس بالمستوى الثالث ابتدائي. يحكي والدها تهامي لمين، بحرقة شديدة، كيف أن فلذة كبده أضحت تلازم أجهزة التنفس بشكل مستمر. يقول التهامي: «منذ ثلاث سنوات، أصبحت ابنتي فاطمة الزهراء تعاني من اختناق حاد في جهازها التنفسي، بحيث إنه كلما فاحت رائحة الدخان، تبدأ في الاختناق والبكاء الشديدين. وقمت بنقلها إلى طبيبة متخصصة في أمراض الجهاز التنفسي، حيث أضحت تستعمل بشكل يومي أجهزة التنفس، إضافة إلى أدوية أخرى. فبمجرد ما تفوح رائحة الدخان تبدأ عيناها في الاحمرار، وأحيانا تعود من المدرسة وهي تبكي بكاء شديدا يصاحبه سعال حاد، وتقوم بحك عينيها بسبب رائحة أدخنة الفحم الخشبي».
نجوى وفاطمة الزهراء ما هما إلا عينة من بين عشرات الأطفال والنساء والشيوخ، أزمت حياتهم مفاحم الخشب.
مفاحم تقض مضجع السكان
يقول عبد الرحيم بن ستين، الناشط الجمعوي، إن «مشكل المفاحم الخشبية مشكل قديم شيئا ما، يعود إلى ما يزيد عن 12 سنة تقريبا، لكن في البداية لم يكن يتجاوز الأمر سوى اثنين إلى ثلاث نقط للفحم الخشبي، لكن منذ سنة 2013، وإلى الآن، تزايدت هذه المعامل بشكل رهيب، حيث يتراوح عددها الآن ما بين 40 و50 معملا تقريبا. وتنتشر هذه النقط ما بين ثلاث قيادات هي مشرع العين، أولاد محلة وتازمورت، وهي قيادات تربط بينها حدود تلاق بإقليم تارودانت». ويضيف عبد الرحيم، الذي عاش مرارة الأزمة، «المشكل أن دوار «أضوار» التابع لجماعة مشرع العين هو الأكثر تضررا من هذه المفاحم بالدرجة الأولى، لأن هذا الدوار الذي تقطنه حوالي 4000 نسمة، يقع في منطقة تلاق ما بين القيادات الثلاث التي تعرف انتشارا للمفاحم، وبالتالي فعند هبوب الريح من أي اتجاه، فإنه يأتي بالأدخنة ورواسب ومسحوق الفحم إلى هذه المنطقة. كما يعاني دوار «عين المديور» التابع للجماعة ذاتها من هذا المشكل بدرجة ثانية».
بحثا عن هواء نقي..
بالرغم من أن المنطقة فلاحية بامتياز، كلها سهول وأراض منبسطة، تحيط بها الخضرة من كل مكان، والضيعات المنتشرة على مرمى العين، تؤتي أكلها كل حين من أشهى الخضر والفواكه، إلا أن مقذوفات معامل صنع الفحم الخشبي تقض مضج السكان وحتى الزوار، فروائح احتراق الفحم تغلب روائح الأزهار والخضر والنبات، فلا رائحة غير رائحة الأخشاب والفحم المحترق. أما تمتيع العين برؤية منظر خلاب، فذاك أضحى بعيد المنال، أيضا، إذ إن ألسنة الأدخنة المتصاعدة تغزو المكان وتحجب الرؤية وتعيق استمتاع العين بخضرة المكان. ففي هذه المنطقة، حيث تلتقي حدود مجموعة من الجماعات القروية التابعة لإقليم تارودانت، وهي أولاد محلة، باشوية سبت الكردان، مشرع العين، وتازمورت، تتوزع مجموعة من الدواوير التي تؤوي نسبة سكانية لا بأس بها، يتجاوز بعضها 4000 نسمة. لا طلب للسكان هنا غير الاستمتاع بهواء نقي نظيف، وإبعاد كل وحدات صنع الفحم الخشبي التي انتشرت كالفطر بالمنطقة في السنوات الأخيرة. ففي بدايات سنة 2000، لم يكن عدد هذه الوحدات بالمنطقة يتجاوز وحدتين إلى ثلاث، أما اليوم فقد تضاعف الرقم مرات، وأصبح عددها ما بين 40 و50 وحدة تشتغل بشكل مستمر. فأمام استفحال الوضع بشكل مثير، دون أن يجرؤ أحد على وقف هذا «العبث»، لم يجد بعض سكان المنطقة من سبيل غير الهجرة من المنطقة إلى مناطق أقل تضررا، هربا من هذا «الموت القاتل»، الذي يتربص بهم، بينما المغلوبون على أمرهم، ينتظرون فرجا من أي جهة متدخلة، بعد سنوات من المعاناة الشديدة. معاناة يصفها الناشط الجمعوي عبد الرحيم بن ستين، الذي اتخذ ملف وحدات صنع الفحم الخشبي للترافع من أجله منذ سنوات. «إننا نعاني أشد المعاناة، فما أن تصل الساعة إلى العاشرة ليلا، حتى تتصاعد الأدخنة، وتتجه نحو منازل الدوار، وتزداد الوضعية سوءا خلال فصل الشتاء البارد، حيث إن دخان الاحتراق غير الكامل للخشب لا يصعد نحو السماء، بل ينزل نحو المنازل مباشرة، عكس الصيف الذي تخف فيه حدة المشكل. وانطلاقا من العاشرة ليلا تصبح منازل الدوار غير مستساغ البقاء فيها، بحكم رائحة الدخان الخانقة التي تسكنها».
مرض الانسداد الرئوي المزمن
تجمع مختلف الأبحاث والدراسات الطبية على أن التعرض للدخان يؤدي بشكل مباشر إلى ضيق التنفس في البداية، قبل أن يتطور بعد ذلك، في حال استمرار التعرض للدخان، إلى الإصابة بمرض الانسداد الرئوي المزمن أو الربو، وتصاحب هذا المرض أعراض أخرى لمضاعفات صحية. وبالمنطقة التي تنتشر بها ورشات صنع الفحم الخشبي، يؤكد الناشط الجمعوي وابن المنطقة، عبد الرحيم بن ستين، «أصيب عدد كبير من سكان المنطقة بأمراض الحساسية، وخصوصا مرض الربو. ففي السابق كانت حالات قليلة جدا مصابة بهذا المرض ونادرة، غير أنه، في السنوات الأخيرة، ومنذ تكاثر معامل الفحم الخشبي، ازداد عدد المصابين بمرض الربو، سواء في صفوف الكبار أو الصغار، والسبب هو روائح الفحم الخشبي التي ساهمت في المشكل. فعندما تدخل هذه الأدخنة إلى المنازل تقوم بخنق غير المصابين بالربو، أما المصابون بالمرض، فهم يعانون أشد المعاناة. وبحسب بعض التقديرات، فإن عدد المصابين بالربو يتجاوز 40 حالة، بالرغم من أن عددا كبيرا من السكان حالاتهم غير مشخصة بعد، ومن المحتمل أن يكونوا مصابين. أما المصابون، فإنهم الآن يستعلمون جهاز التنفس بشكل يومي».
ومن أجل معرفة خطورة هذا المرض، وعلاقة احتراق الخشب لصنع الفحم الخشبي بالمرض، اتصلنا بالدكتورة فاطمة كركوس، وهي طبيبة متخصصة في أمراض الجهاز التنفسي بالمستشفى الإقليمي لإنزكان. تؤكد الطبيبة أن من بين الأسباب الكبيرة لمرض الانسداد الرئوي المزمن أو الربو، التعرض للأدخنة، لذلك نجد نساء القرى مصابات بهذا المرض، لأنهن يقمن بطهي الأطعمة فوق نار الخشب بشكل دائم. وتضيف الطبيبة أن الدواء الذي يعطى للمصابين لا يكون شافيا، وإنما فقط من أجل إبطاء وتيرة تطور المرض، خصوصا وأن المصابين لا يأتون للتطبيب إلا بعد تمكن المرض منهم، لذا تكون الوصفات الطبية فقط من أجل تخفيف حدته.
وأبرزت الطبية كركوس أن المصاب يصبح يعاني من ضيق التنفس ويبقى في حاجة دائمة إلى الأوكسجين، فضلا عن أنه يمكن أن يؤدي إلى أزمات تنفسية جد معقدة قد تصل إلى الإنعاش. ناهيك عن أن المرض قد يؤدي إلى مضاعفات صحية أخرى قد تصل إلى خطر الإصابة بأمراض القلب والحساسية واحمرار العينين.
واستنادا إلى منظمة الصحة العالمية، فإن مرض الانسداد الرئوي المزمن يقتل حوالي ثلاثة ملايين شخص سنويا عبر العالم.
قرارات منع معطلة
بعد تصاعد احتجاجات جمعيات المجتمع المدني، ومراسلتها لكل الجهات ضد ورشات صنع الفحم الخشبي، بادر رئيس جماعة المهادي إلى اصدار قرار جماعي رقم 01/2017، يتعلق بمنع إحداث مستودعات الفحم الخشبي فوق تراب الجماعة، وعلى النهج نفسه سار رئيس جماعة مشرع العين، الذي أصدر قرارا جماعيا يحمل رقم 01/2017، بتاريخ 19 أكتوبر 2017، يتعلق بمنع إحداث هذه المستودعات. وبتاريخ 15 و16 غشت 2017، انتقلت لجنة إقليمية مكونة من قياد كل من تازمورت، وأولاد محلة ومشرع العين، وممثل عن قسم الشؤون القروية، وممثل قسم التعمير والبيئة بعمالة تارودانت، وممثل المندوبية الإقليمية للصحة، ورئيسي المنطقتين الغابويتين لتارودانت وسبت الكردان، ومساعد بسرية الدرك، وممثل المصالح الفلاحية بالكردان، إلى مجموعة من الورشات المتخصصة في صنع الفحم الخشبي بالمنطقة. واكتشفت اللجنة أن بعض الورشات مرخصة وبعضها الآخر غير مرخص، وكلها مستغلة من قبل أشخاص لا ينتمون إلى الجماعات السلالية التي تقع فوق أرضها الورشات. وأبرزت اللجنة، في محضر معاينتها، أن هذه الورشات لها أضرار صحية وبيئية بفعل انبعاث الدخان. واقترحت اللجنة ضرورة التوقيف الفوري لجميع الورشات غير المرخصة، وسحب الترخيص من أرباب الورشات المرخصة من قبل إدارة المياه والغابات في أقرب الآجال، مع منع الترخيص والتجديد مستقبلا لهذه الوحدات الإنتاجية. غير أن قرار اللجنة الإقليمية، التي تشكلت بأمر من عامل تارودانت، اصطدم برفض إدارة المياه والغابات الانصياع للقرار. وبررت ذلك رسالة للمدير الإقليمي للمياه والغابات بتارودانت بتاريخ 17 دجنبر 2018، مشيرا إلى أنه من الواجب استصدار قرار قانوني من الجهة المختصة، ليكون مرجعا ومستندا للمياه والغابات من أجل منع استصدار رخص تفحيم العود الصادر عن الأشجار الفلاحية، رغم اعتراف المياه والغابات، في رسالتها، بأن لتفحيم الخشب أضرارا على السكان. وأشارت الرسالة إلى أن ورشات الفحم تستعمل عودا غير غابوي، وإنما عود الضيعات الفلاحية، وأنه لا يوجد نص قانوني بالتشريع الغابوي يمنع عملية تفحيم الأشجار الفلاحية المثمرة (غير الغابوية) بالأملاك الخاصة.
أرباب مفاحم يتبرؤون
في الوقت الذي صعّدت جمعيات المجتمع المدني بالمنطقة لهجتها ضد ورشات صنع الفحم الخشبي، اعتبارا لما تعتبره أضرارا كبيرة تسببها أدخنة هذه المعامل ومعاناة متواصلة، قام أرباب ورشات صنع الفحم بالاتحاد، حيث التأموا في جمعيات من أجل الدفاع عن مصالحهم. ومن أجل معرفة حقيقة الوضع عن كثب، التقت «الأخبار» مع ألحيان مولاي حفيظ، وهو صاحب ورشة لإنتاج الفحم، وفي الوقت ذاته هو رئيس «جمعية التنمية لإنتاج الفحم الخشبي» بمنطقة سبت الكردان، والتي تنضوي تحت لوائها 20 ورشة لإنتاج الفحم الخشبي.
ينفي ألحيان نفيا قاطعا أن تكون لهذه الورشات أي أضرار على صحة الإنسان، مضيفا أنه «كانت هناك دراسات أجريت على هذا الفحم منذ سنوات في مناطق متعددة، ولم يثبت أن هناك ضررا تسببه على صحة الإنسان». وأضاف ألحيان أنه «إذا كان لها ضرر ما، فإن من سيصاب أولا هم العمال الذين يشتغلون في هذه الورشات، والذين يتراوح عددهم في كل ورشة ما بين 10 و40 عاملا، حسب رأسمال كل ورشة». وبخصوص الحملة الاحتجاجية التي قام بها سكان دواوير الجماعات المتضررة التي تتواجد بها هذه الورشات، أشار ألحيان إلى أن الأمر «لا يعدو أن تكون له أبعاد سياسية فقط، خصوصا وأن هذه الورشات تبعد عن السكان بما بين 5 و7 كيلومترات، فضلا عن أن الورشات التابعة للجمعية تشتغل من السابعة صباحا إلى السابعة مساءا، وبشكل قانوني، حيث نتوفر على التراخيص القانونية المؤطرة».