تحرير العلاقة بين المثقف والسلطان
تحرير العلاقة بين المثقف والسلطان بات أمرا ملحا، بعدما لاحت بوادر عدة أشاعت قدرا من الالتباس ينذر بإهدار دور المثقف ومرجعيته الوطنية والتاريخية.
علاقة السلطة بالمثقفين في مصر مرت بأطوار عدة خلال الستين سنة التي أعقبت ثورة 1952. ففي المرحلة الناصرية كانت احتفالات عيد العلم مناسبة لتكريم المتفوقين من أهل العلم. وفرصة للرئيس عبد الناصر لكي يخاطب المثقفين ولكي يستمع إلى بعضهم. وفي أكثر من مناسبة فإنه عبر عن تقديره الشخصي لعدد منهم مثل الأساتذة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وخالد محمد خالد، أما الرئيس أنور السادات فقد كانت علاقته متوترة معهم. تجلى ذلك بصورة واضحة في شهر يناير عام 1973 حين وجه إليه المثقفون بيانهم الشهير الذي كتبه الأستاذ توفيق الحكيم ووقع عليه أهم مثقفي تلك المرحلة: نجيب محفوظ والدكتور علي الراعي والدكتور لويس عوض وأحمد بهاء الدين وألفريد فرج وثروت أباظة ورجاء النقاش وغيرهم كثيرون.
وفي البيان عبر المثقفون عن قلقهم إزاء الاعتقال إضافة إلى الغليان و«القرف» الذي يستشعره المواطنون في مصر في ظل ما سمي بحالة اللاسلم واللاحرب واستمرار الحديث عن «المعركة» دون أن تكون هناك بادرة تنبئ بقرب حدوثها، حتى أصبحت الكلمة أقرب إلى المهزلة، وفقدت قوتها وفاعليتها بل وصدقها. كما دعا البيان إلى إطلاع الناس على الحقائق وإلى إطلاق حرية الرأي والفكر والمناقشة.
أزعج البيان السادات الذي وجد فيه تقريعا له ونقدا لسياسته، فعبر عن غضبه بمنع ستين شخصا بينهم أهم من وقعوا عليه من الكتابة في الصحف، حتى الأفلام التي كانت مستمدة من قصص الأستاذ نجيب محفوظ منعت من دور العرض. وقبل اغتياله كان غضب السادات قد بلغ ذروته، فأصدر أوامر في عام 1981 باعتقال أكثر من 1500 شخص من معارضي اتفاقيات كامب ديفيد مع الإسرائيليين، وكان من بينهم عدد غير قليل من المثقفين. كما وجه بإقصاء عدد آخر من الصحفيين ونقلهم إلى وظائف حكومية أخرى (كنت واحدا ممن نقلوا إلى مصلحة الاستعلامات).
الموقف اختلف نسبيا في عهد الرئيس مبارك الذي أطلق سراح معتقلي السادات. ذلك أنه خلال سنوات حكمه الثلاثين اتبع إزاءهم سياسة الإغواء والترويض، وحقق بعض النجاح في ذلك. لكنه لم يخف ضيقه بآرائهم في بعض لقاءاته التي كانت تتم في افتتاح معرض الكتاب. وفي آخر عهده برزت فكرة انتقاء مجموعة من المثقفين المرضى عنهم ودعوتهم للحوار المباشر معه. ونشرت الصحف آنذاك كتابات نفر منهم أشادوا باللقاء واعتبروه نموذجا للحوار بين السياسة والثقافة (الأهرام 2/10/2010). وقد شارك بعض هؤلاء في الاجتماع مع الرئيس السيسي ورددوا فيما كتبوه نفس الأفكار والعبارات التي ذكروها في أعقاب لقائهم مع مبارك.
في عهد الرئيس السيسي ذهبت الأمور إلى أبعد، ذلك أن لقاءاته مع بعض المثقفين تكررت. فقد اجتمع بمجموعة منهم أثناء ترشحه للرئاسة، ثم التقى بهم مرتين بعد تولي منصبه. وذكرت الأنباء أنه سيلتقي معهم شهريا بعد ذلك، واللقاء الأخير الذي نحن بصدد الحديث عنه ترتبت عليه تكليفات تنفيذية تمثلت في تشكيل مجموعات العمل التي سبقت الإشارة إليها. وعهد إليها ببحث بعض القضايا العامة، التي منها ما هو من اختصاص بعض مؤسسات الدولة ومنها ما مكانه المؤسسات المنتخبة مثل مجلس النواب أو نقابة الصحفيين.
المؤشرات تستحق الرصد، لأن أمورا كثيرة تغيرت خلال الأربعين عاما التي أعقبت صدور بيان المثقفين في عام 1973. فالإجماع الوطنى الذي كان سائدا آنذاك حل محله الاحتقان والانقسام الذي نشهده في مصر الآن. وإلى جانب الاختلاف في قامات المثقفين وأوزانهم، فإن مثقفي بيان 1973 كانوا انتخاب المجتمع ومعبرين عن ضميره. أما من وصفوا بأنهم مثقفون في اللقاء الأخير وما سبقه فهم انتقاء إدارات التوجيه المعنوي وأغلبهم من فريق الموالاة للسلطة، الذين ضم إليهم بعض الشخصيات التي تتمتع بالاحترام، والأولون كانوا مبادرين وغاضبين ودعوتهم الأساسية انصبت على ضرورة مصارحة الشعب وإطلاق الحريات العامة. والآخرون كانوا مدعوين وليسوا مبادرين ولم نعرف أنهم انطلقوا من موقع الاحتجاج والغضب.
وقيل لنا إنهم سينتقلون من موقع «التنظير» إلى طور المشاركة في وضع خريطة عمل تستعين بها السلطة. وبذلك تحول «الاحتجاج» في خطاب الأولين إلى «احتواء» في مهمة الآخرين.
إذا صح ذلك التحليل فإنه يثير عديدا من الأسئلة المهمة، التي تعيد إلى الواجهة تعريف المثقف ومعايير شرعيته وطبيعة دوره وحدود علاقته بالسلطة. بعض هذه الأسئلة تقليدية وحسم أمرها إلى حد كبير منذ عقود. إلا أنه في أجواء الهرج الثقافي والخواء السياسي الراهنين اختلت المعايير وتداخلت الحدود، حتى صرنا مضطرين للعودة إلى التذكير بالبديهيات وفتح ملفات القضايا التي تم حسمها. فثمة كلام كثير في تعريف المثقف، الذي وصفه المفكر العراقي هادي العلوي بأنه الذي يتميز بعمق الوعي المعرفي والوعي الاجتماعي. وفرق الفيلسوف الإيطالي انطونيو جرامشى بين المثقف العضوي الذي ينشد التغيير من خلال مشاركته في النضال السياسي والاجتماعي، وبين المثقف النفعي وهو الانتهازي الذي يوظف قدراته ومعارفه لركوب كل موجة، وإدوارد سعيد المثقف الفلسطيني البارز قدم له تعريفا محكما، ترجمه الشاعر مريد البرغوثي استنادا إلى ما أورده الدكتور سعيد في كتابيه «تمثلات المثقف» و«المثقف والسلطة» إذ عرفه بأنه «ذلك الموهوب الذي يقوم علنا بطرح الأسئلة المحرجة»، ويصعب على الحكومات أو الشركات استقطابه، لأنهم لو تمكنوا من استقطابه فقد المثقف بعده النقدي وخان نصه الإبداعي. كما وجب عليه مواجهة كل أنواع التنميط والجمود.
لأن المثقف عموما لديه الفرصة لأن يكون عكس التيار. فهو الذي يمثل المسكوت عنه وكل أمر مصيره النسيان أو التجاهل والإخفاء. لأن المثقف الحق لا يمثل أحدا، بل يمثل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها، فهو يمثل نبض الجماهير، وهو الذي لا يقبل أبدا بأنصاف الحلول أو أنصاف الحقيقة. هو الشخص الذي يواجه القوة بخطاب الحق، ويصر على أن وظيفته هي أن يجبر نفسه ومريديه على الالتزام بالحقيقة. هو المثقف «المقاوم». الذي يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية. التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة».
في التراث الإسلامي إضافة مهمة إلى ما سبق، تشدد على استقلال المثقف وتضع قيودا على علاقته بالسلطة، صحيح أن الذين خاضوا في الأمر تحدثوا عن ضبط العلاقة بين الفقيه والسلطان، لكننا ينبغى ألا ننسى أن الفقيه كان في صدارة مثقفي تلك الأزمنة، باعتبار أنه لم يكن عارفا بدينه فقط وإنما بزمانه أيضا، ومن الفقهاء من قاد النضال السياسي ومارس دور المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي.
إذ خصص الإمام أبو حامد الغزالي بابا في كتابه «إحياء علوم الدين» عالج فيه ما يحل وما يحرم من مخالطة السلاطين وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام له ــ وفيه تحذير من تلك المخالطة وكراهة لها، باعتبارها من مواقف الفتن ونقل عن الإمام الأوزاعي قوله «ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا»، يقصد حاكما. كما استشهد بمقولة سحنون «ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال عند الأمير». ومقولة الفضيل «ما ازداد رجل قربا من ذوى سلطان إلا ازداد من الله بعدا».
أحتفظ بنص مقالة في الموضوع عنوانها «عن مثقفين ناقدين للمعنى» للكاتب السوري حازم نهار نشرتها صحيفة «الحياة» اللندنية في 24/12/2014. والعنوان واضح في إدانة تردد بعض المثقفين أو تواطئهم بعد الثورة مع النظام الحاكم في دمشق. في هذا الصدد فإنه استشهد بمسرحية الأديب السوري سعد الله ونوس التي نشرها في عام 1993 تحت عنوان «منمنمات تاريخية». موضوع المسرحية هو المواجهة التي حدثت عام 1400 بين تيمور لنك الغازي التتري وبين ابن خلدون القاضي والمؤرخ والعالم الاجتماعي المعروف. ذلك ان ابن خلدون بإدراكه لموازين القوى وبعد لقائه مع تيمور لنك رأى أنه لا جدوى من تحدي جبروت الطاغية الغازي، في حين أن علماء دمشق أفتوا بوجوب الجهاد دفاعا عن الحق مهما كان الثمن. وأراد سعد الله ونوس بمسرحيته أن يطرح على المشاهدين سؤالا عن رد فعل المثقف على الظلم، هل يجب أن يرفضه ويقاومه أم عليه أن يحسب نتائج رفضه ومقاومته ويجدد موقفه في ضوئها؟ وخلص الكاتب إلى أن المعرفة تقتضي مسؤولية على من يحملها، وأن الحياد في الثقافة أمام الظلم مرفوض، لأنه ينبغي أن يكون هناك تناسق بين الكلمات ومعناها.
فى ختام مقالته قال حازم نهار إن إدانة ونوس لتهرب ابن خلدون من مسؤوليته السياسية تتحدى الجميع. إذ قد يبدو في كثير من الأحيان أنه لا جدوى من احتجاج أو قول الحقيقة في مواجهة السلطان، لكن سعد الله يخبرنا بأن المثقفين يستطيعون أن يصنعوا فرقا، وأن إذعانهم للاستبداد أو حياديتهم أو انتهازيتهم ستؤدي إلى الدمار. والرسالة موجهة إلى الجميع للدرس والاعتبار.