تحالف قضائي ضد الفساد
بالفعل يوم «يستحق أن يسجله التاريخ»، كما قال محمد عبد النباوي، الرئيس الأول لمحكمة النقض، للتعبير عن لحظة توقيع المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للحسابات، أول أمس الأربعاء، مذكرة تعاون بين المؤسسات القضائية الثلاث، بهدف تعزيز الجهود المبذولة في مجال تخليق الحياة العامة ومكافحة كل أشكال الفساد. لا أحد يستطيع أن ينكر أن دور هذا التحالف القضائي في مكافحة الفساد سيكون حاسما وعلاجيا ووقائيا لا غنى عنه، لأن القضاء هو المؤسسة الوحيدة التي يقف رجالها وجها لوجه مع المتهمين بارتكاب جرائم الفساد في قاعات المحاكم، ولأنها المؤسسة الوحيدة المخول لها إصدار الأحكام والنطق بها مع تحمل تبعاتها. لذلك فالتصدي الفعال لأخطبوط الفساد يحتاج إلى أن تضرب الدولة بكل مؤسساتها سيما المؤسسات القضائية بيد من حديد، لتتخلص من ذلك الورم السرطاني الخبيث الذي يستشري في كيانات الإدارات العمومية والمؤسسات والمقاولات العمومية، والصفقات العمومية والسياسات العمومية ليصيبها بالتعفن والنزيف.
ورغم أن حكومتي حزب العدالة والتنمية أعلنتا، في خطاباتهما الانتخابية الحماسية وبرامجهما الحكومية التي حصلتا بموجبها مرتين على الثقة أمام البرلمان، الحرب على الفساد واستعدادهما لمكافحته وأعربتا عن جديتهما في اتخاذ بعض الإجراءات..، إلا أن كل تلك الأماني بقيت مجرد إعلانات للنوايا لا أقل أو أكثر بل سرعان ما تبخرت في الهواء، أمام تغلغل الفساد وسطحية التعامل معه، حتى جعلت عبد الإله بنكيران، الذي بنى مجده السياسي على شعار محاربة الفساد والاستبداد، يصرح في ذروة تغوله الحزبي والإعلامي أن «الفساد هو من يحاربني».
ولا ندري هل هذا الاستسلام الذي عبر عنه الحزب الحاكم بمكافحة الفساد كان مرتبطا بسوء نية أم هو ناتج عن عدم قدرة حقيقية على خوض الصراع. وفي كل الحالات فإن النتيجة كانت واحدة، الفشل السياسي المتواصل في تقليص رقعة التصرفات الفاسدة، بل والتراجع في التصنيف العالمي في محاربة الفساد من الرتبة 80 كان يحتلها في 2010 إلى الرتبة 86 مع نهاية ولاية حكومة الإسلاميين في 2021، وهذا التقدم إلى الوراء كان طبيعيا بعدما تم استبدال شعار محاربة الفساد بشعار عفا الله عما سلف، وتغيير مطلب «من أين لك هذا؟» بمقولة «ما خلاونيش ندير قانون تجريم الإثراء غير المشروع»، وتعويض قرارات الضرب على يد المفسدين بخطة وطنية لا تتجاوز وظيفة الإنشاء والاستهلاك الإعلامي وهذا ما أفقد المواطنين الثقة في عزم السياسيين على شن الحرب على الفساد.
ويبقى اليوم الأمل الأخير لاجتثاث ورم الفساد الذي يكلف دافعي الضرائب 5000 مليار سنتيم سنويا وفقدان 5 في المائة من الناتج الداخلي الخام، مرهونا على القضاء لما تتمتع به رقابته في مجال الإدارة ومن يد طولى للتحرك الذاتي ضد كل ما يمكن أن يصنف ضمن خانة الممارسات الفاسدة، وهذا لا يكون إلا في وجود قضاء قوي ويتوفر قضاته على الإمكانيات القانونية للتدخل وفي نفس الآن على الحماية من عدوانية الفاسدين لكي لا يتحولوا من منفذي القانون إلى ضحايا الفساد.