تجريف وتسطيح المشهد السياسي الفلسطيني
إبراهيم أبراش
يعاني الحقل أو المشهد السياسي الفلسطيني من حالة مريعة من التسطيح السياسي والفكري والثقافي، تسير في تواز مع عملية تجريف لحالة التحرر الوطني بقيمها وثقافتها ورجالاتها، بحيث لم تستطع كل أشكال البطولة والتضحية والمعاناة والصمود الشعبي التخفيف من وطأة هذا المشهد، الذي لم يؤثر سلبا على مسار قضيتنا الوطنية وصراعنا مع الاحتلال فقط، بل أيضا على نظرة العالم للشعب الفلسطيني، كما أتاح فرصة للبعض من العرب الشامتين والمتخاذلين، الذين ينتظرون الفرصة للتحرر من التزامهم القومي والأخلاقي والقانوني وتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل.
كان من الممكن أن يكون المشهد مقبولا وطبيعيا كنتيجة انتقال الشعب الفلسطيني من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة الاستقلال والدولة، إلا أن المفارقة الصادمة أن هذا المشهد يظهر في الوقت الذي تتكاتف فيه قوى اليمين الصهيوني وتتوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، مدعومة بتأييد شعبي يهودي واسع، وتأييد غير مسبوق من الإدارة الأمريكية، وبتوظيف خبيث لواقع فصل غزة وتحييدها من خلال الهدنة القائمة مع حركة حماس، لتنفيذ سياسة ضم الغور والمناطق الشمالية للضفة والمستوطنات، وذلك بهدف تصفية القضية الفلسطينية ووأد حل الدولتين بالرؤية الوطنية الفلسطينية.
دون التقليل من شأن تضحيات الشعب ومعاناته ومع كامل التقدير لأرواح الشهداء ومعاناة الأسرى في سجون الاحتلال، ومع تقديرنا للقلة الماسكين على الجمر والمشتبكين دوما مع الاحتلال بكل أشكال المقاومة السياسية والدبلوماسية والشعبية والفدائية، بالرغم من ذلك فإن المشهد السياسي الراهن مريع وملتبس على مستوى حالة الاشتباك مع الاحتلال، وهي المحك العملي لإثبات الجدارة الوطنية وليس مجرد خطابات الرفض العدمي، حيث زالت الفواصل والحدود أو التبست وغمت ما بين: اليساري واليميني، الثوري والرجعي، المثقف والعامي، الأجندة الوطنية والأجندة الخارجية، مشروع مقاومة ومشروع استسلام، مشروع إسلامي ومشروع وطني، مقاومة أم ارتزاق ثوري وجهادي، المال السياسي المشبوه والمال الوطني الحلال، السلطة والمعارضة، والتبست المفاضلة بين من هم في السلطة وبيدهم مفاتيح التمويل التي توفر الحد الأدنى من متطلبات الحياة المعيشية، وبين من هم خارج السلطة ويعارضون نهجها بالخطابات والتأكيد على التمسك بالثوابت الوطنية. .
هذه الحالة من التسطيح والتجريف نلمسها حتى على مستوى المؤسسات والقيادات. فلا توجد مؤسسة رسمية يتوافق عليها الشعب ويلتف حولها كمرجعية وعنوان، فلا إجماع على منظمة التحرير ولا على المجلس التشريعي ولا على الحكومة ولا على مؤسسة الرئاسة، وينسحب الأمر على الزعامات والقيادات، حيث الافتقار إلى القدوة بالرغم من وجود المئات، بل الآلاف من الأشخاص الذين يحملون لقب القائد: الوطني أو الفتحاوي أو الحمساوي أو الجبهوي أو الجهادي..
تاه عامة الشعب أو غالبيته واختلطت وارتبكت مداركه، وأصبح يعيش في حالة ألا يقين من كل شيء حتى تاريخه الوطني والنضالي وثوابته التي تربى عليها، ولا تشوب عدالتها شائبة أصبحت محل تساؤل عند البعض. عندما يقف المواطن الذي تم إفقاره وتجويعه مترددا وحائرا أمام مَن يقدم له الراتب أو (الكوبونة) أو منحة المائة دولار، ومَن يقدم له الشعارات والخطابات الوطنية والبندقية، فلا يمكن لومه إن اختار الراتب و(الكوبونة) والمائة دولار دون أن يسأل عن مصدرها وأدار الظهر للطرف الثاني، ليس هذا ردة وطنية أو كفرا بالنضال ولكن تمسكا بالحياة، والمسؤولية تقع على من أوصلوه إلى هذه الحالة من التعارض بين الحق والرغبة في المقاومة والنضال، ومتطلبات توفير قوت اليوم والعيش الكريم.
أيضا في ظل حالة التجريف والتسطيح أو من تمظهراتها، حالة الصمت المريب حول القضايا الوطنية الاستراتيجية: تحرير فلسطين، المقاومة بكل أشكالها، منظمة التحرير وضرورة تفعيلها، الوحدة الوطنية والمصالحة، في مقابل ذلك يغرق المجتمع في قضايا هامشية ومستجدة تم اصطناعها وتضخيمها عن عمد لإلهائه وإبعاده عن الحلقة المركزية للصراع، وعن السبب الرئيس لكل المشاكل والمعاناة التي يعيشها الشعب.
نعم، هناك صمت مريب وغياب مطلق لأي حديث عن استراتيجية وطنية لمواجهة الاحتلال وصفقة ترامب -نتنياهو، بالرغم من تشكيل لجان للبحث في الموضوع ووضع استراتيجية للمواجهة، أو تطبيق قرارات سابقة للمجلسين الوطني والمركزي، وهناك صمت مريب حول المصالحة الوطنية، سواء من الأطراف الفلسطينية أو من طرف رعاة ملف المصالحة، وخصوصا مصر وكأن هناك استسلاما تاما لواقع الانقسام واعترافا بأن إنهاء الانقسام لم يعد شأنا وطنيا داخليا، حتى الحديث عن منظمة التحرير وأهمية استنهاضها وتفعيلها تم تجاوزه، وخصوصا أن عددا من الفصائل المؤسسة للمنظمة باتت خارجها، والمنظمة عنوان الشعب وبيته المعنوي وموئل الشرعية التي من خلالها يتعامل العالم مع الشعب الفلسطيني، كما أنها خط الرجعة في حال إقدام إسرائيل على ضم الضفة وإنهاء الوجود الوطني للسلطة الفلسطينية، هذا ناهيك عن غياب أي حديث عن المقاومة المسلحة وحتى الشعبية ومسيرات العودة، سواء في الضفة أو غزة، وكأن التنسيق الأمني في الضفة والهدنة في غزة أطلقا رصاصة الرحمة على المقاومة، وبالتالي على حركة التحرر الفلسطينية.
هذا المشهد الذي يسيء للقضية الوطنية ويخرجها عن سياقها الحقيقي ليس وليد اللحظة، بل حالة تتمدد وتتراكم منذ سنوات، ولم تُوقف مساره النبرة العالية للخطابات الحزبية للمعارضة – وفي الحالة الفلسطينية التبس مفهوم المعارضة بالتباس مفهوم السلطة ومفهوم المقاومة- ولا قرارات المجلسين الوطني والمركزي وهي القرارات التي ما زالت حبرا على ورق، ولا تهديدات سلطة الأمر الواقع في غزة لإسرائيل بالويل والثبور وبالزحف القريب لتحرير المستوطنات وافتعالها حالات اشتباك مسلح مبرمجة وهزلية، فيما هي ملتزمة بهدنة صارمة مع الاحتلال… وكل هذه المحاولات البائسة عززت من حالة الانقسام، وزادت في تشويه المشهد السياسي والحياة الاجتماعية والثقافية .
هذه القرارات التي لا تنفذ والخطابات عالية النبرة والمتعالية عن الواقع أو منقطعة الصلة به وحالات التصعيد العسكري، التي تلحق الموت والدمار في قطاع غزة، ليس فقط أنها تزيد من تشويه المشهد السياسي، بل أيضا تثير السخرية عند المراقب الخارجي وعند العقلاء من الشعب، وتعمل على كي وعي الغالبية من البسطاء وتبقيهم معلقين في حالة انتظار لا أفق لها.