شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

تا شكون حنا؟

 

 

طرح الفلاسفة، على مر التاريخ الإنساني، أسئلة وجودية مختلفة. تساءل سقراط حول الفضيلة، وحاول أفلاطون تقديم نموذج للدولة بينما ربط ديكارت حقيقة الوجود بالشك المنهجي. تحظى الفلسفة الوجودية في بلادنا بمكانة مرموقة، فنحن نتساءل دائما عن كيفية وصول «البزناسة» للتمثيليات البرلمانية، ونبحث عن الربط المنطقي بين الأرقام الفلكية لفواتير الماء والكهرباء وبين «السميك»، ونقوم بعمليات استدلال عقلي حول طرق النجاة من الارتفاع الصاروخي لسبل العيش، أمام الانخفاض المستمر للحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.

تتجاوز الفلسفة المغربية سؤال اللغة عند الجابري، وهاجس الدين عند طه عبد الرحمن، لتطرح سؤالا محوريا حول الهوية. فبعد أن صاح أرخميديس قائلا: وجدتها.. وجدتها، يأتي بعده، وبعشرات القرون، عز الدين أوناحي ليصيح هو الآخر: «تاشكون حنا؟».. لقد طرح اللاعب المغربي بكل عفوية أكثر الأسئلة الملحة في التاريخ المغربي المعاصر. جاء السؤال بصيغة استنكارية تستحضر هول الصدمة التي حلت بنا أمام إنجاز وطني ضخم. فلماذا يعتري الكائن المغربي هذا الشعور المستمر بالعجز؟ ولماذا يخجل المغربي من الاحتفاء بنجاحاته الرياضية أو التاريخية، دون الحاجة إلى إضافة ملصقات إقليمية وقارية وبرتقيزية؟ يؤرق هاجس الانتماء العرقي والهوياتي بال العديد من المغاربة، الذين يجدون أنفسهم مجبرين على التخندق داخل مسارات أيديولوجية دخيلة على ثقافتهم ولغتهم وأرضهم.

لا تقف أزمة الانتماء عند استيراد القضايا والأزمات، بل تتخطاها إلى مواجهة شديدة بين الكائن المغربي وعصابات السطو التاريخي والتزوير والتبخيس. نحن هنا لسنا بصدد الدفاع عن وقائع تاريخية معينة، بل إننا بصدد إعادة صياغة الحقيقة، بعيدا عن أهواء الشرق والغرب. «ولكن أجي بعدا، تا شكون حنا؟»..

نحن أبناء المغرب الذي ظل حارسا وفيا، ومدافعا شرسا عن الإمبراطورية الإسلامية الكبرى في الأندلس لما يقارب الألف عام. نحن من رابطت جيوشهم جنوب إسبانيا، أثناء معركة كان لها الفضل في الحفاظ على التواجد الإسلامي بأوروبا لقرون قادمة. نحن من أحيا «يوسفهم» أمل المسلمين في التوسع نحو الأفق الأوروبي الشاسع. نحن المغاربة الأمازيغ الذين احتضنوا الدين الجديد وتشبعوا بقيمه ودافعوا عن حوزته بالدم والنار. غير أن هذه الشجاعة العسكرية المغربية كلفت الإمبراطورية الشريفة ثمنا باهظا، خسرنا بسببها جزءا من أرضنا، بعد أن اقتطعها المستعمر لنفسه وألقى بما تبقى من فتاتها على مائدة اللئام، لتلقفها أفواه جياع الأرض والتاريخ.

وبعد أن خط المغرب اسمه بمداد من ذهب في ذاكرة التاريخ الإسلامي منذ العصر الوسيط. يخرج علينا اليوم فقراء الهوية ولصوص الحضارة لمعايرتنا بخسارة سبتة ومليلية. هؤلاء «النصابة» أنفسهم «كيديرو عين ميكة» إذا تم الحديث عن انكماش وتقلص خارطة الرجل المريض بعد الحرب العالمية الأولى.

يجوز لنا التساؤل، في ظل هذه الحقائق التاريخية الثابتة، عن السبب الذي يجعل المغربي المعاصر يعاني من متلازمة تقزيم الإنجاز، والشعور بالدونية وتبخيس الانتماء القومي؟ لماذا يحتاج لاعب كرة قدم منحدر من العمق الأطلسي الناطق بالأمازيغية، إلى نسب نجاحه لرقعة جغرافية تبعد عن قريته بعشرات الآلاف من الأميال؟ لماذا يحجب المناضل المغربي شعارات التحرر والانعتاق عن القضايا المصيرية للأمة المغربية، ليرفعها دعما لصراعات شرقية أو غربية؟ ولماذا ينفي المغربي مفهوم القداسة عن أرضه مقابل تقديس أرض غيره؟ لماذا يحتاج الكائن المغربي، الفاقد لبوصلة الانتماء، إلى ضرورة استيراد «القضية»؟ أو الحاجة إلى استحضار هوية ثانوية يؤثث بها الفراغ التاريخي الوهمي؟ هل نعاني في بلادنا من أزمة الشهيد؟ حتى نضطر إلى التنكر لشهدائنا، والدفاع، في المقابل، عن ضحايا السياقات الأيديولوجية الدموية والمصالح السياسية المتغيرة؟ هل صحيح أن الهوية المغربية فشلت في كسر حاجز المركزية المشرقية مثلا؟ أو أن الأمر لا يعدو إلا أن يكون رؤية انهزامية للكينونة المغربية وجلدا مجانيا للذات؟

عبد الله العروي «جانا ملخر، وقالنا خوتي شوفو راه قدرنا هو أننا جزيرة، ويجب أن نتصرف كسكان جزيرة. وسدات مدام». فلماذا نستشعر دائما، كمغاربة، هذا الإحساس العميق بالوحشة والاغتراب عن محيطنا الإقليمي الكبير؟ هل هو حاجز اللغة؟ أو درع الوسطية الدينية؟ أو وحدة الانتماء المذهبي؟ أو هي نعمة الاستقرار السياسي والأمني، الذي وفرته لنا الملكيات التاريخية المتعاقبة، التي قاومت تكالب المستعمر وضغائن الجار؟

إن سؤال الهوية الثقافية والانتماء العرقي ليس ترفا فكريا، بل هو قضية مصيرية حاسمة لا تقل أهمية عن سؤال الخبز. ففي ظل عالم يتجه بخطى ثابتة نحو حرب تقليدية بالأسلحة والمقاتلات الجوية، وحرب موازية غير تقليدية، يستخدم فيها أسلحة البروبغاندا والتطهير الثقافي، لا نملك اليوم، كمغاربة، إلا الالتفاف حول مقوماتنا الوطنية وثوابتنا التاريخية والعودة إلى حضن جذورنا الهوياتية الأمازيغية الأصيلة. هذه الأخيرة التي لا تتنافى، بأي شكل من الأشكال، مع مفهوم التدين المغربي الوسطي المعتدل، الذي طالما نأى بنفسه عن حروب الوكالة الأيديولوجية.

ختاما، وفي أزمنة الشك التي نعيشها اليوم، أصبح من الضروري أن نطالب أنفسنا بنوع من الوضوح في المواقف، بل وأن نبحث عن إجابة للسؤال الأوناحي العميق، عبر تحديد الولاءات والفصل بين الانتماءات.. حيث لا رفاهية في الاصطفاف خلف الوطن، فإما أن تكون مغربيا أو لا تكون.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى