شوف تشوف

الرئيسية

تازمامارت.. القرية العالمية التي تعيش في القرن 19

«قرية كتبت بجميع اللغات الحية. كتب كثيرة تحدثت عن تجربة الاعتقال داخل الزنازين التي لا يدخل إليها الضوء. سنأخذ المعتقلين السابقين في رحلة واحدة للعودة إلى الجحيم الذي نجوا منه، لنرى كيف أن هناك قرية في المغرب ما زالت تعيش على إيقاع القرن 19. قصص مثيرة عن معتقل تازمامارت تروى لأول مرة على لسان القرويين الذين احتجزوا بدورهم لأنهم جيران المعتقل».

قصص تُروى لأول مرة عن أغرب تجارب الاحتجاز الجماعي
تميل الحافلة يسارا، لتودع الطريق الوطنية المعبدة القادمة من مدينة «الريش». لا تملك «تازمامارت» من الحظ إلا لوحة معدنية بدأت تفقد لونها، تحيل على اسم القرية والاتجاه المفضي إليها. طريق غير معبدة، تستمر لمئات الأمتار في الفراغ، وسرعان ما ستبدو لك معالم القرية. خيمة منصوبة بإحكام تبدو من بعيد، لا بد أن الذين سهروا على إنشائها تكبدوا الكثير من العناء للحصول عليها في مكان مماثل. يبدأ الأطباء داخل الحافلة التي تقل القافلة الطبية في الاستعداد للهبوط. أناس منكوبون بدؤوا يتجمعون حول الحافلة تماما كما في الأفلام الوثائقية الأجنبية التي تصور واقع القرى المعزولة في أدغال إفريقيا.
الفقر والعوز يلقي بظلاله المديدة ليشمل كل شيء في تازمامارت. نساء يخفين وجوههن، لكنهن لم ينجحن في إخفاء رغبتهن الجامحة في الحصول على حق أساسي من حق المواطنة، الحق في التطبيب. يقف الجميع تحت شمس الله الحارقة التي كانت أكثر قسوة مقارنة مع ما يجب أن تكون عليه شمس «دجنبر».
أطفال مذهولون وكأنهم يرون أصنافا جديدة من البشر، وبعض الشبان الذين يتحركون في كل اتجاه استعدادا لاستقبال الوافدين الجدد، علما أن بينهم وافدون قدامى أيضا.
سرعان ما تعرف الناس على وجوه بعض الذين عاشوا هنا قسرا، أي المعتقلين السابقين داخل المعتقل السري بتازمامارت، ووجوه الأطباء الذين جاؤوا إليها أكثر من مرة، ليبدأ الجميع في تبادل التحايا وكأنهم من أسرة واحدة.
لا وجود للنسيم هنا، فالهواء مختلط بأسرار كثيرة، وأعين غريبة تراقب كل شيء بتوجس.
صور لمعتقلين سياسيين ومختفين من سنوات الجمر والرصاص، نصبت بشكل يجعلها في مهب الريح، على مقربة من خيمة أنشئت خصيصا لتكون فضاء لندوات حقوقية تفتح باب التواصل بين سكان القرية والحقوقيين والمعتقلين السابقين.
بعض الشبان المتعلمين داخل القرية عبروا عن الحظ الذي منحته لهم الحياة، لأنهم ولدوا بعد إخلاء معتقل تازمامارت وليس قبله. كان مصيرهم ليكون مأساويا لو أنهم عاصروا وجود معتقلي تازمامارت في زنازينهم. لن يتمكنوا من التمدرس ولا مغادرة القرية لمواصلة الدراسة، وسيكون مصيرهم مثل مصير آبائهم. ولن يكون بمقدورهم عيش الحياة إلا داخل تازمامارت، بجوار الثكنة العسكرية فقط.
سيارات صغيرة رافقت الحافلة التي تقل بعض الحقوقيين وأفراد القافلة الطبية من الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، والتي ينشط داخلها الدكتور عبد الكريم المانوزي ودكاترة آخرين وأطر طبية متطوعة للقيام برحلات تقرب العلاج من منكوبي سنوات الجمر والرصاص وضحايا الاحتجازات القسرية والتعذيب داخل سجون سنوات الجمر والرصاص.
للمعتقلين السابقين، الذين تمثلهم جمعية ضحايا تازمامارت وعائلات المتوفين منهم، صيت كبير داخل القرية. سرعان ما يتحلق الناس حولهم لإلقاء التحية، ورؤية الوجوه التي سمعوا عنها الكثير. بالنسبة إلى الناجين من الاعتقال داخل المعتقل السري بثكنة تازمامارت العسكرية، فإن سكان تازمامارت ليسوا إلا جيران لهم في المحنة، وبعد أن نجوا هم منها بأرواحهم على الأقل وبكثير من المشاكل الاجتماعية والندوب، فإن سكان القرية ما زالوا يدفعون الثمن أيضا، ويعيشون حياة قاسية رتيبة في مكان لا يرحم أحدا.
هنا تازمامارت، حيث الحياة كُتب لها أن توزع على الناس بالتقسيط الممل. المنازل هنا مشمسة، لكنها تحتاج إلى الطبيب، لتضرب الحكمة القديمة عرض الحائط، والتي تقول إن المنزل الذي تدخله الشمس لا يدخله الطبيب. جميع المنازل هنا نالت من قساوة الشمس الشيء الكثير، لكن الذي ينقصها هو الطبيب، ليعالج أجساد أهلها، ويرمم ما تبقى منهم حتى يواصلوا الحياة.
قرية تازمامارت واحدة من الأماكن التي تستحق أن يسلط عليها الضوء، لأنها كانت مسرحا لأحداث واحد من أشهر المعتقلات السرية عبر العالم. فُتح الباب الحديدي لسور الثكنة العسكرية حتى يلج الزوار إلى المكان الذي كانت تقف فيه جدران الزنازين. لم يعد المكان يضم غير بنايات للثكنة العسكرية وبعض الجنود الذين يحدقون في الفراغ، بالإضافة إلى قبور، للذين ماتوا في تازمامارت أيام الاعتقال السري. عاد الأصدقاء ليقرؤوا الفاتحة على أرواح الموتى، ويعانقوا من جديد الحياة داخل تازمامارت.. القرية التي تلاحقها لعنة المعتقل.

قرية منسية أوصلها المعتقل السري إلى العالمية
لا نبالغ حين نقول إن «تازمامارت» أغرب قرية في العالم. صيت عالمي، ارتبطت فيه القرية بالمعتقل السري الرهيب الذي ألفت عنه كتب بلغات كثيرة تروي تجارب الذين مروا من محنة الاعتقال داخل زنازين ضيقة لم ينفذ إليها الضوء، طيلة 18 سنة وبضعة أشهر.
لكي تصل إلى تازمامارت، عليك أولا أن تمر بمدينة صغيرة اسمها «الريش»، ولكي تصل إليها أيضا، عليك تتبع الطريق الوطنية بين مكناس وصولا إلى ميدلت، وتستمر.. المسافة بين الريش وقرية تازمامارت قصيرة، لكنها كافية لكي تكون حدا فاصلا بين نوعين من الحياة. حياة معلنة في «الريش» التي تقاوم النسيان، وحياة سرية في «تازمامارت»، القرية التي ضُرب عليها الحصار في سنوات الجمر والرصاص، ولا تزال ثقوبه بادية على ملامح الناس، والمكان أيضا.
برد قارس، رغم أن الشمس ترمي خيوطها بقسوة مبالغ فيها في شهر دجنبر. سكوت مطبق، لم يكسره إلا هدير السيارات الصغيرة والحافلة التي تقل طاقما طبيا، من الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، بالإضافة إلى حقوقيين، جاؤوا خصيصا إلى تازمامارت لإخراج أهلها من العزلة ولو لساعات.
قرية وصلت إلى العالمية بسبب المعتقل الذي لا يبعد عن المنازل إلا بأمتار قليلة، لا تزال تعيش على إيقاع عشرينات وثلاثينات القرن الماضي. دع عنك أسلاك الكهرباء، وانظر إلى الناس، ترى البداوة تتغلغل في العظام، وترى الناس يكابدون من أجل شظف العيش. أما التطبيب والاستفادة من الخدمات والبنيات التحتية الضرورية، فمطلب بعيد جدا..
هل يعقل أن تكون قرية لها صيت عالمي غارقة في كل هذه البداوة؟ إنها البداية فقط.

عندما كانت تازمامارت بالـ«فيزا»..
ليس في الأمر أي مبالغة. شاب حليق الوجه، يتأمل الأطباء الذين كانوا منهمكين بارتداء وزرهم البيضاء، لمباشرة أشغال استقبال المرضى والشيوخ والعجائز الذين يشكون من مختلف الأمراض، يقول: «كنت محظوظا لأنني تربيت خارج تازمامارت، لكني كنت آتي إليها في العطل المدرسية رفقة والدتي. أمي من تازمامارت، ووالدي يعمل في ميدلت وعائلته في مدينة الريش القريبة. أتذكر المرات الكثيرة التي كانت فيها أمي تجيب بخوف كبير على أسئلة الدركي الذي يوقفنا دائما في الطريق، ويسألنا عن وجهتنا كلما حلت العطلة المدرسية. عندما تقول له أمي إنها ابنة القرية وتمضي إليها لزيارة والدتها الأرملة، كان ينظر إلي بارتياب ويسألني أيضا عن وجهتي، وأقول له إنني متوجه مع أمي لزيارة جدتي المريضة، وكان هذا الأمر يتكرر دائما، ولم أكن أفهم السبب. عندما شاعت الأخبار بوجود معتقل سري في الثكنة العسكرية، وأن هناك أناسا كانوا حبيسي غرف مظلمة لسنوات طويلة، فهمت لماذا كنا نتعرض للتفتيش والمساءلة كلما أتينا إلى تازمامارت».
يقول هذا الشاب، الذي يحكي بكثير من الحماس عن مرحلة الثمانينات التي كان فيها طفلا لا يستوعب أمورا كثيرة كانت تحيط به، إن أصدقاءه كانوا يعتبرونه محظوظا لأنه يخرج من تازمامارت بعد انتهاء العطلة. ويؤكد رفقة آخرين أن شبانا كثيرين من أبناء تازمامارت وجدوا أنفسهم مجبرين على البقاء فيها طيلة حياتهم، وتم منعهم من الهجرة خارجها، خصوصا وأن بعض الشبان ممن ضاقت بهم القرية وأنهكهم توالي سنوات الجفاف، فكروا في البحث عن عمل في المدينة لإعالة أسرهم، لكن أعوان السلطة في ذلك الوقت منعوهم من مغادرة القرية، ولم ينجح أحد في مغادرتها.
أكثر من هذا، حسب الشاب دائما، أن بعض الأسر عانت من عزلة أكبر، وتحولت القرية إلى منفى كبير في نظرهم، لأن السلطة منعت أفراد أسرهم من زيارتهم داخل القرية، وهكذا كانت أسر كثيرة تعيش قطيعة كبيرة مع معارفها وأفرادها الذين غادروا تازمامارت قبل وقت طويل، سواء للعمل في الخارج، أو في المدن الأخرى. ضُرب طوق كبير على القرية وعاشت عزلة حقيقية. هذا أمر يؤكده كل الذين وقفوا في الصف للاستفادة من الخدمات الطبية التي وفرها الطاقم الطبي المتطوع لفك العزلة عن قرية تازمامارت.
يعلق أحد الشبان ضاحكا بأن الأمر كان أشبه بالحصول على «الفيزا» لزيارة تازمامارت. ويروي كيف أنه عاش حدثا طريفا سنة 1978، وكان وقتها طفلا. يقول إنه كان يرعى قطيعا صغيرا من الأغنام، وكانت التعليمات القادمة من أعوان السلطة تقول إن على سكان القرية عدم الاقتراب من الثكنة العسكرية التي يعود تاريخ إنشائها إلى أيام الوجود الفرنسي في المغرب. لم يكن يعلم أن الثكنة تحفظ سرا يتمثل في احتضانها لأحد أخطر المعتقلات السرية في العالم. لذلك كانت الأعين المحيطة بالمعتقل نشيطة في رصد أي تحرك غريب قد يفضي إلى انكشاف السر.
ومما يتذكره من زمن الطفولة أنه ذات مرة بينما كان يرعى الأغنام، انفلت بعضها في الخلاء، وهو ما جعله يلاحقها لإعادتها إلى المكان المسموح بالرعي داخله، ليجد نفسه في المنطقة المحظورة، ليباغته أحد الذين كانوا يسهرون على أن يبقى البشر بعيدين تماما عن حدود معتقل «تازمامارت». وهناك رأى رجلا قادما من بعيد يجر حقيبة ثقيلة، يضعها تارة فوق رأسه، وتارة يعانقها مغالبا ثقلها حتى لا تسقط أرضا. كان غريبا أن يرى شخصا قادما من الطريق التي تفضي إلى القرية، وكان الأمر يومها حدثا استأثر باهتمام جميع سكان القرية دون استثناء، ليكتشفوا أن القادم ليس إلا واحدا من أبناء القرية الذين غادروها خلال الستينات، وبما أنه لم ينجح في أي عمل في مكناس، قرر العودة إلى تازمامارت نهائيا بعد طول غياب، وكان الجميع يتحدثون عن التحقيق المطول الذي تعرض له قبل أن يصل إلى تازمامارت وكيف أنه تعهد أمام الدرك، ألا يخرج منها أبدا وأن يعيش ما تبقى من حياته داخلها، وهكذا سمحوا له بمواصلة الرحلة وصولا إلى تازمامارت.
من بين الأمور التي يتداولها السكان أيضا أن مغادرة القرية خلال السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات أيضا، كانت تحتاج إلى ترخيص من الداخلية. ولا تكون المغادرة إلا لظرف قاهر جدا، أو حالة مستعصية. لكن الناس هنا، الذين تحدثنا إليهم على الأقل، لا يتذكرون أبدا حالة مغادرة واحدة لتازمامارت خلال تلك السنوات، لكنهم بالمقابل يتذكرون حالات قليلة جدا لأشخاص سُمح لهم بزيارة القرية.
لا أحد كان يملك الشجاعة للحديث عن لغز الثكنة العسكرية، وما إن كانت بها قبور أشخاص أحياء، صُنعت خصيصا لحشرهم داخلها. يقال هنا في تازمامارت إن الناس كانوا يعرفون قصة المعتقل، لأن بعض الحراس تحدثوا في الأسواق الأسبوعية وفي المجالس الخاصة عن سر الثكنة العسكرية ونسجوا حكايات عنها، بقصد ترويع الناس وإبعادهم أكثر من نية إخبارهم بالسر.

أناس يعيشون في القرن الماضي ولا يعرفون أي شيء عن الحضارة

رغم أن بعض الناس هنا قد صاروا أكثر احتكاكا بالحياة، ورغم أن بعض أبناء القرية أو أقاربهم على الأقل، أصبح بمقدورهم مغادرة تازمامارت إلى النواحي، ورؤية المستوى الذي وصلت إليه الحياة خارج البقعة التي أمضوا داخلها عقود طويلة، إلا أن السواد الأعظم من سكان القرية ما زالوا يعيشون بمقياس خمسينات القرن الماضي، ولا يملكون أي فكرة عن الحياة خارج تازمامارت ولم يسبق لهم مغادرتها.
نُصبت خيمة كبيرة لاحتواء لقاء تواصلي بين بعض الحقوقيين، من بينهم ضيوف سابقون على معتقل «تازمامارت» وآخرون عاشوا تجربة الاعتقال والاختطاف والتعذيب في معتقلات سرية أخرى كـ«أكدز»، «قلعة مكونة» ودار المقري وغيرها من الأماكن. صور لمعتقلين سابقين بقيت معلقة في حبل، تلاعبها الرياح في مدخل الخيمة التي نُصبت في مكان غير بعيد عن المكان المخصص لاستقبال المرضى من أهل القرية، ومتابعة حالاتهم الصحية من خلال الملفات التي يعدها أطباء الجمعية الطبية دوريا لجميع الحالات.
«لم يسبق لي الذهاب يوما لأي مستشفى. لا أعلم كم عمري بالتحديد، لكن أحفادي تزوجوا وأنجبوا، ورغم ذلك لم نر الطبيب يوما، ولم يسبق لي أن ذهبت إلى أي مستشفى. لولا هؤلاء الأطباء الذين يأتون من بعيد للاطمئنان علينا ويمنحونا الأدوية مجانا، بالإضافة إلى الأغطية، لما استفدت شخصيا من أي فحص. عشنا سنوات طويلة جدا كنا ممنوعين خلالها من مغادرة حدود القرية. مات إخوتي كلهم ولم أستطع حضور جنائزهم ولا رؤية أبنائهم. قبل عامين جاء عندي بعض الناس وقالوا لي إنهم أبناء إخوتي وجاؤوا للتأكد ما إن كنت على قيد الحياة، لكني لم أستطع رؤية وجوههم جيدا، لأنني كنت أعاني من ضعف شديد في البصر. عندما جاء هؤلاء الأطباء إلينا أول مرة، أجروا لي عملية على العين وفي الزيارة اللاحقة جاؤوا لي بنظارات طبية، واليوم جئت من جديد ليكشفوا عليّ حتى يخلصوني من آلام شديدة في الظهر».
قصة المرأة العجوز، التي قدمها بعض الشبان الذين ينشطون داخل جمعية محلية ساعدت الطاقم الطبي في تنظيم المرضى والكشف عليهم، ليست إلا جزءا صغيرا من المأساة الجماعية التي عاشتها قرية تازمامارت. لا شيء فيها إلا أسلاك الكهرباء التي مرت حديثا، وبنايات طينية آيلة للسقوط، وخلاء شاسع يمتد إلى ما لا نهاية.
طفل صغير قال والده إن اسمه مروان، بدا وكأنه يرى الناس للمرة الأولى في حياته. يتبع ظل والده، ويحاول إمساك تلابيب ثوبه كلما أحس بالخوف من الزوار الأغراب عن القرية. قصدته عدسة المصور لتلتقط له صورة للذكرى، فاحتمى بساق والده، وكأنه يختبئ من مدفعية ثقيلة أو رشاش. يقول والده: «لم يسبق له أن رأى كاميرا أو آلة تصوير.. لذلك يحاول الاختباء كلما وجهتها نحوه». بصعوبة استطاع التأقلم مع وجود الزوار الغرباء. هذا الطفل أيضا، ليس إلا حالة واحدة، لعشرات الأطفال الذين يشكلون الجيل الجديد من أبناء تازمامارت المنسيين.

عندما يعود الناجون من الموت إلى ساحة الجريمة

لم تكن الزيارة التي نظمتها الجمعية الطبية لإعادة تأهيل ضحايا التعذيب إلى تازمامارت لتمر مرور الكرام. جمعية ضحايا تازمامارت تدخل على الخط، وهكذا سيلتقي سكان القرية مع الأشخاص الذين سمعوا عنهم الكثير.
الطيار، الذي ما زال قادرا على الطيران، صالح حشاد. أحمد المرزوقي صاحب الزنزانة رقم 10، وعبد الله أعكاو الذي يحمل وحده جزءا كبيرا من الحرقة الكبيرة لسنوات الاعتقال الجماعية داخل تازمامارت، بالإضافة إلى المفضل ماغوتي، مؤذن تازمامارت، وبوعملات محمد، الذي يبدو أكثر رصانة وتعقلا، ومعهم أحمد بوحيدة، الرجل الذي علمته الحياة أن هناك تازمامارت أخرى كبيرة تنتظر صاحبها بعد أن يغادر تازمامارت الصغيرة. المجذوب عقا الذي لا تفارقه الابتسامة وهو يتجول بين أطلال تازمامارت متفحصا المساحة الأرضية الصغيرة التي أمضى فيها أطول 18 سنة من حياته، وسط أرض تازمامارت الشاسعة، ومعه المجاهد محمد، التازمامارتي المنسي من متن الكتاب.. لا يزال يحمل معه الكثير من ندوب تازمامارت وجروحها. بالإضافة إلى محمد الزموري، الثوري الذي لا يحب الحديث كثيرا عن تازمامارت ومعه الداودي، أكثر الناجين تأثرا نظرا للظروف الصعبة التي عاشها في العنبر الثاني، ليكون من القلائل الذين كتبت لهم النجاة مقارنة مع سكان العنبر الأول. ومعهم بنتا الجيلالي الديك، اللتان تكبدتا بُعد المسافة، في إصرار على معانقة قبر الوالد، الذي لا تعرفان مكان قبره تحديدا، لتصبحا مدينتان لجميع مع موتى تازمامارت، لأن الأمر أصبح يتعلق بمأساة جعلت الأسر أسرا واحدة.
هؤلاء جميعا، وقفوا لحظات عند قبور أصدقائهم الذين ماتوا في تازمامارت ودفنوا داخل سورها لتبقى قبورهم شاهدة حتى بعد هدم المعتقل. كلهم يحملون نفس الاسم المعنوي في أذهان أصدقائهم وعائلاتهم، رغم تعدد القبور. وخيمت عليهم روح الصفريوي، من خلال أخته أحد الناجين الذي فارق الحياة أياما قليلة قبل القيام بالرحلة، وكان ينوي أن يكون حاضرا لإلقاء نظرة على أطلال المكان الذي أمضى داخل أضيق مساحاته، ردحا من الزمن.
يقول صالح حشاد إن التفكير في العودة إلى تازمامارت يعني أن الناجين يملكون من الشجاعة ما يكفي للعودة إلى مسرح الجريمة. وقفوا كلهم لتبادل النكات التي كانوا يتبادلونها أيام الاعتقال، ورأوا كيف أن السور أصبح أكثر وداعة مما كان عليه في السابق. لم يجدوا صعوبة في تحديد الأماكن السابقة للزنازين، سرعان ما اصطفوا كل في مكانه، وكأنهم يعيدون تمثيل جريمة..
عندما التقى المعتقلون السابقون مع سكان قرية تازمامارت في لقاء مفتوح، دار حديث عن حقيقة ما كان يسمعه السكان عن كون الثكنة العسكرية تضم داخلها معتقلا سريا، أُقبر داخله عدد من العسكريين الذين تورطوا في انقلاب الصخيرات سنة 1971 وانقلاب الطائرة الملكية سنة 1972. البعض كانوا مصدومين لأنهم يسمعون لأول مرة عن محاولات انقلابية، وآخرون لم يفهموا أي شيء، بينما القلة فقط أكدوا أنهم كانوا يسمعون بوجود بعض المحتجزين داخل زنازين ضيقة جدا، بنيت خصيصا ليحتجزوا داخلها، كما سمعوا عن وجود قبور سرية تضم رفات المتوفين داخل المعتقل، لكن التهمة التي وجهت إليهم بقيت غامضة، وقيل وقتها إنهم محتجزون هناك لاعتبارات سرية تعود إلى طبيعة عملهم في الجيش، وإن عقوبة كبيرة نزلت عليهم كانت سبب نقلهم إلى تازمامارت.

هكذا تساوى السجناء السابقون مع السكان الحاليين في نفس المصير

تعاطف غريب يشعر به المواطنون التازمامارتيون تجاه المعتقلين السابقين في المعتقل السري الكائن داخل الثكنة العسكرية. جولة صغيرة بين المنازل المتواضعة لسكان القرية، كفيلة للوقوف على الصورة الحقيقية لحجم المأساة التي نزلت على المكان وساكنيه، والذين مروا منه أيضا.
عزلة تامة عاشتها تازمامارت منذ سنة 1973. أحد الشيوخ، لم يكن ليعبأ بضوضاء المتحلقين حول القافلة الطبية التي نُصبت في مكان لا يبعد عن المعتقل كثيرا. كان مستغرقا في هدوء مطبق لا يكلم أحدا ولا يكلمه أحد. تجاعيده وحدها كفيلة بالحديث مكانه عن حجم المأساة التي عاشتها هذه القرية المنسية. لا يتحدث العربية لكنه يفهمها. الأمازيغية لغته المفضلة، وبسرعة قال إن الابتسامة لا تحتاج أبدا إلى لغة لإيصالها، ويكفي أن يبتسم في وجه الجميع ليكون سعيدا. تولى أحد شبان القرية الترجمة، ليسأل الشيخ إن كان سمع في شبابه أو كهولته عن معتقل «تازمامارت». ليأتي رده مزلزلا: «عن أي تازمامارت تتحدث. الثكنة العسكرية؟ لقد كبرت معها. الفرنسيون أنشؤوها وكان الجنود يمنعوننا من الوصول إلى ظل سورها عندما كنا نرعى الأغنام قبل سنوات طويلة. لكنهم بالمقابل كانوا يمنحوننا فائض المواد الغذائية والمعلبات. أول مرة رأيت فيها علبة سردين كانت عندما حصلت عليها من أحد الجنود. كنت يافعا وقدمها إلي لأني كنت أتضور جوعا. احتميت بظل الجدار السميك للثكنة العسكرية والتهمتها.. أستحضر مذاقها بسهولة رغم مرور سنوات طويلة على ذلك التاريخ. عندما تسلم المغاربة هذه الثكنة، بقيت مهجورة لمدة طويلة، لم يزرها الجيش إلا مرات قليلة جدا. كانوا يأتون بين الفينة والأخرى، لكنها في أغلب أيام السنة تكون شبه خالية. بعد ذلك، تحولت إلى مكان مرعب لأننا كنا ممنوعين من الاقتراب منها. وعندما تزوجت للمرة الثانية، سمعت أن هناك بناية جديدة تم تشييدها داخل سور الثكنة العسكرية، وقال لنا أعوان السلطة يومها إننا ممنوعون تماما من مغادرة القرية، وإن كل من يريد أن يسافر إلى أي مكان، حتى لو كان مدينة الريش القريبة، عليه أولا أن يخبر عون السلطة بطبيعة الغرض الذي يريد السفر من أجله، ومتى سيعود ومع من سيلتقي، والأمر نفسه ينطبق على ضيوف القرية الذين يأتون لزيارة عائلاتهم وتفقد أقاربهم داخل القرية. بعد أسبوع من تلك التعليمات، جاء إلينا عون سلطة آخر، وقال لنا بالحرف إننا ممنوعون من صعود الجبل، وإن هناك عقوبات قاسية ضد كل من يخالف التعليمات ويصعد إلى الجبل. عشنا سنوات طويلة ونحن معزولون تماما عن العالم الخارجي».
السبب في منع السكان من صعود الجبال المحيطة بالمكان، هو الخوف من التقاط صورة عامة للمكان الذي أنشئت داخله بناية المعتقل، لأن الأرض كانت شديدة الانبساط، والصعود إلى الجبال المحيطة من شأنه أن يعطي صورة كاملة وشاملة للمكان.
ظلت أعين الرقابة يقظة لعشرين سنة ويزيد، فحتى بعد انكشاف أمر معتقل تازمامارت، ظلت الأعين مطوقة للمكان. وبعد هدم معتقل تازمامارت كليا، ظلت الأعين تراقب الداخلين والخارجين من القرية. وبعد نهاية التسعينات، كانت القرية لا تزال تعيش على إيقاع المنع، إلى درجة كان معها تنظيم قافلة طبية للمكان وفتح باب التواصل بين سكان القرية والفاعلين الحقوقيين والأطباء، ضربا من الخيال.
اليوم يتمكن المعتقلون السابقون وذوو الذين ماتوا داخل تازمامارت، من دخوله لتفقد القبور والآثار القليلة التي بقيت شاهدة على وجود تازمامارت.
يقول أحمد المرزوقي بعد انتهائه من تبادل النكات مع أصدقائه التازمامارتيين: «للأسف لقد أزالوا المعتقل تماما ونجحوا في مسح معالمه تماما. لكنهم لن يستطيعوا مسحه من ذاكرة الناس وأجسادهم. لا تزال الأرضية تحمل آثارا إسمنتية لأرضية الزنازين والممرات، وما زال الناس يتذكرون كيف أنهم عاشوا حياتهم محاصرين إلى جانبنا. نحن كنا في ظلام الزنازين، وهم كانوا مطوقين بالليل والنهار حتى لا تشيع أخبار وجود معتقل سري في قرية صغيرة داخل الخلاء».
ويضيف صالح حشاد: «سيكون جميلا لو تركوا المعتقل على حاله، لأنه أصبح اليوم جزءا من تاريخ المغرب. تخيل كم من السياح سيأتون من العالم بأسره لرؤية المعتقل الذي كتب عنه الكثير. لو بقيت الزنازين قائمة لبقينا على الأقل نمتلك جزءا مهما من التاريخ الجماعي للبلاد، لكن البشاعة تسيطر على كل شيء، والذين أنشؤوا تازمامارت لإقبارنا حطموه بعد أن أصررنا على مواصلة الحياة. من المؤسف أن أقف هنا اليوم ولا أجد إلا الفراغ وثكنة عسكرية قديمة آيلة للسقوط».
أتى الطفل الصغير الذي يمثل لوحده جيلا جديدا داخل القرية، وارتمى بدون شعور في أحضان أحمد المرزوقي وهو يجالس سيدة عجوز، يسألها عن ذكريات قرية تازمامارت لعلهم يعيدون معا ذاكرة الاعتقال الجماعي، داخل المعتقل وخارجه. تستحق قرية تازمامارت أن تكون أغرب قرية في العالم، لأنها تأثرت بوجود معتقل سري داخلها، وعاش أهلها، رغم شساعة الأرض ورحابة السماء، تجربة اعتقال غير عادية أبدا، لعلها الأولى من نوعها ف ي العالم!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى