تاريخ جديد يُكتب الآن
قرار المغرب تنظيم الباكلوريا بشكل عادي في ظل أجواء غير عادية لا يمكن أن ننظر إليه إلا أنه بداية فعلية لاستقلالية قراره التربوي. هذا القرار صعب جدا، وكان يمكن الاستغناء عن تنظيم هذه الامتحانات اقتداء بفرنسا، وبالتالي توفير ميزانيات تعد بالملايير، تكلفها هذه الامتحانات. إذن، وبالرغم من الصعوبات الاقتصادية التي رافقت قرار فرض الحجر الصحي، نجد الدولة المغربية مصرة على أن تنظم امتحانات الباكلوريا كما جرت العادة منذ تنظيمها لأول مرة سنة 1957، أي أنها مصرة على أن يبقى الاستحقاق معيارا وحيدا للنجاح بخلاف ما سيكون عليه الأمر لو اقتفينا فرنسا في اعتمادها على المراقبة المستمرة فقط.
والتأكيد على تنظيم امتحانات الباكلوريا بالشكل المعتاد، بخلاف القرار الفرنسي القاضي بإلغاء الامتحانات هذه السنة لأول مرة في تاريخ التعليم الفرنسي، هو قرار إيجابي لطالما انتظره كثيرون، وخصوصا الذين طالبوا مرارا بوضع المسافة مع النموذج التربوي والتكويني الفرنسي. والوجه الإيجابي للقرار يتمثل في كونه يجعلنا ننتبه إلى أن حديث البعض عن ضرورة مراعاة الخصوصية المغربية والتقليل من هوس استيراد النماذج الدولية، إنما هو حديث موضوعي خال من كل نزوع هوياتي متضخم. لذلك، لسنا نبالغ إن قلنا إن هذا القرار سيضع المغرب في طريق سيشقه بنفسه دون نموذج مسبق. وسيكون عليه أن يخطو فيه بكل استقلالية بعيدا عن «الوصاية» التي مارسها عليه الفرنسيون طوال عقود، تارة باسم التعاون والشراكة وتارة باسم الخبرة.
الأمر يتعلق طبعا بقرار صعب جدا، لأن المغرب سيضطر إلى تدبير امتحانات تهم نصف مليون تلميذ وسيشارك فيه ربع مليون موظف، ما بين تربويين ومُدبرين وإداريين، فضلا عن موظفي العديد من القطاعات التي اعتادت المشاركة في هذه الاستحقاقات (الأمن والجماعات المحلية خاصة). وفوق هذا وذاك سيضطر إلى تدبيرها في ظل أجواء حذرة لتجنب تحول مراكز الامتحانات إلى بؤر وبائية، خصوصا وأن تنامي ظاهرة «الفايك نيوز» ستضيف أعباء إضافية على الوزارة الوصية لطمأنة التلاميذ والأسر، إزاء الإشاعات المغرضة التي ستخرج بالعشرات، والتي ستتحدث عن إصابات وهمية في صفوف التلاميذ أو الموظفين أيام الامتحانات. لذلك فنحن أمام تاريخ جيد يكتب الآن.
الوجه الصعب لهذا القرار، إذن، هو أن المغرب سيضطر إلى تدبير هذه المحطة بدون الاستناد لنموذج سابق. لذلك لا مجال للفشل، فإذا كانت فرنسا قررت التخلي عن أحد أعرق تقاليدها التربوية، والمتمثل في امتحانات الباكلوريا، والاكتفاء بالمراقبة المستمرة. وقوبل هذا القرار هناك بالترحيب الشعبي العام، لكون الإدارة الفرنسية بررت قرارها بحماية التلاميذ والموظفين من الإصابات، فإن تشبث المغرب بهذه الامتحانات ينبغي ألا يظهر على أنه «مغامرة» أو «استهانة» بسلامة كل المعنيين بهذه الامتحانات، بل هو قرار تمليه قناعة راسخة هي أن الاستحقاق وتكافؤ الفرص هما خطان أحمران لا يمكن تجاوزهما مهما كانت الظروف الاستثنائية. وما يجعل الإصرار على تنظيم هذه الامتحانات مشروعا، هو أن المراقبة المستمرة في بلادنا يحضر فيها كل شيء إلى الاستحقاق وتكافؤ الفرص.
فالكل يعلم أن المراقبة المستمرة عندنا هي وسيلة لضبط التلاميذ على العموم وليس أداة لتقويم التعلمات، كما أن الكل يعلم أيضا مشكلة المراقبة المستمرة في القطاع الخاص، لذلك فالمعركة التي ينبغي خوضها هي أن القلعة الأخيرة لمصداقية نظامنا التربوي هي امتحانات الباكلوريا. صحيح أن النظام المعمول به في هذه الامتحانات يحتاج لمراجعة، كما نصت على ذلك الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار، لكن المؤكد هو أن التشبث بامتحانات عادية في ظل أجواء غير عادية لا يمكن إلا أن يعزز مصداقية نظامنا التربوي الذي يمكن سنويا المئات من شبابنا من الالتحاق بكبريات الجامعات والمدارس العليا العالمية بسهولة ويسر.
استقلالية القرار التربوي، هنا، ينبغي تثمينها في قرارات أخرى، ثبت على أن النموذج الفرنسي فيها أضحى متجاوزا، ولعل قرار تبني نظام الباكلوريوس، وخاصة إجبارية اللغة الإنجليزية في التعليم العالي ابتداء من شتنبر القادم، هو دليل آخر على أنه يمكننا وضع نموذج تربوي وتكويني يحترم خصوصياتنا الوطنية، وفي الوقت نفسه لا يقتصر انفتاحه على ما يراه من نافذة واحدة ووحيدة هي نافذة النموذج فرنسي كما جرت العادة لعقود.