يونس جنوحي
«الفيضانات التي أتت على كل شيء في منطقة طاطا وورزازات هذه الأيام، والتي وصل صداها إلى العالمية، وجعلت هذه المناطق في حكم المعزولة تماما عن الحياة، تبقى سلسلة فقط من المسلسل التاريخي الطويل لمناطق كثيرة في المغرب مع موسم المطر والسيول الجارفة.
لدينا في المغرب تاريخ حافل بأحداث من هذا النوع، عاش معنا الأجانب بعض تفاصيلها العنيفة، بينما احتفظنا لأنفسنا بمحطات مريرة تهافتت فيها الطبيعة مع الكوارث السياسية، لتُعمق أزمات قبائل كثيرة على امتداد جهات المغرب، قبل أكثر من قرنين من الزمن».
سيول كلّفت جيش فرنسا خسائر فادحة قبل 1920
نُقل عن المقيم العام، المارشال ليوطي، أول مقيم عام معين في المغرب بعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، أنه أدرك منذ الأشهر الأولى لوصوله إلى المغرب أهمية المطر في الحياة العامة المغربية. ونُقل عنه أيضا مقولة شهيرة تفيد بارتباط إمكانية الحُكم في المغرب بهطول المطر.
لكن ما لم ينتبه إليه الفرنسيون، بنفس النباهة التي أولوها لأهمية المطر، المخاطر الناجمة عن هطول الأمطار الغزيرة وما ينتج عنها من سيول وفيضانات.
كانت سنة 1914، أول محطة يُدرك فيها الفرنسيون خطورة ما ينتظرهم من كوارث، في حال استمرار العمليات العسكرية خلال فصل الشتاء. فقد جرفت السيول في منطقة الدار البيضاء معدات عسكرية، أثناء محاولة وحدات من الجيش الفرنسي عبور النهر في الطريق نحو الجديدة. وانتبه الفرنسيون إلى ضرورة إقامة قناطر عالية، بمواصفات فرنسية، للتغلب على السيول الموسمية والفيضانات التي يعرفها فصل الشتاء في المغرب.
لم تكن هذه الخسارة الوحيدة التي مُني بها الفرنسيون خلال أولى العمليات العسكرية في المغرب، بل تكررت مرات أخرى، أثناء نشر القوات الفرنسية في منطقة مراكش، في نفس الحملة العسكرية. فقد جرف الوادي، الذي كان في قمة الهيجان، قطيعا كاملا من الخيول المدربة في سلاح الفرسان. وقد كان مخططا أن يستعمل الفرنسيون البغال للعبور إلى الأطلس، وإنشاء ثكنة عسكرية تُمكن من مراقبة المعابر البرية.
وفي سنة 1919 جرفت السيول أسلاك الهاتف والتلغرام، وبقيت وحدات الجنرال الفرنسي «داماد» في عزلة تامة، وشُلت العمليات العسكرية في منطقة الأطلس، بسبب السيول التي أتت على وحدات الاتصال والأعمدة الخشبية، وتطلب إصلاح تلك الخسائر أكثر من شهرين، تجند خلالها تقنيو الجيش الفرنسي ومساعدوهم لتدارك الزمن وإعادة ربط الاتصال بين مختلف القوات العسكرية الفرنسية في مناطق الأطلس، شمالا وجنوبا.
تكررت أحداث مشابهة في أكثر من منطقة من المناطق التي حاول الجيش الفرنسي بسط نفوذه العسكري بها قبل 1933، تاريخ استسلام أغلب قبائل الأطلس للجيش الفرنسي وبدء مرحلة أخرى من مراحل المقاومة ضد الاستعمار.
لكن أبرز تلك الحوادث، اختفاء فرقة من الجيش الفرنسي، كانت في مهمة نقل جهاز الهاتف من الدار البيضاء إلى الشاوية، لمد أول اتصال مباشر هناك بالأركان العامة. وحسب ما نقله الأرشيف الفرنسي، فإن الفرقة المكونة من سبعة أعضاء، يقودهم ليوتنان فرنسي شاب – أبان عن بطولة كبيرة في الحرب العالمية الأولى سنة 1917، ونُقل على إثر ذلك إلى المغرب لتعزيز صفوف الجيش الفرنسي في أماكن المقاومة- اختفت بشكل محير ولم تصل إلى الشاوية. ورغم مجيء رسائل كثيرة إلى القيادة العسكرية تستفسر عن سر تأخر الليوتنان وفريقه، إلا أن القيادة لم تُعر الأمر أهمية قصوى في البداية، إلى أن وصل خبر العثور على قبعة عسكرية وحقيبة بها بقايا مؤونة عسكرية، على جنبات الوادي بعد انحسار حدة التيار، وهو ما أكد هلاك جميع أفراد الوحدة خلال فترة ارتفاع منسوب مياه الوادي.
بعد هذا الحادث، حسب ما نشرته صحيفة «لو كازابلونكي» التي كانت تصدر في الدار البيضاء، عممت الإقامة العامة تعليمات تقضي بالحد من تنقلات الوحدات العسكرية التي لم يمض قادتها فترات طويلة في المغرب، للحد من الخسائر التي تسببت فيها السيول والأمطار الغزيرة والفيضانات، والتي كبدت جيش فرنسا خسائر بعشرات آلاف الفرنكات.
الفرنسيون فكروا في استغلال فيضان الوديان منذ 1940
أمام فداحة الأضرار التي تسببت فيها السيول والوديان للجيش الفرنسي منذ 1912، وقبلها أيضا، وصولا إلى سنة 1940، بدأ المهندسون الفرنسيون يفكرون في طرق لاستغلال نشاط الوديان في المغرب، في ظل ضعف البنيات التحتية، وتأخر تعميم القناطر التي تسمح باستمرار حركة السير حتى لو ارتفع منسوب مياه الأنهار والوديان.
يقول الباحث البريطاني برنارد نيومان في بحثه الميداني، الذي ألفه سنة 1952، والذي كان نتيجة جولة استغرقت عدة أشهر في كل مناطق المغرب تقريبا:
«قال لي أحد خبراء الري الفرنسيين:
-«نعم، لقد حققنا بداية جيدة».
هذا، وعلى الرغم من أن التوقعات لم تكن تنتظر هذا الحجم، اتضح أنها حقيقية. انبثقت أفكار جريئة، كانت وراء النجاح المبهر للتجربة، في ظل ظروف متواضعة وبعيدة عن الكمال.
المخطط الحالي، كما سبق أن شرحتُ، يغطي الحقول الواقعة في الضفة اليمنى لنهر أم الربيع. لكن ماذا عن الجهة اليسرى الواقعة بين الوادي والجبال؟
هنا يبدو أنه لا يوجد حل واضح، ولا يوجد نهر قريب لكي تُستغل مياهه. إلى أن طرح المهندسون الفرنسيون خطة غاية في الجُرأة.
في الجهة الأخرى للأطلس المتوسط يجري رافد متفرع من نهر أم الربيع، وهو وادي «عبيد»، ويجري بالموازاة مع المجرى الرئيسي للماء.
إن مياهه ممتازة، وتأتي من تجمعات المياه القادمة من الوديان العليا.
لم لا يتغير مجرى النهر إذن؟ لم لا يُنقل مجرى الوادي كاملا إلى الجهة الأخرى من الجبل؟
هذا هو الأساس البسيط لهذا المخطط الضخم.
من الواضح أنه مكلف جدا ماديا، لكن مع ابتكار طريقة جديدة للعمل، فإن استغلال الماء سوف يتضاعف.
سوف يتم توليد الطاقة الكهربائية أولا، ثم يتم تنفيذ مخطط للري ليشمل السهول.
توغلتُ بسيارة الـ«جيب» إلى قلب الأطلس المتوسط، لكي أجد مشهدا لمُعسكر بُني حديثا لكي يستقر به المُنقبون. لقد تم فعلا نصب جدار خرساني شاهق. ولحسن الحظ، فإن الوادي يجري في منطقة «بين الويدان»، بين مضايق صخرية. وعندما يُنشر هذا الكتاب فإن العمل على هذا المعسكر سوف يكتمل.
في هذا الملف، سوف نرى أبرز المحطات الأليمة التي تسببت فيها الفيضانات في المغرب على مدى قرون خلت، وكيف أن حوادث الفيضان كلفت المغرب والأجانب على حد سواء، خسائر سياسية واقتصادية مهمة.
إذ إن السفر في المغرب، قبل قرنين، لم يكن ليتم أبدا بدون عبور الوديان والأنهار العميقة، والتي يصبح عبورها في فصل الشتاء مستحيلا. كانت القاعدة أن تُشل الحركة تماما في المغرب فور بداية موسم المطر. حتى أن مغامرة بريطانية، سوف نتطرق إلى مغامراتها في هذا الملف، اعتبرت أن زيارة المغرب في فصل الشتاء تبقى مغامرة كبيرة. وكتبت تقول: «إن أصعب ما يمكن أن يعيشه المرء في حياته، هو شتاء واحد على الأقل في المغرب».
في عهد المولى الحسن الأول، تسببت السيول والأمطار الغزيرة في شل الحركة بين طنجة وفاس، ولم يجد وفد دبلوماسي رفيع من بريطانيا أي طريقة تجعل الوصول إلى فاس ممكنا سوى الانتظار في العراء، إلى أن يتراجع منسوب المياه.
وفي مناسبات تاريخية أخرى، فقد مواطنون أجانب حياتهم عند محاولاتهم عبور الأنهار المغربية في اتجاه العاصمة فاس، قادمين إليها من طنجة الدولية. إذ إن التقليل من شأن التيار القوي، وعدم توفرهم على تجارب تؤهلهم لخوض المغامرة، كلها عوامل عمقت مآسي العائلات الأجنبية الأولى التي أقامت في المغرب، أو اشتغلت في السلك الدبلوماسي أيام السباق الاستعماري، قبل اتفاق 1904 و1906.
1607.. حين نزل البَرد «بحجم البيض» وفاضت الوديان
يبقى المؤرخ المغربي أحمد بن خالد الناصري الذي توفي سنة 1897، أشهر وأبرز من أرخوا للأحداث الكبرى التي عرفها المغرب على مر القرون السابقة. إذ إن هذا المؤرخ اعتمد على أرشيف العلماء وكُتاب الوزراء ومؤلفات العلماء في عهد الدولة المغربية، منذ مجيء الأدارسة، وصولا إلى عصر الدولة العلوية. وجمع عصارة الأحداث السياسية والعسكرية وحتى الطبيعية التي عرفها المغرب، خلال قرون خلت، في مجلدات ضخمة اختار لها عنوان: «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى»، وهو مرجع تاريخي تُرجم إلى الإنجليزية، ويعتبره المؤرخون، مغاربة وأجانب، مرجعا لا بد منه للاطلاع على تاريخ المغرب والبحث فيه والكتابة عنه.
يقول الناصري في الاستقصا متحدثا عن الأضرار التي تسببت فيها سيول عنيفة محت معالم فاس سنة 1606: «في شعبان من السنة المذكورة كان سيل أعظم من الأول تهدمت منه الدور والحوانيت، وتهدم سد الوادي بفاس على وثاقته وإحكامه، وهذا السد هو الذي كان جدده السلطان أبو العباس أحمد الوطاسي، ثم جدده المنصور في هذه المرة من أحباس القرويين».
وفي السنة التي قبلها، كان الشتاء عنيفا، ووصفه الناصري بقوله: «وفي سنة خمس عشرة وألف في ثاني جمادى منها جاء بفاس سيل عظيم حتى غمر دور عمل الفخارين، وذهب ببعض أنادر الزرع، وحمل أمة من باب الفتوح فماتت.. وفي سنة اثنتين وعشرين وألف حدث الشر بفاس، ووقع الغلاء حتى بيع القمح بأوقيتين وربع للمد، وكثر الموتى حتى أن صاحب المارستان أحصى من الموتى من عيد الأضحى من سنة اثنتين وعشرين وألف إلى ربيع النبوي من السنة بعدها أربعة آلاف وستمائة، وخربت أطراف فاس وخلت المداشر ولم يبق بلمطة سوى الوحوش.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وألف وذلك عند فجر يوم السبت الثاني والعشرين من رجب منها حدثت زلزلة عظيمة بفاس، ذكر صاحب الممتع في ترجمة أبي عبد الله بن حكيم المذكور آنفا أنه كان قبل الزلزلة المذكورة يصيح المردومات المردومات، فإذا بالزلزلة حدثت، قال فما بقيت دار من دور فاس غالبا إلا دخلتها الفؤوس.
وفي خامس شعبان من السنة المذكورة نزل برد عظيم قدر بيض الدجاج وأكبر وأصغر، ورئي حجر عظيم منها نزل على خيمة فخرقها وفر أهلها عنها، وبقي لم يذب نحو ثلاثة أيام».
لكن أعنف المناظر التي وصفها الناصري في «الاستقصا»، والتي تسببت فيها السيول وفيضانات الوديان، ما وقع قبل التاريخ المذكور أعلاه بكثير. إذ جاء في مرجع الناصري ما يلي:
«وفي سنة أربع وعشرين وسبعمائة كانت المجاعة بالمغرب وارتفعت الأسعار في جميع البلاد، فبلغ المد من القمح بفاس خمسة عشر درهما والصحفة منه تسعين دينارا، وغلا الإدام وعدمت الخضر بأسرها، وكسى السلطان أبو سعيد وأطعم في هذه المسغبة شيئا كثيرا، ودام ذلك إلى قرب منتصف السنة بعدها وفيها في يوم الثلاثاء ثالث عشر رمضان، منها نشأ خارج فاس من جهة جوفيها سحاب عظيم وظلمة شديدة ورياح عاصفة، أعقب ذلك برد كثير عظيم الجرم تزن الواحدة منه ربع رطل وأقل وأكثر، ونزل في خلاله مطر وابل جاءت منه السيول طامية، حملت الناس والدواب وأهلكت جميع ما بجبل «زالغ» من الكروم والزيتون وسائر الشجر. وفي سنة خمس وعشرين بعدها ليلة الجمعة السادس والعشرين من جمادى منها دخل السيل العظيم مدينة فاس، وكاد يأتي عليها، بحيث هدم الدور والمساجد والأسواق وأهلك آلافا من الخلق، حتى خيف على البلد التلف».
مؤرخ إنجليزي: السيول أخّرت اتفاقيات مهمة مع المغاربة قبل قرنين
هناك شبه إجماع بين المؤرخين المهتمين بتاريخ المغرب، مغاربة وأجانب، أن الإنجليز أكثر من وثقوا للكوارث الطبيعية المرتبطة بفيضان الأودية والسيول.
السيد «روجرز»، باحث بريطاني، زاوج بين التنقيب في الوثائق الدبلوماسية ولقاءات المسؤولين البريطانيين الذين زاروا المغرب منذ عهد السعديين وصولا إلى سنة 1900، أي على امتداد ما يناهز حوالي أربعة قرون. هذا الأخير تناول موضوع تزامن زيارات دبلوماسيين، وتُجار بريطانيين إلى المغرب مع فيضانات قوية، في أزمنة مختلفة.
وحسب السيد «روجرز» في مؤلفه: «تاريخ العلاقات المغربية البريطانية حتى سنة 1900»، فإن علاقة البريطانيين مع الكوارث الطبيعية من هذا النوع في المغرب، تعود إلى قرون بعيدة منذ الفترة التي كانت فيها الملكة إليزابيث الأولى تراسل الدولة السعدية، للسماح بمنح تراخيص لشركات ملكية كانت مهتمة باقتناء السكر.
وفعلا فقد تسبب فيضان الوديان في خسائر كبيرة لتجار بريطانيين، أبرزها حادثة شهيرة كتبت عنها الصحافة في بريطانيا، كلفت أربعة تجار من مانشستر ثروة هائلة جرفتها السيول عندما كان مساعدوهم بصدد عبور نهر هائج، لنقل البضائع من الجديدة، فور وصولها بحرا، في اتجاه نواحي مراكش.
وفي ذلك الوقت كانت الأهداف التجارية تطغى على المراسلات بين المغرب وبريطانيا، ولم تبدأ العلاقة الدبلوماسية الحقيقية التي كانت وراءها أهداف سياسية واستعمارية إلا خلال القرن 19، عندما كانت المفوضية البريطانية في المغرب مع نهاية سنة 1894، تمهد لإنشاء شبكات علاقات قوية في المغرب، تزامنت بالضبط مع وفاة المولى الحسن الأول، لكي ينوب عنه وزيره باحماد الذي لم يكن في الحقيقة رجلا مناسبا لصداقة الإنجليز. كانوا يبحثون عن رجل تتوفر فيه معايير الحداثة والطموح إلى تغيير نمط الحياة السياسية. لكن الساسة المغاربة وقتها أو «المخزنيون» كانوا محافظين.
وعندما كان البريطانيون يُعدون العدة لاكتساح دبلوماسي يقطعون به الطريق على فرنسا إلى قصر فاس، ضربت سيول جارفة ووديان هائجة في نواحي المدينة، التي كانت وقتها عاصمة للمغرب، وأخرت عددا من المخططات الدبلوماسية التي كان البريطانيون يعزمون على القيام بها في المغرب، وأخرّت عددا من اللقاءات الدبلوماسية التي كتبت عنها الصحافة البريطانية بالتفصيل. وفي عهد المولى حفيظ، الوريث الثاني لحكم الحسن الأول الذي توفي سنة 1894، عرفت البلاد مجموعة من الفيضانات التي نشرت الصحافة الفرنسية والبريطانية خصوصا تفاصيلها، لأنها أخرت المفاوضات، وبسببها تأجل لقاء وفد رفيع من الخارجية البريطانية مع المولى حفيظ، واستغلت الصحافة البريطانية الموضوع لكي تضرب في الحكومة، وتسفه جهودها، حيث نشرت قصاصات في صحف المعارضة الممنوعة قالت فيها إن حكومة الملك إدوارد تسعى إلى استعمار بلد ما زالت الأمطار الغزيرة تقطع فيه الطرقات.
الفيضانات والسيول كلفت البريطانيين أيضا خسائر فادحة، عندما قطعت الاتصال بين مركز البريد البريطاني الكائن في طنجة، في شتاء سنة 1893، وتأخر وصول رسائل تحذيرية من فاس، كان قد أرسلها مبعوث بريطاني يُحذر فيها من تداعيات تأخر إرسال معونة إلى المغرب. وبحكم أن السيول كانت جارفة، فقد تأخر وصول الرسالة لأكثر من ثمانية أيام، وهو ما جعل المخزن، وكان المولى الحسن الأول سلطانا للمغرب، يقرر إرجاء الاتفاق مع الإنجليز إلى وقت لاحق، ردا على تأخرهم في التفاعل مع مطلب المخزن المغربي.
عندما تزامنت الفيضانات مع الحرب الإسبانية ضد «جْبالة»
مع انطلاق الحرب الإسبانية في نواحي الريف سنة 1920 ضد معظم منطقة جْبالة، هطلت أمطار غزيرة استمرت لأسابيع، وقال عنها الإسبان إنها غيرت معالم قرى بأكملها وتسببت في هدم المنازل الطينية والأكواخ المتهالكة.
كان هذا من وجهة نظر الإسبان، لكن القادة المحليين في المناطق أكدوا أن الجنرالات الإسبان استغلوا فرصة الأمطار وأمطروا بدورهم هذه القرى بوابل من القذائف، وهو ما تسبب في وفيات كثيرة، بسبب انتشار الأمراض وركود المياه التي نتجت عن السيول وفيضان الأودية.
كانت الأمطار الطوفانية في منطقة نفوذ الثائر الريسوني، سببا في تراجعه كثيرا وهزيمته الأولى ضد الجيش الإسباني، رغم تحالفاته الكبيرة في المنطقة. وحكى الريسوني بنفسه عن هذه المأساة التي تسببت فيها الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة، وكلفت سكان القرى قطعان المواشي ومخزون الحبوب، وهو ما جعلهم يتضورون جوعا تزامنا مع موجة البرد القارس.
يقول الريسوني في حديثه إلى السيدة «روزيتا فوربس»، صاحبة كتاب: «الريسوني.. سلطان جبالة»، وهو يستحضر ذكرياته عن تلك الحرب التي فاقمت من الخسائر التي تكبدتها قبيلته، بسبب السيول والفيضان:
«خلال الأشهر الأولى للحرب الجديدة، كان لدينا ما يكفي من الطعام، فقد جاءت عربات كثيرة من «مسوار» خلال فترة الهدنة التي كانت قصيرة، لكن ذلك الشتاء كان فظيعا في الجبال. كل القرى تقريبا دُمرت، لم تكن هناك أسقف لإيواء الناس الذين عاشوا في الكهوف والحفر على الأرض. الطاعنون في السن والصغار جدا ماتوا، بسبب البقاء في العراء، فقد هطلت أمطار كثيرة.
كادت الماشية أن تُباد كليا، واكتسحت الحرب كل شيء وامتدت إلى الجبال العالية. لم ينبس الحكماء بكلمة، فقد كان لا يزال هناك عشرة آلاف سجين في الريف، وكان معروفا كيف كان عبد الكريم يُعاملهم، لكن الجهلاء كانوا يعاتبونني قائلين:
- إن حكمة الله في صفك سيدي، وإن وضعنا صار أسوأ من السابق. كيف سنحظى بالأمن الآن؟
كنتُ أجيبهم:
- إن الابتلاء من الله. وبمشيئته وحدها سوف تنتهي الحرب، أو تستمر.
وكانوا يذهبون مُرددين مُطأطئين رؤوسهم:
- الله أكبر!
انتظرتُ وصول الصحف، كما كانت النساء تنتظر حليب الماعز الشحيح لإنقاذ أبنائهن. خلال تلك الفترة كلها كانت تصلني أخبار أوروبا من طنجة، وجواسيسي لم يخذلوني أبدا.
مات الكثيرون من أصدقائي خلال تلك الأشهر، وكانت لائحة الشيوخ الذين كانوا في صفي تتقلص يوميا».
مؤلفة بريطانية حصدت الشهرة سنة 1873 بكتاب «شتاء في المغرب»
يتعلق الأمر بالمغامرة والرحالة البريطانية «آميليا بيريير»، وهي واحدة من أوائل السيدات الأجنبيات اللواتي زُرن المغرب، وأقامت لمدة في مدينة طنجة الدولية، وكتبت عن الحياة في المغرب وحصدت إعجابا كبيرا وتهافتت عليها كبريات الصحف البريطانية لتحاورها، بعد صدور كتابها الذي حكت فيه عن يومياتها ومعاناتها مع فصل الشتاء في المغرب، وحالات الفيضان والسيول والبرد القارس وغياب الطرق.
تقول المغامرة «آميليا» وهي تصف أجواء الشتاء المغربية سنة 1873: «إن أصعب ما يمكن أن يعيشه المرء في حياته، هو شتاء واحد على الأقل في المغرب».
هذه العبارة لوحدها، جعلت عشرات آلاف القراء في بريطانيا يتهافتون على مذكراتها.
«.. ورأيت أضواء طنجة تلوح أمامنا، ثم أشعل الكابتن سيجارة جديدة. لقد استغرقت الرحلة سبع ساعات وكانت الأسوأ. هكذا قال الكابتن.. أصبح البحر هادئا. وهكذا بدأ الجميع في جمع أغراضهم، ويستعدون بفرح كبير للنزول عبر المعبر الخشبي. لكن كان علينا أن نصبر بعض الوقت، قبل أن يصبح هذا الأمر ممكنا.
أبواب طنجة كانت تُغلق مع الغروب، وكان ضروريا أن تُفتح لنا البوابة البحرية، التي أغلقت قبل وصولنا بساعات طويلة، لكي نعبر من خلالها. لكننا وصلنا متأخرين بساعة عن الموعد، وهكذا بدا من الصعب أن يسمح لنا عمال المعبر بالعبور، خصوصا منا الذين كانوا يعرفون لباس وطباع ومزاج المسؤولين المغاربة والذي كان متقلبا تماما كالطقس، لم نكن متأكدين ما إن كانوا سيسمحون لنا بالعبور، أم لا».
لكن «آميليا» لم يفتها أن تُشير إلى خبرة المغاربة في التعامل مع فصل الشتاء، وكتبت تقول: «كل الذين كانوا ينوون الاستقرار لأكثر من سنة في طنجة يلجؤون إلى حيلة اقتناء منازل خاصة، وليس كراء شقق صغيرة، حسب الذوق الأوروبي، لقضاء أشهر الشتاء أو الصيف. والسبب هو مقاومة المنازل المحلية لبرد الشتاء، خصوصا في الشمال، ولأن المحليين كانوا يعرفون شتاء بلدهم أكثر».
وهنا تصف آميليا أجواء الشتاء في طنجة، بدقة أكبر:
«هكذا تبدو طنجة جميلة في فصل الربيع، إنها تمطر أحيانا في طنجة. وعندما يهطل المطر، فإنه يهطل بشدة. وتختفي الجبال بسبب كثافة الضباب. وتمتزج السماء والأرض أيضا في لونها البني بسبب المطر.
لكن رغم ذلك، فإن المطر يكون رائعا في شهري نونبر ودجنبر، لكن السماء في رأس السنة تكون صافية، بينما تكون أشعة الشمس حارقة».
ورغم أن آميليا أفردت في هذه المذكرات حيزا مهما لأجواء الشتاء، إلا أنها لم تتعمق في ذكر معاناة الفلاحين والقرويين المغاربة الذين كانوا يعيشون في المناطق النائية في محيط طنجة. واكتفت بوصف حالتهم أثناء توافدهم إلى المدينة لبيع منتجاتهم الفلاحية، وآثار المعاناة مع الوديان والسيول بادية عليهم وعلى مواشيهم.
صحيح أن آميليا في رحلتها المغربية ركزت أكثر على المدينة الدولية، التي «سحرت» أجواؤها ملايين القراء الإنجليز طوال قرنين تقريبا، إلا أنها لم تنس الإشارة إلى مصاعب الحياة في المغرب في وقت كان كل ما يطلع عليها القراء الإنجليز في وطنهم، مقالات تروج للانتصار الدبلوماسي لبريطانيا في المغرب، والحياة الرغيدة التي تعد بها حكومة بريطانيا مواطنيها الذين اختاروا طواعية الانتقال إلى محيط منطقة جبل طارق، وطنجة الدولية على وجه الخصوص.
لقد كانت هذه المذكرات بمثابة الحقيقة التي أيقظت البريطانيين من الحلم الجميل الذي رسمه لهم الحكوميون والدبلوماسيون عن المغرب، دون أن تشوه صورة البلاد في أعين هؤلاء القراء الأجانب.