تاجر القصر الذي بُعث إلى البرتغال
أرسله الملك محمد بن عبد الله سنة 1779 وأمره بالإقامة في لشبونة
«ربما لو كان هذا الثري المغربي، الطيب بوهلال، بيننا اليوم لتحسر على السنوات التي عاشها وهو يحاول إقناع نفسه أيام السلطان محمد بن عبد الله بأنه يتعين عليه أن يوقف تجارته وأرباحه الضخمة، ويتركها جانبا لكي يعيش في لشبونة لفترة يدرس خلالها السوق الأوروبي وعقلية البرتغاليين الاستثمارية.
إذ إن عالم اليوم يمكّن أي طالب من إنجاز المهمة نفسها، لكن في جامعات الاقتصاد، وليس في الجولات بين المدن ولقاء النافذين وكبار التجار، وحجز موعد مع ملكة البرتغال، وتقديم رسائل رسمية إليها من طرف السلطان شخصيا في انتظار ردها.
تغير العالم كثيرا، لكن سيرة الطيب بوهلال المنسية تستحق فعلا أن تُروى، لأنها بمعايير ذلك الوقت كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر، خصوصا وأن الرجل حمل معه أموالا طائلة على متن السفينة، لكي يمول تحركاته وإقامته في لشبونة ويضمن نجاح المهمة التي أوكلت إليه..».
يونس جنوحي
السيرة المنسية للطيب بوهلال..
في سنة 1779، كان التاجر المغربي الطيب بوهلال، والذي كان من أكبر أثرياء المغرب وقتها، يحزم أغراضه لكي يركب سفينة أجنبية ويعبر البحر في اتجاه البرتغال، في إطار مهمة كلفه بها السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
وحسب ما أشار إليه المؤرخ عبد الهادي التازي، في «التاريخ الدبلوماسي للمغرب»، فإن الطيب بوهلال لم يكن يمثل المغرب في إطار بعثة دبلوماسية أو «سفارة» لحمل رسائل رسمية من القصر المغربي إلى نظيره في البرتغال. بل كان الأمر يتعلق بمهمة من نوع خاص، لا علاقة لها أبدا بما هو سياسي.
إذ إن السلطان محمد بن عبد الله استدعى الثري المغربي الطيب بوهلال، بعد أن أشار إليه مستشارو السلطان باعتباره أنسب من يصلح للمهمة.
شرح السلطان لبوهلال مهمته بالتفصيل، إذ كان ظاهر المهمة أن يحمل بوهلال رسائل متنوعة من السلطان إلى الملكة «ماريا»، وكل تلك الرسائل تتناول مقترح إنشاء شركة تجارية يستفيد منها البلدان، حيث أطلق عليها السلطان المغربي «الدار التجارية»، وأشارت إليها تلك الرسائل فعلا.
لكن الغرض الخفي من تلك الرحلة، أن يعيش بوهلال أطول فترة ممكنة بين البرتغاليين ويفهم العقلية الاستثمارية البرتغالية.
بلغة اليوم، كانت مهمة الطيب بوهلال، «دراسة السوق»، حتى يكون المغرب قادرا على المنافسة في المستقبل.
عندما انطلق الطيب بوهلال في رحلته، كان المكلف بإيصاله سالما، حسب ما أشار إليه الأرشيف الدبلوماسي، هو القبطان «علي بيريس».
هذا الأخير لم يكن مجرد ربان سفينة، بل كان يشتغل لصالح المغرب في علاقته مع دول أوروبية، حيث يتولى نقل البضائع والإرساليات الهامة، وكُلف بإيصال الطيب بوهلال إلى وجهته، لكن كانت له أيضا مهمة من نوع خاص.
كانت هذه المهمة تتمثل في حمل قدر كبير من المال، لقضاء بعض الأغراض السلطانية.
لم توضح الرسائل الدبلوماسية أي تفاصيل عن تلك الأغراض السلطانية، لكن كان واضحا أن تلك الأموال التي مُنحت لهذا القبطان، كان الهدف منها شراء هدايا مناسبة في البرتغال لتوزيعها على محيط القصر البرتغالي، لتسهيل مهمة التاجر الطيب بوهلال وتعبيد الطريق أمامه للقاء التجار البرتغاليين.
إذ بالإضافة إلى المترجم الذي تكلف بربط الاتصال بين بوهلال والشخصيات البرتغالية النافذة وترجمة مضامين اللقاء مع الملكة ماريا دون أي تحريف، كان لا بد أيضا من تمويل حجز مكان إقامة بوهلال، واللقاءات التي ربطها مع التجار البرتغاليين لإنجاح موضوع الشركة المغربية البرتغالية.
كان مشروع من هذا النوع يحتاج إلى تمويل خاص، إذ إن الغرض من بعث بوهلال، ليس لأنه ثري بإمكانه تحمل مصاريف إقامته وتنقله لأشهر في البرتغال، لكن الهدف من إرساله كان استغلال خبرته التجارية ودرايته بعالم التجار البرتغاليين الذين ربط معهم في السابق علاقات تجارية من المغرب، واستمالتهم لكي يصوتوا لصالح «الدار التجارية» المشتركة.
كانت جولة بوهلال تقتضي اللقاء في كل مدينة يصل إليها بأعيانها من التجار الكبار ومفاتحتهم في موضوع الشركة المغربية البرتغالية. وبحكم أنه كان على دراية كبيرة بالسوق، فقد كان يعلم ما يمكن أن يثير انتباه تجار كل منطقة على حدة.
يحتفظ الأرشيف البرتغالي الرسمي بإشارات إلى «الطيب بوهلال»، حيث انتبه البرتغاليون إلى طموح هذا التاجر الذي كان يشهر الرسائل المهمة التي حملها معه والاعتماد الذي منحته الملكة ماريا إياه.
حتى أن مدينة لشبونة كانت تتحدث عن هذا الضيف المغربي بكثير من الاهتمام، حيث إن بوهلال قضى أغلب مدة إقامته في البرتغال، في مدينة لشبونة.
بعد تلك الرحلة التي لا تتوفر أية معلومات عن مدتها ولا المآل الذي آلت إليه، حقق المغرب فعلا تفوقا تجاريا على البرتغاليين، وأصبح تجار مغاربة منفردين قادرين على منافسة كبار رجال الأعمال البرتغاليين. بل إن الانتصار العسكري للمغرب على البرتغال لاحقا، مكن المغاربة من فرض ضرائب على أرباح البرتغاليين في المغرب، في مقابل تمكين التجار المغاربة من امتيازات مهمة عند تصدير المواد الأولية التي يحتاجها البرتغاليون، واحتكارها بشكل شخصي في أغلب الحالات. وهو ما يعني أن مهمة الطيب بوهلال، قد نجحت في شقها الخفي المتعلق بقراءة العقلية التجارية للبرتغاليين.
هل كان «رجال الأعمال المغاربة» الأوائل معجبين بأوروبا؟
أمثال الطيب بوهلال، رغم أن مصطلح «رجل الأعمال المغربي» لم يكن قد ظهر وقتها نهائيا، كانوا فعلا رجال أعمال حتى لو أنهم لم يحملوا تلك الصفة رسميا.
كانوا تُجارا في أعين المغاربة والأوروبيين أيضا، ورغم أنهم كانوا أثرياء إلا أنهم كانوا محافظين، ويتاجرون بالطريقة التقليدية، بحكم أن «المخزن» كان يرسم الخطوط العريضة لتعاملات التجار المغاربة مع كبار الشركات الأجنبية.
وطبعا، فقد كان هؤلاء التجار المغاربة يخضعون لطبيعة العلاقات التي تربط المغرب بدول أوروبا، ويتأثرون بالحروب وقطع العلاقات. وهو ما جعلهم يبقون في ظل المخزن ويحرصون على ألا يواجهوا «الهيمنة التجارية الأوروبية» وحدهم.
لكن هذا كله، لم يكن ليمنع الاعتراف بأن هؤلاء التجار المغاربة كانوا ناجحين وعلى قدر كبير من «الدهاء» التجاري.
فإلى جانب الطيب بوهلال الذي كان محل ثقة سلطانية كبيرة أيام المولى محمد بن عبد الله، نجد أيضا التاجر الحاج محمد عناية.
هذا الأخير، كان يجمع بين التجارة والدبلوماسية. إذ إن قربه من السلطان مكنه من اختياره لكي يمثل المغرب في لشبونة، في إطار زيارة رسمية سنة 1780، لكي يعمل على تنشيط التبادل التجاري بين المغرب والبرتغال ويقنع البرتغاليين برفع أرقام المبادلات مع المغرب، وإيلاء أهمية أكبر للعلاقات الاقتصادية بين البلدين.
مهمة من هذا النوع كانت تتطلب توفر الوفد المغربي على خبرة كبيرة في عالم التجارة، وليس السياسة.
وهو ما جعل السلطان يختار الحاج محمد عناية، ويرسل معه مجموعة من «الخبراء» المغاربة في التجارة، وعلى رأسهم عبد الرحمن بريطل ومحمد التيال. وهؤلاء كانوا يجمعون بين الوظائف المخزنية والإلمام بالاقتصاد المغربي والمعرفة الدقيقة لحاجة السوق المغربي، بحكم أن البلاط الملكي كان وقتها يتوفر على موظفين مهمتهم ضبط أرقام تعاملات التجار المغاربة الكبار مع الدول الأجنبية، والحرص على أن يؤدوا بانتظام ضرائبهم للدولة. حتى أن أكبر موارد المغرب ماليا، كانت الضرائب القادمة من الموانئ التجارية. وهو ما جعل السلطان محمد بن عبد الله يرسل هذه البعثة إلى البرتغال لزيادة النشاط التجاري مع المغرب، وهو ما يعني بالضرورة ارتفاع العائدات المغربية من القطاع.
وفي الوقت الذي كان يخيم فيه الوجوم على علاقة بعض التجار المغاربة مع الأجانب، بسبب ما كان تسمى وقتها «تداعيات الجهاد البحري»، فإن طريقة تدبير المولى محمد بن عبد الله للحكم ساعدت كثيرا على إيقاف الجهاد البحري وتأمين مرور السفن، وهو ما كان يعني ازدهار التجارة المغربية في الموانئ وارتفاع عائداتها، رغم المحاولات الفردية التي كانت تقوم بها القبائل المغربية في شواطئ البحر المتوسط، سيما قرب الناظور، وفي المحيط الأطلسي قرب سلا، حيث كانت بعض القبائل ترفض الانصياع لتوصيات السلطان، وتمارس الجهاد البحري وتستهدف السفن الأجنبية. وكان بعض التجار المغاربة الكبار متهمين بتمويل تلك العمليات، لإضعاف منافسيهم الأجانب وتقليل حظوظ هيمنتهم على الأسواق.
إلا أن السلطان محمد بن عبد الله نجح فعلا في احتواء تلك المناوشات، وأبرم اتفاقيات مهمة مع دول أوروبية، خصوصا بعد أن نجح في طرد الفرنسيين من ميناء العرائش وأحبط محاولتهم الهيمنة على ميناء المدينة.
هذا الأمر جعل تجارا مغاربة كبارا يعجبون بطريقة تدبير السلطان محمد بن عبد الله لعلاقاته مع أوروبا، ورغبوا في إبرام صفقات تجارية مع شركات أجنبية، عادت عليهم بأرباح مهمة. وهكذا بعد كانت مشاكلهم مع «القرصنة» قد اختفت، ظهرت مشاكل أخرى بينهم وبين جباة الضرائب المغاربة.
ورغم أن هؤلاء التجار المغاربة راكموا أرباح مهمة، إلا أن وفاة المولى محمد بن عبد الله سنة 1790 ونهاية فترة حكمه، أضعفت كثيرا التجارة المغربية وعاشت فترة فراغ امتدت لثلاث سنوات كاملة، أثرت كثيرا على الوضع الاقتصادي للبلاد، ولهؤلاء التجار المغاربة أيضا.
البرتغاليون حاولوا التدخل في الشأن الداخلي للمغرب سنة 1576
من الجوانب المسكوت عنها في التاريخ، تلك التي تتعلق بعلاقة السلطان المغربي المولى محمد مع فيليب الثاني، ملك إسبانيا، بالإضافة إلى العلاقة مع «الدون سيباستيان»، ملك البرتغال. إذ رغم أن الأمور آلت إلى الأسوأ في العلاقة بين هؤلاء، إلا أن جوانب سرية كثيرة طالها النسيان، أثرت كثيرا على مستقبل العلاقات بين المغرب والبرتغال، خلال العقود المقبلة.
ما وقع أن السلطان المغربي طلب إعانة من صديقه ملك إسبانيا، بقصد إزاحة أخيه عن الحكم، حسب ما أشار إليه مرجع إسباني عنوانه «Portfolio España» Historia de، ونشرت ترجمة مقتطفات منه إلى العربية سنة 1982، في إطار بحث أكاديمي نُشر في العام نفسه. جاء في هذه الترجمة:
«إن ملك المغرب مولاي محمد طلب إعانة من فيليب الثاني، ملك إسبانيا، لإزاحة أخيه عن الملك، ولكن هذا (أي فيليب) رفض ذلك فحول طلبه إلى الدون سيباستيان، ملك البرتغال، فلبى رغبته رغم معارضة الجميع ومنهم فيليب، لكنه كان يحتاج إلى مساندته، فطلب مقابلته شخصيا بواسطة سفيره مع طلب يد ابنته الكبرى أيضا، وفي 12 دجنبر من عام 1576 تمت المقابلة، ولكن هذه المقابلة لم تكن مجدية، لكن ملك إسبانيا ـ يقول صاحب الكتاب المذكور ـ قدم لسيباستيان نحو خمسة آلاف رجل وخمسين مركبا حربيا في حدود خاصة، الشيء الذي لم يرق الملك البرتغالي، كما حدد فيليب لسيباستيان شروطا منها أن لا يتعدى في حملته العرائش، مع شروط أخرى مقننة ـ يقول الكاتب ـ لكن سيباستيان لم يقف عند هذا، فجهز حملة من إسبان وإيطاليين وألمان وبرتغاليين ونزل بأصيلة، وتابع سيره إلى أن وصل إلى سهول القصر الكبير، حيث كان مصيره المحتوم».
هذه الوقائع تكشف إلى أي حد كان البرتغاليون مستعدين للتدخل في الشأن الداخلي في المغرب، سيما عندما يتعلق الأمر بالسيطرة على السواحل المغربية، التي كانت تعني بالنسبة إلى البرتغاليين مزيدا من تحصيل عائدات التجارة البحرية، وضم دول جديدة في إفريقيا إلى مستعمراتهم.
والحقيقة أن ملك البرتغال كان يعامل «خاله» ملك إسبانيا، بنوع من الإعجاب، بحكم أن ملك إسبانيا خاض حروبا وقتها ضد «المسلمين»، وكانت له دراية بالمعارك البحرية على الخصوص، حيث كان الإسبان يعمدون إلى اختطاف السفن العابرة من مضيق جبل طارق ويصادرون حمولاتها التي كانت في الغالب ملكيتها تعود إلى تجار مغاربة. وعندما كان المغاربة يردون بالإجراء نفسه على سفن أجنبية، كان الإسبان ومعهم البرتغاليون يعتبرون الأمر «قرصنة» وسرقة وإشعالا لفتيل الفوضى في المنطقة البحرية الفاصلة بين الدول الثلاث.
هذا الأمر جعل سلاطين المغرب منذ ذلك التاريخ يعمدون إلى اختيار سفراء على قدر كبير من النزاهة والكفاءة، لكي يبتوا في النزاعات. وكان دورهم يشبه دور المُدربين على فك القنابل والمشي فوق حقول الألغام.
إذ إن زيارات عديدة لسفراء مغاربة إلى البرتغال، وزيارات أخرى موازية لسفراء برتغاليين ومن جنسيات أوروبية أخرى إلى المغرب، تزامنت مع اشتداد الأزمات السياسية، وهو ما كاد يكلف هؤلاء السفراء حياتهم في أكثر من مناسبة، إذ حتى لو سلموا من الاعتقال كأسرى لمقايضتهم، فإنهم يكونون معرضين لمخاطر الطريق، خصوصا في طريق عودتهم إلى المغرب.
السلطان محمد بن عبد الله أول من فكر في احتلال «أوروبا».. تجاريا
هذا السلطان المغربي، الذي حكم المغرب سنة 1757، حفيد المولى إسماعيل، وابن السلطان مولاي عبد الله المشتهر بغزارة علمه واهتمامه بالعلماء، ورث عن والده وجده تركيبة جعلته أكثر من استحق الحكم بعد وفاة والده المولى عبد الله. إذ جمع بين ما تتطلبه المرحلة من استعداد للحروب البحرية والنفسية مع أوروبا، بعد أن ورث عن جده الكثير من الدهاء السياسي، وبين الكياسة وتقدير واقع الأمور وتقدير رأي العلماء الكبار في الدولة. وهذه التركيبة هي التي جعلت هذا السلطان يتجنب أسوأ أزمة سياسية كانت تهدد المغرب، عندما وقعت أزمة السفن الأمريكية في البحر المتوسط، ووجه الأمريكيون أصابع الاتهام إلى البحريين المغاربة، لأنهم قدموا فعلا المساعدة للبحارة في ليبيا عندما قاموا بمهاجمة سفينة تجارية أمريكية.
ولكي يطوي هذا السلطان تلك الصفحة، اعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبح بذلك أول حاكم في التاريخ يتخذ تلك الخطوة، وفاز بسبق تاريخي لا يزال يتم الاحتفاء به إلى اليوم.
هذا السلطان هزم فرنسا في معركة العرائش، وطرد الإسبان والبرتغاليين بعيدا عن السواحل المغربية، وأمّن الشريط الحدودي المغربي ضد أي اعتداء. كما أنه دخل في مفاوضات لاسترجاع المخطوطات العربية من إسبانيا، خصوصا الخزانة الزيدانية التي طالب بها المولى إسماعيل ولم ينجح في استعادتها.
كل هذه التطورات في عهده، جعلته يفكر في خوض حرب نفسية ضد الأوروبيين بعد أن حقق انتصارات ميدانية ضدهم، وهو ما جعله يرسل مبعوثين في أكثر من مناسبة، إلى البرتغال على وجه الخصوص، لانتزاع اتفاقيات تجارية عادت بأموال طائلة على الخزينة المغربية.
وإلى حدود 1790، وهو العام الذي توفي فيه المولى محمد، كان هذا السلطان العلوي قد أبرم اتفاقيات كثيرة جعلت المغرب يحظى بمكانة كبيرة، إلى درجة أنه رفض التعامل مع الروسيين، لأنهم كانوا في حرب ضد العثمانيين، وانتشر هذا الرفض في أوروبا، وكان واضحا أن وراءه دواعي دينية، بحكم أن المولى محمد رفض مصافحة مسؤولي دولة ترفع السلاح في وجهة العثمانيين.
حدث هذا في وقت كان السلطان مولاي محمد يرسل المبعوثين إلى كل من إسبانيا والبرتغال، رغم الحروب الطاحنة التي قادها ضدهما خلال السنوات الأولى لحكمه، وعمد إلى حدود سنة 1784، أي قبل وفاته بست سنوات، إلى إرسال مبعوثين حاملين رسائل صداقة إلى البلدين، عارضا إبرام اتفاقيات تجارية لتصدير المواد المغربية الخام إلى السوق الأوروبية، واستيراد ما كان ينقص المغرب من مواد صناعية، خصوصا في سنوات الجفاف، وهو ما جعل المغرب في عهده قوة اقتصادية مهمة، توفرت لها كل الشروط السياسية والأمنية، إلى درجة أن المغرب بسط هيمنته على السوق، قبل أن تتغير الأوضاع بعد وفاة هذا السلطان سنة 1790، إذ بعد صراع أبنائه على الحكم، انتهت صلاحية اتفاقيات تجارية بين المغرب والبرتغال على وجه الخصوص، وعادت المناوشات الأوروبية على السواحل المغربية إلى الظهور من جديد، وهو ما كان يعني محاولة احتلال ميناء الجديدة مرة أخرى، وكسر الاقتصاد المغربي.
هدايا «غريبة» قدمها المغرب للبرتغال لطي الخلافات
تستحق بعض الهدايا التي قدمها المغرب إلى البرتغال ما بين سنتي 1774 و1790، تاريخ وفاة المولى محمد بن عبد الله، أن توصف بالغريبة.
إذ مباشرة بعد انتهاء الحرب وتبادل الأسرى بين البلدين وإبرام الاتفاقيات التجارية، شرع المغرب في إرسال هدايا، واستقبل أخرى، لإضفاء نوع من الصفاء السياسي على العلاقات الدبلوماسية مع البرتغاليين، سيما وأن المغرب وقتها قد بادر إلى إرسال بعثات تجارية مغربية لاستطلاع السوق في البرتغال وإبرام صفقات تجارية لصالح المغرب، بحكم أنه كان المنتصر في تلك المعارك.
أولى الهدايا التي أرسلها المغرب إلى البرتغال، مباشرة بعد نهاية الحرب، كانت سنة 1774، إذ حمل السفير المغربي القايد عمر الداودي، رسالة من المولى محمد بن عبد الله إلى الدون جوزيف، ملك البرتغال، ومعه وفد مغربي من أربعين شخصا، وأحضر معه إلى جانب الرسالة الملكية، ستة خيول من سلالة نادرة أهداها المغرب إلى البرتغال.
وبعد ثلاث سنوات ذهب باشا مدينة تازة سفيرا إلى البرتغال، وكان اسمه عبد المجيد الأزرق، ولا يزال أرشيف زيارته تلك متوفرا في المكتبة الوطنية بلشبونة. وكان الغرض من تلك الزيارة تقديم التعازي في وفاة الملك جوزيف، وتهنئة ابنته التي أصبحت ملكة للبرتغال.
هذه المرة، كان البرتغاليون هم من قدموا هدية ثمينة جدا إلى المغرب.
إذ نظموا جولة للباشا الأزرق في أبرز معامل البرتغال، وأخذوه في جولة استكشافية إلى دار السكة، حيث أطلعوه على طريقة ضرب النقود المعدنية، ولم يصدق نفسه عندما كان بصدد المغادرة، حيث أهداه القصر البرتغالي أربعة صناديق كبيرة تحتوي على آلات من دار السكة، ووضعوا رهن إشارة المغرب ستة تقنيين للإشراف على تلك الآلات وتشغيلها عندما تصل إلى المغرب. وطلبوا منه أن يقدمها هدية رسمية من مملكة البرتغال إلى الملك المغربي.
ويوجد في أرشيف الرسائل الرسمية، والتي اطلع عليها مؤرخ المملكة الراحل عبد الهادي التازي، ما يؤكد حلول البعثة البرتغالية في المغرب، حيث مكث أفرادها 18 شهرا عملوا خلالها على تشغيل آلات ضرب النقود، وتعليم بعض العمال المغاربة طريقة تشغيلها.
كانت تلك الآلات متقدمة جدا في ضرب النقود، حيث كان المغاربة على دراية بالطريقة القديمة لضرب العملة، لكن تلك الآلات العصرية كانت تشكل ثورة في عالم المال، وهو ما جعل اهتمام السلطان المغربي وقتها يتحول نحو الغزو التجاري لأوروبا، بدل المعارك العسكرية.
ومن الطرائف المرتبطة بموضوع الهدايا، أن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد اعتراف المغرب باستقلالها، أهدت إلى المغرب في عهد جورج واشنطن، أول رئيس للبلاد بعد إعلان استقلالها رسميا، ساعة حائطية تعمل بطريقة ميكانيكية أثارت إعجاب السلطان المغربي. إذ إن الساعة، حسب ما تشير إليه الرسائل الدبلوماسية، كانت تتوفر على مجسم طائر من نوع «الكناري» يتحرك ميكانيكيا داخل قفص، لينقر الخشب بعدد الساعات التي تشير إليها الساعة.
لكن المغرب بعد احتفاظه بالساعة مدة قصيرة، أهداها إلى البرتغاليين، دليلا على حسن النوايا والصفاء الذي خيم على العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين البلدين.
لماذا لم تنجح تجربة التجار المغاربة في البرتغال؟
الجواب عن هذا السؤال يبقى مركبا. إذ إن وفاة المولى محمد بن عبد الله سنة 1790 شكل ضربة موجعة للمشرفين على مخططاته، خصوصا منها المتعلقة بالسيطرة الاقتصادية على منطقة البحر المتوسط، واستغلال السواحل المغربية بين آسفي والجديدة تجاريا.
إذ مباشرة بعد وفاة المولى محمد بن عبد الله راسل البرتغاليون ابنه المولى اليزيد، عن طريق قنصلهم في طنجة، وقدموا إليه التهاني، رغم أن المغرب وقتها كان يعيش فترة انتقالية ونقاشا حول أحقية أبناء المولى محمد بن عبد الله بالحكم بعد وفاة والدهم، سيما وأن الوضع الصحي للمولى اليزيد لم يكن يسعفه لتحمل أعباء الحكم، وهو ما جعل أخاه المولى سلامة يبادر إلى الرد على البرتغاليين ويخبرهم عبر قنصلهم في طنجة، أنه ورث الحكم بعد وفاة أخيه اليزيد متأثرا بالمرض. وهي المراسلة التي لا يزال أرشيفها موجودا، وتعود إلى تاريخ 23 مارس 1792.
ولم يكن البرتغاليون وحدهم من توصلوا بتلك الرسائل، بل توصل بها جميع القناصلة الأجانب في منطقة طنجة. ومن خلالها بلغتهم وفاة المولى اليزيد الذي حكم المغرب أقل من سنتين.
وعادت الأزمة الداخلية إلى الظهور من جديد في المغرب، لكي تهوي كل الاتفاقيات السابقة، وتحل محلها الأطماع السياسية من جديد. وهو ما جعل التجار المغاربة الذين كانت تربطهم اتفاقيات استيراد وتصدير من وإلى أوروبا، يتكبدون خسائر كبيرة بعد توقف أعمالهم وتجميد أنشطتهم.
كان الأمر أشبه بالعودة إلى الصفر، خصوصا وأن بريطانيا دخلت على الخط في محاولة منها لتقزيم الحضور السابق للبرتغاليين، وأصبح الوضع الداخلي في المغرب أسوأ من السابق.
ورغم أن الأمور عادت جزئيا إلى نصابها بعد وصول المولى سليمان إلى الحكم، بعد أن توصل مع إخوته إلى اتفاق بهذا الشأن، إلا أن المغرب تضرر اقتصاديا بسبب فترة الفراغ ما بين سنتي 1790 و1793.
وحاول المولى سليمان طمأنة البرتغاليين إلى مستقبل علاقاتهم بالمغرب والامتيازات التجارية التي تربط البلدين، إلا أن ما آلت إليه الأمور من تدخل دول أخرى، جعل أمر الاحتفاظ بتلك الضمانات صعبا للغاية، خصوصا وأن تجار إنجليز دخلوا بقوة على الخط وحاولوا إضعاف المغرب أكثر لكي يتفاوضوا مع البرتغاليين لتقاسم المناطق التجارية، وهو ما عجل بنهاية التجار المغاربة.
واحتاج المغرب إلى أزيد من نصف قرن، لكي يأتي جيل جديد من التجار المغاربة الذين ربطوا صداقات مع الإنجليز، الذين أصبحوا المسيطرين الجدد على التجارة مع المغرب.
هؤلاء التجار الإنجليز ربطوا علاقات مع جيل آخر من التجار والأعيان المغاربة، بتنسيق مع «المخزن» المغربي بطبيعة الحال، لكن فترة الفراغ كانت قد أثرت كثيرا على المغرب خلال القرن الثامن عشر. إذ مع وصول السلطان المولى الحسن الأول إلى الحكم، كان جيل التجار المغاربة في فاس ومراكش والصويرة بالكاد يقدرون على منافسة الشركات البريطانية التي وضعت ممثلين لها في ميناء الصويرة على وجه الخصوص، لاحتكار استيراد وتصدير المواد المغربية الخام، وتقاسم عائداتها مع خزينة الدولة.