محمد احميمد سورة الفاتحة مكية، هي فاتحة كتاب الله تعالى، باعتبار ما يضمه المصحف الشريف، وقد سميت بأم القرآن وأم الكتاب، وهي كالمقدمة بالنسبة للقرآن الكريم، ذكر الله فيها كليات القرآن التي فصلها وبينها في السور الأخرى من القرآن الكريم، وتُقرَأ في كل الصلوات لأنها مذكرة للمؤمنين في صلاتهم، ولما تحمله هذه السورة من مبادئ كلية تهم الرؤية الكونية وقضيتي المبدأ والمعاد، حيث يؤطر كل ذلك التفكير الإسلامي، وحياة الإنسان من المهد إلى اللحد.
1 – قال الله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ)) [سورة الفاتحة:1-2].
حمدا لله على نعمة نزول القرآن إنذارا للناس من بأس شديد، وبشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، كما قال الله تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا))[سورة الكهف:1-2].
((الرحمن الرحيم)) ذكر الرحمة لأن هذا القرآن هو رحمة للمؤمنين وللعالمين، كما قال الله تعالى: ((وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ))[سورة الإسراء:82] وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ))[سورة يونس:57] وقوله تعالى في حق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ))[سورة الأنبياء:107]، وكان تعلم القرآن من الله رحمة، قال تعالى: ((الرَّحْمَٰنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ))سورة الرحمن:1-2].
2 – قال الله تعالى: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ))[سورة الفاتحة:4].
تنبيه المؤمنين على الأعمال الصالحة، وتحذيرهم من يوم الآخرة، وأن هذا القرآن الذي يقرأون فيه تذكير من أوله إلى آخره باليوم الآخر، وأن الله مالك الأمر فيه وحده، وهو المحاسب للناس جميعا، كما قال تعالى: ((لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))[سورة غافر:16-17].
3 – قال الله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[سورة الفاتحة:5]
يجب توجيه العبودية لله وحده، والخضوع والاستسلام له، وطلب العون منه دون سواه، فهو الأحق بذلك كله.
4 – قال الله تعالى: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ))[سورة الفاتحة:6-7].
يجب التماس الهداية منه سبحانه؛ لأنه هو الهادي إلى صراطه المستقيم؛ كما قال تعالى: ((وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ))[الحج: 54]، والصراط المستقيم هو القرآن، كما قال تعالى: ((وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[سورة الأنعام:153]، فكل من لم يتبع هذا الصراط فهو من المغضوب عليهم والضالين.
نسأل الله الهداية والسداد.
سورة البقرة (1)
سورة البقرة مدنية، تناولت في معظم خطابها الجانب التشريعي للإسلام وتنظيم المجتمع بالدرجة الأولى، وربط الحياة الدنيا بالحياة الآخرة، وقد جمعت بين الأبعاد الثلاثة للإسلام؛ العقدية والتشريعية والأخلاقية، مما يفيد أن الإسلام منظومة فكرية وإيديولوجية واحدة لا انفكاك فيه بين الجانب النظري والجانب العملي، وهو ما يعرف في الفلسفة بالحكمة النظرية والحكمة العملية، هي أطول سورة في القرآن الكريم.
1 – قال الله تعالى: ((ألم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))[سورة البقرة:1-3]، هذه المبادئ الثلاثة: الإيمان بالغيب، وإقام الصلاة، والإنفاق في سبيل الله، هي أركان التقوى ولها ذكر كثير في القرآن الكريم، وهي المؤطرة لنصوص سورة البقرة، فالإيمان بالغيب دافع إلى العمل الصالح باستحضار موقف الحساب وذلك ضمان لاستمرار الفضيلة، فخلو الذهن من إدراك المحاسبة في حياة أخرى غير الحياة على الأرض تنتج عنه إرادة الاعتداء،كما قال تعالى: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ))[سورة المطففين:10-12]، فلا بد من وازع خارج الحياة على الأرض.
وكذلك إقام الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وتذكر بالله؛ كما قال تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ))[سورة العنكبوت:45]، وقال تعالى: ((وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي))[سورة طه:14]، فالصلاة هي عبادة ليست مطلوبة لذاتها بل مطلوبة لغيرها، فهي وسيلة مقصدها تحصيل الفضيلة، وتذكر الله.
والإنفاق في سبيل الله يحفظ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والحربية ويجنب المجتمع من الانهيار وأنه عمل تنموي مفيد، قال تعالى: ((وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ۖ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ))[سورة الحديد:7]، وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ))[سورة البقرة:267]، والإنفاق في سبيل الله له فوائد عظيمة، كما قال الله تعالى: (( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ))[سورة البقرة:261]، وكلما ذكرت الصلاة في كثير من الآيات إلا وذكر معها الزكاة والإنفاق في سبيل الله لِما بينهما من ترابط وتكامل، وسبيل الله كل ما ينفع المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وعسكريا وغير ذلك من المنافع المشروعة.
بين الإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق في سبيل الله ترابط وثيق كما ذكرت، وقد قال الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ))[سورة البقرة:277]، فالإنسان الصالح هو الذي يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق مما رزقه الله.
2 – قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ))[سورة البقرة:4]، اليقين هو أعلى درجة الإيمان، فلا بد للمؤمن أن يصل في إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر إلى درجة اليقين الذي لا يتزعزع؛ بخلاف الإيمان المجرد من اليقين قد يداخله شك واهتزاز في كثير من الأحيان، كما قال تعالى: ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ))[سورة يوسف:106] وكذلك: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا))[سورة النساء:137]، والإيمان قول وعمل، فالعمل الصالح هو الذي يثبِّت الإيمان، ولذلك كلما ذُكِر الإيمان إلا وذُكِر معه العمل الصالح، كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ))[سورة يونس:9]، والإيمان تزيد درجته كما قال تعالى: ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا))[سورة الأنفال:2]، وقوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ))[سورة التوبة:124]، وقال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وسلم): ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))[سورة الحجر:99].
3 – قال الله تعالى: ((خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ))[سورة البقرة:7]، القلب والسمع والبصر، هذه هي قنوات الإدراك لتحصيل المعرفة النظرية، كما قال تعالى: ((قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ))[سورة الملك:23] ، القلب باعتباره مسؤولا عن فعل التعقل، والسمع لنقل الألفاظ اللغوية المشكلة للمعاني، والبصر لنقل الصور الحسية والاعتبار من خلالها، لذلك أمر الله الإنسان بتفعيل دور هذه القنوات الثلاث في عديد من الآيات القرآنية، قال الله تعالى: ((لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ))[سورة الأعراف:179]، وأيضا: ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ))[سورة النحل:108]، وقال تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ))[سورة الحج:46]، والقلب هو المسؤول عن فعل التعقل وتحصيل المعاني والعلم ؛كما قال تعالى: ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))[سورة محمد:24]، وقد جعل الله الإنسان مسؤولا عن هذه القنوات في طريقة تحصيله العلم والمعرفة، يقول الله تعالى: ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا))[سورة الإسراء:36].