بين حسين آيت أحمد والمعطي بوعبيد
ألح المعطي بوعبيد على أن أبلغ تحياته إلى الزعيم الجزائري حسين آيت أحمد. كنت التقيته صدفة وقد أسدل قامته على كرسي في سطح مقهى، لا تبعد غير بضعة أمتار عن مكتبه للمحاماة في شارع الأمير مولاي عبد الله في الدار البيضاء، دأب على أن يستريح فيها مساء رفقة الأصدقاء.. خصوصا المحامي عبد الله فردوس الذي كان أقرب إلى مشاعره وأسراره وصداقته. وظل بوعبيد من القلائل الذين حافظوا على عاداتهم في التردد على المقاهي الأنيسة، حتى عندما كان وزيرا أول.
حدثته عن زيارة مرتقبة إلى الجزائر، في مناسبة حدوث بوادر انفراج في علاقاتها والمغرب، على عهد حكم الرئيس الشاذلي بن جديد. قال: إن أردت أن تعرف أسرار ما يقع في الجزائر، حاول الاتصال بالزعيم القبائلي آيت أحمد. أردف بأنه صريح وذو شخصية فذة، ويعرف المغاربة جيدا. لم يضف أكثر من ذلك، فقد كان كتوما على رغم الانشراح الذي يبدو عليه.
بقميص قصير، جلس أحد زعماء الثورة الجزائرية خلف مكتب متواضع، في مقر حزبه «جبهة القوى الديمقراطية» في الجزائر. كان يفيض حيوية على رغم تقدمه في السن، باستثناء الشعيرات البيضاء التي غزت مفرقه، بدا حسين آيت أحمد نموذجا للثائر الذي لا يريد ترك سلاحه، معتبرا أن كفاحه من أجل استقلال الجزائر متواصل على طريق الحرية والكرامة وإعادة الاعتبار لسكان القبائل وغيرهم من مكونات التركيبة الاجتماعية.
نقلت إليه رسالة التحية من المعطي بوعبيد، فأضفت مسرة على بهجته، واستدرك: هل تعرف أنه كان في طليعة المحامين الذين آزروني، يوم تعرضت للاعتقال؟ أضاف أن مرافعته كانت قانونية برداء سياسي مقنع، أعادت إلى النفوس أجواء التلاحم والانصهار بين الجزائريين والمغاربة. وشرح ظروف اعتقاله واتهامه بتدبير محاولة لقلب نظام حكم رفيقه في الثورة الرئيس الراحل أحمد بن بلة.
كنت أصغي إليه باهتمام، ذلك أن المعطي بوعبيد، المحامي والنقيب، لم يكن من دعاة التبجح بالمواقف، وأدركت لماذا أصر على نقل تحياته إلى حسين آيت أحمد. فكما آزره في السنوات الحرجة أراد توجيه رسالة لناحية إحياء أواصر التضامن، على رغم كل المياه التي انسابت تحت جسر العلاقات المغربية- الجزائرية. وإنها لمفارقة حقا أن يكون أكثر من وزير أول مغربي يحمل صفات تضامن مع الأشقاء الجزائريين في مختلف المحن.
قبل أن يصبح الدكتور عبد اللطيف الفيلالي وزيرا للخارجية ثم وزيرا أول، كان بعثه الملك الراحل محمد الخامس لتمثيل المغرب في طاولة حوار دار مع مسؤولين فرنسيين، للبحث في الأوضاع التي تداعت، على خلفية اختطاف الطائرة المغربية التي كانت تقل زعماء الثورة الجزائرية الخمسة إلى تونس، ومن بينهم أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد. وشكل الحدث مناسبة لإبراز التضامن المغربي، خصوصا على مستوى توكيل محامين للدفاع عن زعماء الثورة المعتقلين في فرنسا. وروى الفيلالي عن جهود المغرب التي أثمرت حينئذ مبادرة نقل قادة الثورة الجزائرية إلى إقامة جبرية، توجت بالإفراج عنهم، حيث اختاروا العودة إلى المغرب، قبل التوجه إلى الجزائر، في إشارة دالة على تقدير التضامن المغربي.
عرف أيضا عن المحامي عبد الرحمن اليوسفي، قبل أن يتحمل مسؤولية الوزارة الأولى، أنه كان يدافع عن المناضلين الفلسطينيين والعرب، ومن بينهم جزائريين، في مواجهة أشكال القمع. وكما القضية الفلسطينية رسخت اسمه ضمن حملة لواء الدفاع عن عدالة وشرعية الكفاح من أجل استعادة الأرض والكرامة، احتفظت الثورة الجزائرية بأياديه البيضاء التي كانت تتجاوز شتى الحساسيات.
بعلاقة مع قضية حسين آيت أحمد، استندت الخلافات بين زعماء الثورة الجزائرية في السنوات الأولى التي أعقبت استقلال الجزائر، وتعرض المناضل القبائلي إلى الاعتقال بمزاعم أنه كان يحرض سكان القبائل ذوي النزعة الأمازيغية ضد السلطة المركزية التي كان يمثلها رفيقه في الكفاح الرئيس أحمد بن بلة. وسيكون النقيب المعطي بوعبيد في مقدمة المدافعين عن حريته والمطالبين بالإفراج عنه، خصوصا بعد إدانته بحكم إعدام لم ينفذ.. لأن طلبات إصدار العفو انهالت على الرئيس أحمد بن بلة من كل جهات العالم، ما حذا به إلى خفض العقوبة إلى السجن مدى الحياة. قبل أن يتمكن حسين آيت أحمد من الهروب من سجنه في ظروف حذرة.
تردد بهذا الصدد أن وسطاء مغاربة تدخلوا لدى الرئيس بن بلة من أجل الحيلولة دون تنفيذ حكم الإعدام ضد حسين آيت أحمد. لكن الغريب أنه في فترة قصيرة من محاكمة حسين آيت أحمد، ستتم إطاحة نظام الرئيس أحمد بن بلة، من طرف وزير دفاعه آنذاك هواري بومدين. وسيكون النقيب بوعبيد إلى جانب محامين مغاربة وأجانب، في مقدمة المتطوعين للدفاع عنه، لولا أن هواري بومدين اكتفى بوضعه تحت إقامة جبرية قاسية.
كما في حالة حسين آيت أحمد سيبادر المغرب إلى التدخل لدى خلفه هواري بومدين، من أجل الإفراج عنه. على رغم الجراح العميقة التي كانت تركتها حرب الرمال التي تورط فيها بن بلة شخصيا ضد المغرب. غير أن تاريخ المحاكمات يصلح مرجعية في إضاءة جوانب التضامن التي همت مرحلة هامة من التاريخ المغربي – الجزائري المشترك.
وفهمت أخيرا دلالات تحيات المعطي بوعبيد إلى موكله حسين آيت أحمد.