شوف تشوف

الرأي

بين ترامب وبايدن

صبحي حديدي

الآن وقد طُويت صفحة رئاسة دونالد ترامب (وليس ترامب الشخص، أو الترامبية كخط وعقيدة، أغلب الظن)؛ فإن من الجدوى أن يستعيد المرء بعض خصال الرئيس الأمريكي الجديد، وتلك التي قد تذكر بسلفه، أو حتى بالأسوأ بينها. ولعل بعض الخير، بادئ ذي بدء، أن ينأى المرء عن الأسطوانة المعتادة التي تدار عادة في بعض الأوساط العربية، والتي تحصي عدد الصهاينة، فما بالك باليهود، في فريق بايدن أو المقربين منه. ليس، بالطبع، من باب خفض الأهمية وراء هذا الاعتبار، ولكن لأنه على وجه الدقة حكاية مكرورة مستهلكة؛ يندر أن تتغير جوهريا لدى مجيء أية إدارة أمريكية.
يعنيني، في مقام أول، أن بايدن كان ضمن أعضاء الكونغرس الديمقراطيين الذين أيدوا غزو العراق سنة 2003، ولا يبدل من تبعات موقفه أنه أبدى الندم عليه، بل لعل الأكثر خزيا أن أسفه ذكر بمقدار أقصى من النفاق الذي طبع لاحقا مواقف معظم مؤيدي بوش. ومن موقعه كرئيس للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، أدار بايدن سلسلة مداولات انتشلت إدارة بوش الابن، وجموع المحافظين الجدد، من حرج قراءة مستقبل العراق ما بعد الغزو. ليس أقل سوءا، ربما، أنه كان في عداد مؤيدي تقسيم العراق إلى دولة كردية في الشمال، وسنية في الغرب، وشيعية في الوسط والشرق.
في المقام الثاني، هذا رجل وول ستريت والشركات الكبرى ورأس المال الأكثر شراسة ضد المجتمع، وسجله في هذا حافل ومذهل؛ ويدحض، أولا، نظرية الجناح الليبرالي في الحزب الديمقراطي، والتي تقول إنه «أهون الشرور» ضمن لائحة المرشحين. المفضل عندي، هنا أيضا، تعاونه مع عتاة الجمهوريين لإقرار قانون إساءة استخدام مبدأ الإفلاس، الذي كفل للشركات الكبرى منافذ تهرب عديدة ومنعها عن ملايين المواطنين المشتغلين بالأعمال الصغيرة. كذلك صوت بايدن ضد قانون يزيد من حقوق حملة بطاقات الائتمان في مقاضاة الشركات عند زيادة الرسوم، كما عارض (هو الذي سوف يصبح نائب الرئيس في ولايتَي باراك أوباما، صاحب قانون التأمين الصحي الشهير) أي تخفيض في رسوم التأمين لطلاب الجامعات.
في المقام الثالث، ولأن ترامب اشتهر بالكذب وتزييف الحقائق، فإن الأشهر بين حكايات بايدن الكاذبة زعمه أنه تشرف بالتعرض للاعتقال في شوارع مدينة سويتو، في جنوب إفريقيا، خلال السبعينيات، فيما كان يحاول زيارة نيلسون مانديلا في سجنه. وأما حقيقة الواقعة فهي أنه عُزل عن مجموعة السود المرافقين له في مطار سويتو، على مبعد 1223 كيلومترا من جزيرة روبن، حيث سجن مانديلا؛ وبالتالي فإنه لم يُعتقل البتة، مما أجبره على تبيان الحقيقة، وخاصة بعد اضطرار أندرو يونغ، السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة يومذاك والذي رافقه بايدن، إلى تكذيب الحكاية. أيضا، خلال حملته للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي سنة 1988، استعار بايدن الكثير من الزعيم البريطاني العمالي نيل كينوك، ولكنه لم يعترف بالاستعارة/ السرقة إلا بعد أسابيع؛ زاعما مع ذلك، أنه شاهد شريط فيديو لـ«زعيم في بلد آخر»، فيما اضطر أحد المستشارين إلى الإقرار لاحقا بأنه هو الذي مرر الشريط إليه، وإلى عدد من المرشحين.
مياه كثيرة جرت تحت جسور أمريكا والعالم بعدئذ، غني عن القول، والماضي يمضي تارة دون عواقب، أو تارة أخرى يُثقل على الحاضر وبعض المستقبل؛ والأرجح، استطرادا، أن الكثير من سمات بايدن التي التصقت أكثر بشخصيته لن تضمحل سريعا، أو بسهولة في أقل تقدير. ومن الخير لنا، نحن أبناء العوالم الثالثة والفقيرة والنامية، أن نترك لأمريكا ما لأمريكا، وأن نترقب جيدا حصتنا وما ينتظرنا من نسخة بايدن، تلك التي تستأنف بعض نسخة سلفه تحديدا؛ إذ يصح الافتراض بأنهما، في ذلك الـ«بعض»، لن يبدلا تبديلا عظيما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى