شوف تشوف

الرأي

بين العنف واللاعنف

بقلم: خالص جلبي

 

يراسلني الكثير من الناس وهم يقولون: أنت تدعو إلى اللاعنف والسلم الاجتماعي، وهذا يعني الخنوع والمذلة والاستسلام! وهذا لم تقل به طبيعة الكائنات، حتى العصافير والفئران. فالغريزة تحكي المدافعة، وأنت تقول بالاستسلام. والقرآن يقول إن الكون يفسد، ما لم يحصل التدافع (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض)، فهذا مبدأ واه متداع، بدون سيقان تحمله.

والأمر الثاني أن علاقات البشر منذ أن خلق الإنسان، تقوم على التدافع، والتاريخ كله تاريخ حروب بين الأمم.

والأمر الثالث أن ما تقوله يخالف صريح القرآن والحديث عن الجهاد في سبيل الله، بمعنى القتال المسلح. وأي تصفح لآيات القرآن نرى آيات القتال مكررة: نماذج على ذلك (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) من سورة «النساء»، أو ما جاء في آخر سورة «التوبة»: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة). ومطلع سورة «التوبة» هو آية السيف مشرعة (فاقتلوا المشركين حين وجدتموهم). هكذا يحتج من يعارض مبدأ الحراك السلمي في المجتمع، فكيف نفهم عليك وأنت تستعمل آيات قليلة من سورة «المائدة» عن صراع ولدي آدم، وأن أحدهم لم يرفع يده بقتال، بل قال لأخيه: لو بسطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك؟ فكيف نفهم دعوة اللاعنف في وجه كل هذه الموجة القرآنية من القتال المسلح، والدعوة إليه بعشرات الآيات؟

وفي الواقع فإن من يقرأ القرآن ويطلع على السيرة ويصل إلى استخدام القوة المسلحة في وجه الدولة، لا يعرف السيرة ولا سيرة الرسل ولا فهم المجتمع وكيف ينهض وعلى أي أسس يبنى. وأمام هذا الخلط وعدم الفهم، وجب التوضيح وعلى الشكل التالي.

ـ العمل الفردي غير العمل المؤسسي الجماعي، فحين يعترض شقي طريقك امنعه. والحديث أن المؤمن القوي خير من الضعيف، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. هنا الحديث ليس عن اللاعنف الجماعي.  

ـ اللاعنف يخص العمل المؤسسي، فأي حركة تمارس الدعوة والتغيير السياسي والاجتماعي يجب أن تعمل بشكل براغماتي أخلاقي على عدم التصادم مع الدولة، لأنها بكل بساطة لا طاقة لها بالدولة. وعلينا فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم هذا الجدل، وعرف أن الدولة تحتكر العنف، ولذا بقي سلميا حتى أصبحت الدولة في يده، ومعها السيف فجاهد. ونعرف هنا بعد مرحلة المدينة أن الرسول (ص) شن أكثر من عشرين غزوة، وأرسل ما يفوق عن ثماني سريات كلها في مهمات حربية، مع الانتباه إلى أن ما كتبه قطب أو ابن قيم الجوزية ـ والأول ينقل عن الثاني ـ أن الوضع العالمي تغير، وعلاقات الدول تقوم على السلام وليس الحرب، كما تصورها ابن قيم الجوزية، الذي أطنب سيد قطب في مدح خلاصة ما وصل إليه، (يراجع كتاب «معالم في الطريق»). 

إذن تقوم الحركة في بناء الإنسان العادل وصولا إلى المجتمع العادل، وانتهاء بالسلام العالمي، ويبقى القتال المسلح هو دعوة لإقامة حلف عالمي لرفع الظلم عن الإنسان أينما كان ومهما دان؛ فنضع أيدينا بيد قوة غير مسلمة لشن حرب ضد مسلم ظالم كخيار أخير (هناك من الحكام من يتظاهر بالتقوى أكثر من رمال الصحراء، وكثير من الحكام هم من هذا الصنف الخبيث المنافق) ـ يوصى بمراجعة كتاب «الحرب والأخلاق» لديفيد فيشر، من سلسلة «عالم المعرفة». الذي يقرر أربعة أسباب لشن حرب عادلة (قضية عادلة + قوة مخولة + نية حسنة + آخر خيار)، وفي القضية العادلة يضع بدوره أربعة أنواع تبرر شن الحرب العادلة (التطهير العرقي + حرب الإبادة + جرائم حرب + جرائم ضد الإنسانية). 

هنا تقع المحنة للحركة ـ الدعوة وهي ضرورية لتصفية الدعوة من المنافقين، ولاختبار صدق المجاهدين (راجع أول سورة «العنكبوت» = أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). وتبقى الدعوة سلمية في بناء الفرد، وولادة الدولة، والنظام السياسي، وبناء مجتمع العدل، وهو طريق طويل ولكن حين يصبر المؤمنون ويمتحنون، يكون النصر حليفهم في النهاية (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا. ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين).

 وأهميته أن من يمارس القوة والسلاح سوف يرتهن للسلاح (النموذج على ذلك تسلح الثورة السورية، وكيف أصبحت في يد من يمد الثوار بالسلاح والمال، كما أن السلاح نفسه هو بقدر ما يحقق ما يريد من يمد بالسلاح والمال، أكثر مما يريده الثوار أنفسهم). ومنه فهم يسوع المسيح هذا القانون الموحى له، حين حاول بطرس أن يستعمل السيف، فقال: «اغمد سيفك يا بطرس، لأن من أخذ السيف بالسيف يهلك». وهو يوازي ما قاله رسول الرحمة (ص) في بيعة العقبة الثانية «الحربية»، لمن أراد استعمال السلاح: «لم نؤمر بقتال». وفي هذا نزلت الآية: (الذين قيل لهم كفوا أيديكم).

وأهمية هذا الأسلوب أن يكون علنيا غير سري، وهو ما يقود إلى الولادة الصحية للحركة. مع الانتباه إلى إدراك الحركة طبيعة العالم المحيط بها والديموقراطية الداخلية؛ فلا يبقى أحد في منصبه أبد الدهر، بل ثمة انتخابات داخلية تنظف الوسط الداخلي للحركة باستمرار، مثل المسبح وتعقيمه الدوري.  

ـ هذا الأسلوب يبقى معتمدا بعد قيام النظام السياسي، في حال انحراف الحاكم، والذي يجب أن ينتخب دوريا فلا يبقى ملكا أو «بابا Pope» مدى الحياة. فيجب مواجهة الانحراف سلميا، ومنه فإن فتنة عثمان كانت خطأ، ولو أخطأ عثمان. 

الخلاصة التي أصل إليها أن أسلوب اللاعنف يوصل إلى بناء الفرد والأمة والدولة والأمن العالمي، وأن العنف يخرب كل عمل. ومن لم يفهم هذه القواعد، فسوف يقع في حفرة مهلكة. ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. 

 

نافذة: 

أسلوب اللاعنف يوصل إلى بناء الفرد والأمة والدولة والأمن العالمي وأن العنف يخرب كل عمل ومن لم يفهم هذه القواعد فسوف يقع في حفرة مهلكة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى