يونس جنوحي
«أربعة مواطنين ألمان فقط كانوا قادرين على جعل بلادهم تتدخل عسكريا في المغرب. ففي سنة 1911 قام أربعة مقاولين حاملين للجنسية الألمانية بتظلم لدى بلادهم بخصوص هيمنة فرنسا على الميناء وإغلاقه في وجه المستثمرين الأجانب. وهكذا جاءت بارجة عسكرية ألمانية تحمل قذائف بالإضافة إلى غواصة متطورة لشن حرب تهدم الميناء والمدينة معا. ولم يتم حل المشكل إلا بعد أربعة أشهر من التهديد انتهت في نونبر من نفس السنة برحيل ألمانيا نهائيا عن المغرب في اتجاه مستعمرات أخرى في إفريقيا.
لماذا هددت ألمانيا بالحرب؟ السبب أن الإمبراطور الألماني كان يرغب في أن يكون المغرب تابعا لألمانيا ولم ينجح في جعله كذلك رغم أنه أرسل مستشارين وهدايا وإغراءات لكي ينحاز المغرب إلى صفه بدل التقرب من البريطانيين أو الفرنسيين. وهكذا ظلت هذه «العقدة»تلازم الألمان حتى بعد سقوط القيصر الألماني ودخول أوربا فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية..
عادت ألمانيا إلى أكادير سنة 1960، لكن ليس لخوض حرب بل لقيادة عملية إنسانية تتمثل في إنقاذ ضحايا زلزال أكادير الشهير.. وأصبحنا أصدقاء، رغم مطبات تمليها السياسة أحيانا، وأحيان أخرى تتسبب فيها «فجوات» التواصل بين السياسيين».
عندما حل إمبراطور ألمانيا بنفسه بالمغرب لإقناع القصر بصداقته.
كانت الأنباء القادمة من منطقة جبل طارق تؤكد أن الألمان سوف يحلون عما قريب في المغرب. نحن في سنة 1904، وفرنسا وبريطانيا اتفقتا للتو في قمة ثنائية على اقتسام النفوذ في شمال إفريقيا.
وهكذا صدم غيوم الثاني العالم عندما جاء بنفسه قاطعا البحر في اتجاه مدينة طنجة لكي يعلن منها أن ألمانيا دولة عظمى وأنها لن ترضى إلا بالحصول على نصيب مما تخطط له فرنسا وبريطانيا في المغرب وبقية دول شمال إفريقيا.
التقى الإمبراطور الألماني بالسلطان المغربي المولى عبد العزيز الذي استقبله في طنجة، وكتبت الصحافة الأجنبية وقتها أن المغرب «ماض في تصحيح الجفاء الذي كان بينه وبين ألمانيا منذ 1880».
والحقيقة أن العلاقات المغربية الألمانية وقتها لم تكن متميزة، بعكس العلاقات مع بريطانيا التي كانت المرشحة الأولى للهيمنة على الوضع العام في المغرب.
كانت أخبار المعدات العسكرية الألمانية تطغى على أحاديث المغاربة، في حين أن الألمان أرادوا من خلال تركها راسية في الشواطئ الشمالية للمغرب، ترك انطباع لدى الفرنسيين والإنجليز مفاده أن الإمبراطور مستعد لأي تطورات في المنطقة بما فيها الحرب إن اقتضى الأمر.
هذا «الانعزال» الألماني، رغم لقاء طنجة بين السلطان المغربي والإمبراطور، لم يكن إلا بداية للتوتر الذي ستعرفه العلاقات بين ألمانيا والمغرب، خصوصا بعد سنة 1907، عندما رفض المغرب رسميا اعتماد مستشار ألماني لديه كان قد حل في القصر الملكي بفاس بتعليمات من القيادة العليا في ألمانيا، إلا أنه تسلم أوراق اعتماده من وزراء في القصر الملكي وطلبوا منه بأدب أن يعذرهم لأنهم لم يستطيعوا إقناع السلطان باعتماده مستشارا له في الشؤون الأوربية.
وبرر هؤلاء الوزراء كلامهم وقتها بأن السلطان المغربي، يقصدون المولى عبد الحفيظ، يتعرض لضغوطات كبيرة من العلماء المغاربة حتى لا يقيم أية علاقات مع الأوربيين باعتبار أنهم غزاة يخططون لاستعمار المغرب.
هذا المستشار الألماني غادر فاس عائدا إلى طنجة في انتظار أن يتلقى تعليمات من رؤسائه بشأن الخطوة المقبلة. لكن ألمانيا فهمت سريعا أن المغرب يتعرض لضغوط من بريطانيا لكي لا يسمح للألمان بالتوغل أكثر في المغرب. وهكذا اتجهوا إلى موطن الداء وبدأت المفاوضات بين الدول الأوربية في قلب القارة الأوربية لحل المشكل سياسيا، قبل أن تتوتر العلاقات وتنفجر سنة 1911 بوضع الألمان بارجة عسكرية مستعدة لنسف مدينة أكادير عن آخرها لإجبار فرنسا على التفاوض معها ومنحها امتيازات في دول إفريقية أخرى.
ما وقع أن زيارة الإمبراطور الألماني لم يكن له أي انعكاس إيجابي على مستقبل ألمانيا في المغرب، وعاد أدراجه إلى ألمانيا دون أن ينجح في فتح بنك ألماني في مدينة طنجة الدولية التي كان يقطن بها عدد من رجال الأعمال والمثقفين الألمان. لكنهم ظلوا حبيسي المدينة الدولية ولم ينجحوا في الوصول إلى قلب فاس، حيث كانت السياسة المغربية تُطبخ على نار هادئة.
تاريخ كامل من التجاذبات.. من التوتر إلى المساعدة في زلزال أكادير
ما يشبه الجفاء أو أقلّ. هذا عنوان العلاقات بين المغرب وألمانيا ما بين سنوات 1919 إلى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية. إذ رغم تعاطف الشارع المغربي مع الألمان خلال الحرب العالمية الثانية بسبب مواقف فرنسا المخزية بالمغرب، واحتفال المغاربة في عدد من المناطق بوصول هتلر إلى باريس خلال الأربعينيات، إلا أن الموقف الرسمي المغربي من ألمانيا ظل «محافظا».
لم يرق الأمر إلى درجة عقدة تاريخية ما من فشل ألمانيا في الفوز بالمغرب في سياق التسابق الاستعماري، لكن «غصة» الألمان ومغادرتهم للسواحل المغربية منذ 1911 صوب دول إفريقية أخرى، ظلت تتحكم في مستقبل العلاقات بين البلدين إلى أن حلت سنة 1957.
نعم، أصبح المغرب دولة مستقلة تماما عن فرنسا، وقامت ألمانيا الغربية بإرسال أول سفير لها إلى المغرب لبحث مستقبل العلاقات بين البلدين بعد الاستقلال وانتهاء الحرب العالمية الثانية.
كانت وقتها القواعد الأمريكية لا تزال قائمة في المغرب، وهي القواعد التي حسمت منها نتيجة الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء. إلا أن موت ألمانيا النازية وميلاد نظام سياسي جديد في ألمانيا يركز على النهضة الاقتصادية أولا، جعل مستقبل المغرب وألمانيا يدخل سياقا آخر مختلف تماما عن «المناوشات» التاريخية.
في سنة 1959، عندما عاش المغرب أول كارثة صحية في عهد الاستقلال، ويتعلق الأمر بملف زيوت محركات طائرات القواعد العسكرية التي تم إخلاؤها في المغرب، حيث تسربت هذه الزيوت في خرق للبروتوكول الوقائي المعمول به، وروجت في الأسواق الاستهلاكية وهو ما تسبب في «كارثة مكناس» حيث أصيب أزيد من 10 آلاف مواطن مغربي بعاهات مستديمة وتشوهات في المفاصل بسبب تلك الزيوت.
كانت ألمانيا من أوائل الدول التي جندت أطباءها وأرسلت فرق الصليب الأحمر الألماني حيث أقاموا معسكرات طبية لاستقبال المصابين وأرسلت ممرضات متخصصات في الترويض الطبي بالإضافة إلى توزيع مساعدات على المصابين وتوفير أدوية لمختلف الفئات.
وكانت تلك المبادرة عنوان بداية جديدة للعلاقات المغربية الألمانية.
خلال وجود السفير الألماني في الرباط خلال عهد الملك الراحل محمد الخامس، لم يتم توقيع اتفاقيات مؤثرة بين البلدين، لكن بالمقابل بدأت ألمانيا تفتح أبوابها للعمال المغاربة في إطار عقود عمل رسمية مع شركات البنيات التحتية والمصانع الكبرى.
أما في سنة 1960، حيث عاش المغرب في آخر أيام فبراير على إيقاع واحد من أعنف الزلازل التي عرفها العالم خلال القرن الماضي، فقد كانت ألمانيا من جديد أول الدول التي أرسلت فرق الجيش والطائرات للإنقاذ، حيث كانت عناصر الجيش الألماني على رأس الفرق العسكرية التي تولت أعمال التنقيب عن الناجين تحت الأنقاض. بل ووصل الأمر حد إعطاء الحكومة الألمانية وقتها تعليمات لنقل الأطفال المتخلى عنهم إلى مخيمات خاصة ونقل الراغبين ممن فقدوا أسرهم لكي يواصلوا تعليمهم في ألمانيا، إلا أن جل الناجين من هذه الفئات فضلوا التوجه صوب فرنسا وبلجيكا بحكم أن هؤلاء الأطفال المغاربة كانوا جيرانا لجاليات فرنسية وبلجيكية مقيمة في أكادير وكان هناك تقارب بينهم مما يسهل عملية اندماجهم لاحقا.
إلا أن المساعدات الألمانية للمغرب في ذلك الوقت شملت بالإضافة إلى أعمال الإنقاذ، تقديم مساعدات فلاحية ومعاونات بالآليات الفلاحية وإنشاء الطرقات وإعادة إعمار أكادير، فترة قصيرة بعد انتهاء عمليات الإنقاذ. وهو ما توجد لدى الصليب الأحمر الألماني، وثائق أرشيفية مهمة تحمل إشارات إلى إقامة تعاون ألماني مغربي بعد الكارثة على مستويات البنية التحتية في إطار برنامج إعادة الإعمار.
وفي سنة 1963، وقعت ألمانيا مع الملك الراحل الحسن الثاني اتفاقا في ما يخص فتح ألمانيا حدودها أمام العمال المغاربة. لكن الزيارة الأولى للملك إلى ألمانيا سنتين بعد ذلك، في نونبر 1965، كانت منعرجا مهما في باب تشغيل اليد العاملة المغربية في ألمانيا.
بالنسبة للمغرب، كان اختيار توقيت الزيارة إلى ألمانيا تاريخيا. إذ أن البلاد كانت تتجه إلى قطع العلاقات نهائيا مع فرنسا بسبب تداعيات قضية اختفاء المهدي بن بركة.
بعد الوحدة الألمانية سنة 1989 وانهيار جدار برلين، دخل العالم منعطفا آخر، كانت خلاله العلاقات بين المغرب وألمانيا مستقرة، رغم بعض الفجوات بسبب ملف الصحراء المغربية الذي كان وقتها يعيش مخاضا عسيرا بسبب المواجهات في الصحراء والتقاطبات التي غذتها دول انفصالية في أمريكا اللاتينية على وجه الخصوص. ورغم أن ألمانيا لم تتبن موقفا معاديا للمغرب، إلا أنها لم تكن داعمة بنفس الإيقاع الذي سارت به فرنسا وإسبانيا ومؤخرا الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانوا دائما بجانب الاقتراح المغربي لحل النزاع في الصحراء بصفة نهائية.
واقعة أكادير 1911.. قصة غواصة ألمانية أرادت دك المدينة
كانت أزمة حقيقية مع الألمان وُجد المغرب داخلها وكاد أن يؤدي مقابلها خسائر كبيرة في الأرواح والعمران. والسبب أن فرنسا تعاملت مع ألمانيا بجفاء في ملف التسابق نحو المستعمرات في شمال إفريقيا.
أحس الألمان بالإهانة عندما علموا أن فرنسا اتفقت مع إسبانيا على تقاسم المنطقة بينهما مع استبعاد بريطانيا التي حصلت على امتيازات بالمقابل. في حين أن ألمانيا لم تفز بأي امتياز وهو ما جعل ممثل القيصر الألماني في مدينة طنجة يحس بالإهانة، خصوصا وأنه كان يحاول دبلوماسيا منذ 1907 الحصول على امتياز داخل المغرب باعتراف السلطات المغربية أولا قبل فرنسا. وهو ما لم يتم.
أما تفاصيل الواقعة فتعود إلى حدث وقع بمدينة اكادير، أبطاله 4 مقاولين ألمان راسلوا المصالح القنصلية والدبلوماسية في طنجة، الممثل الوحيد وقتها للألمان في المغرب، وزعموا أنهم يتعرضون للإذلال والتضييق على استثماراتهم في ميناء المدينة، وهو ما اعتبرته ألمانيا وقتها إخلالا باتفاق اقتصادي بينها وبين فرنسا بخصوص الاستيراد والتصدير من وإلى موانئ المحيط الأطلسي.
وهكذا تحركت قوة عسكرية من ألمانيا نحو شواطئ أكادير. بارجة عسكرية تحمل اسم «بانثر» كانت ترسو في مياه أكادير وتكتب الصحافة الفرنسية وقتها إنها تشكل تهديدا عسكريا على المدينة وأن الألمان قد يقصفون الميناء والمدينة أيضا في أية لحظة.
كان الفرنسيون يعلمون أن الألمان لم يكونوا يمزحون بهذا الخصوص، وأن ممثلي الخارجية الألمانية في طنجة التزموا الصمت وظلوا بدورهم يتابعون ما قد يحدث.
استمر وجود البارجة الألمانية، بالإضافة إلى غواصة كُتبت حولها أساطير ومبالغات الهدف منها إضعاف المغرب وبث الرعب في أوساط سكان أكادير، حوالي أربعة أشهر. إذ أن الأزمة بين البلدين لم تجد طريقها إلى الحل إلا في أواخر نونبر 1911، عندما جلس وزير الخارجية الألماني مع الرئيس الفرنسي شخصيا في مباحثات ماراطونية، أسدل عليها الستار بتوقيع اتفاق شهير بين البلدين، تتخلى فرنسا بموجبه عن أزيد من 200 كيلومتر مربع من المستعمرات في إفريقيا لصالح ألمانيا، لكي تغادر ألمانيا المغرب نهائيا.
ما الذي وقع حتى تغادر ألمانيا المغرب وتدفن وراءها تاريخا امتد منذ قرابة سنة 1870، حيث سُجلت أولى المحاولات الألمانية للفوز بموطئ قدم في المغرب؟
لقد فقد الألمان كل أمل في ضمان هيمنة على القصر الملكي المغربي رغم محاولاتها منذ عهد المولى الحسن الأول. فقد كانوا يشاهدون كيف أن بريطانيا كانت صديقة مفضلة للمغرب، بينما كان ممثل البعثة الدبلوماسية الألمانية إلى طنجة يفشل حتى في إيجاد موعد لإلقاء التحية على السلطان المولى الحسن الأول أو أحد وزرائه.
ورغم أن ألمانيا حاولت اعتماد عدد من الشخصيات المغربية ممثلين لها في المغرب، إلا أنها لم تنجح في الهيمنة سياسيا على المشهد المغربي، لتفضل البقاء خارج مربع القرار وتتابع الأوضاع عن كثب.
وعندما تبدد كل أمل في أن تحظى بموطئ قدم في المغرب بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، توترت العلاقات بين الألمان وفرنسا لكي تُترجم عسكريا إلى مواجهة كادت أن تكون الأعنف في تاريخ المنطقة.
قصص هدايا ألمانيا لقصر فاس قبل قرن ونصف.. مصابيح كهربائية وطبيب خاص
في التاريخ غير الرسمي قصص مثيرة عن علاقة المغرب بألمانيا خلال فترة بداية القرن 19. إذ أن بعض الشائعات تقول إن ألمانيا فوتت للمغرب واحدة من أولى نُسخ سيارة المرسيديس التي تمت صناعتها في بداية ظهور الشركة. إلا أن هذه المعلومة تفتقر إلى الدقة خصوصا وأنه لا يوجد أي عقد رسمي للسيارة التي يقال إن المغرب حصل عليها في عهد المولى الحسن الأول الذي توفي سنة 1894. ولو أن القصر الملكي حصل فعلا على السيارة الألمانية لما كتبت الصحافة البريطانية سنة 1907 عن أول سيارة تدخل المغرب على الإطلاق بعد تسوية الطريق من طنجة إلى فاس، سنوات بعد وفاة المولى الحسن الأول.
أما قصة وصول هدية ألمانية إلى القصر الملكي بفاس سنة 1901، وكانت عبارة عن مصابيح كهربائية عالية الجودة، فقد كانت واقعا مثيرا إلى درجة أن البريطانيين طلبوا من المغرب ألا يركب تلك المصابيح، خصوصا وأن نزاعا بين فرنسا وبريطانيا نشأ بسبب أشغال تمديد أسلاك الكهرباء حيث كان كل طرف يحاول الفوز بشرف الإشراف على المشروع. وهكذا كانت الهدية الألمانية غاية في النباهة.
في مذكرات الصحافي «لاورنس هاريس»، توجد إشارة لم تذكر في أشهر المراجع التي تحدثت عن فترة التوتر الألماني البريطاني والفرنسي خلال التسابق على استعمار المغرب. إذ أن هذا الصحافي كتب سنة 1907 أنه عاش بنفسه هذا التسابق، إذ أنه وجد طبيبا ألمانيا اسمه الدكتور «فاسيل»، أرسلته ألمانيا إلى المغرب رسميا لكي يصبح الطبيب الخاص بالقصر الملكي والعائلة الملكية. لكن ضغوطات البريطانيين جعلت الطبيب يجمع أدواته ويرحل من المغرب نهائيا. جاء في مذكرات هذا الصحافي ما يلي: «وما إن غادرت البوابة الخارجية للقصر الملكي بفاس بعد انتهاء مقابلة مع السلطان، حتى التقيت بالدكتور «فاسيل»Dr. Vasselرفقة بن غبريط، حيث كان ينتظر لساعات ليسمح له بلقاء السلطان. هذان الرجلان كانت لديهما مهمة مشتركة، ولم أحسدهما عليها أبدا.
الدكتور فاسيل رجل وسيم وأنيق، ويشغل منصبا حساسا، لكن المنصب كان لا يناسب المهمة التي أوكلت إليه. لكنني أعتقد أنه الرجل الأنسب للقيام بالمهمة. أرسلته ألمانيا إلى فاس لكي يبحث لها عن موطئ قدم في بلد سقط فيه سلطان ونصب مكانه آخر. وكانت مهمة الألمان عسيرة وتزداد صعوبة بمرور الوقت، من جهة أخرى كان بن غبريط يعيش صعوبات في مهمته. كان في الأصل قاضيا في الجزائر، وأرسل إلى المغرب ليمثل دور الوسيط للإقامة الفرنسية لما يزيد عن 17 سنة. خلال تلك الفترة أرسل إلى كثير من المهمات الحساسة وتمت ترقيته في السلم الإداري وأشرف على الاستعلامات العامة، وكان يستفيد جدا من ديانته، لأنه كان مسلما، ويتحدث العربية بطلاقة شديدة. وبالتالي فإن الجميع يتعامل معه دون قيود أو موانع. لكنه أسر لي أنه كان يعاني صعوبات وعاش ويلات كثيرة في فاس قبل قدوم مولاي عبد الحفيظ. في تلك الفترة كانت البلاد تعيش أزمات حقيقية، ونشأت علاقات بين فرنسا وألمانيا، وكانوا يحاولون احتواء الأوضاع في المغرب».
كواليس أول زيارة رسمية للحسن الثاني إلى ألمانيا.. ردا على توتر علاقته بفرنسا
عندما زار الملك الراحل الحسن الثاني ألمانيا الغربية سنة 1965، كان متابعو تلك الزيارة في فرنسا أكثر من متابعيها في المغرب. والسبب أن العلاقات المغربية الفرنسية في تلك السنة لم تكن جيدة، وازداد الوضع توترا بسبب قضية المهدي بن بركة.
لكن الوضع في برلين كان مختلفا، إذ أن زيارة الملك الحسن الثاني وقتها كانت في سياق دولي يتسم بالأزمة خصوصا في شمال إفريقيا بسبب تداعيات الاستقلال عن فرنسا في المنطقة، ونشوب حرب الرمال، وخلافات بين دول عربية بسبب الحرب مع إسرائيل ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.
كانت تلك أول زيارة رسمية للملك الحسن الثاني إلى ألمانيا. وكانت يوم 29 نونبر 1965، أي شهرا واحدا على توتر العلاقات بين المغرب وفرنسا بسبب اختفاء المهدي بن بركة وتبادل الاتهامات بين البلدين بهذا الشأن خصوصا وأن التحريات كشفت تورط مسؤولين أمنيين فرنسيين في الموضوع وهو ما ألّب الرأي العام الفرنسي.
كان من اهتمامات الملك الراحل الحسن الثاني خلال تلك الزيارة، ملف المهاجرين المغاربة العاملين في ألمانيا. حيثإن المغرب كان في الأصل قد وقع اتفاقية مع الألمان بهذا الخصوص تعود لسنة 1963، حيث أطرت عمليات هجرة لليد العاملة المغربية نحو ألمانيا للمشاركة في بناء المصانع في ألمانيا الغربية بعد الحرب.
عندما نزل الملك الراحل الحسن الثاني في مطار «بون» وقتها، كانت أعين الكاميرات تحيط به من كل جانب، ومعها أعين أخرى خفية، كما أكدت لاحقا تقارير الـCIA الأمريكية، حيث إن السوفيات قد قرروا التجسس على مضامين لقاءات الملك الحسن الثاني مع ألمانيا الغربية وما إن كانت هناك آفاق شراكات اقتصادية أو عسكرية في المستقبل بين البلدين.
ما كان يهم ألمانيا الشرقية التي يتحكم فيها السوفيات وقتها هو دعم الجزائر التي كانت تحصل على مقتنياتها من السلاح مباشرة من موسكو، بينما كان المغرب قد تخلى عن شراكاته مع السوفيات خصوصا في المجال العسكري ومعدات الطيران ووقع اتفاقيات أخرى مع الولايات المتحدة الأمريكية في نفس السنة.
وزيارة الملك الحسن الثاني لألمانيا الغربية، كانت بمثابة «المنبه» الذي تلقاه الروس، لكي يكثفوا من مراقبتهم لسياسات المغرب ما دام قد خرج من نادي الداعمين المحتملين للاتحاد السوفياتي في الخارطة العالمية.
التقى الملك الحسن الثاني في تلك الزيارة بممثلي التجمعات العمالية للمغاربة البسطاء، وتحدثت الصحافة الألمانية عن وجود جالية مغربية في مدن ألمانيا الغربية الكبرى. كانت الآلة الإعلامية في ألمانيا الغربية كما لو أنها تحاول استفزاز السلطات في باريس بعرض واقع وجود تمثيليات عمالية مغربية في قلب ألمانيا. إذ أن المنافسة بين البلدين في استقطاب العمالة المغربية كان على أشده. ورغم أن الألمان لم يوقعوا اتفاقية مع المغرب بهذا الخصوص إلا في ماي 1963، بينما كانت فرنسا تستفيد من اليد العاملة المغربية منذ بداية الخمسينيات، إلا أن الألمان استقطبوا عشرات الآلاف من العمال المغاربة في فترة قصيرة جدا. والدليل أن ألمانيا الغربية أقامت مكتبا دائما في الدار البيضاء منذ 1973 للبت في عقود العمل التي كان يستفيد منها آلاف المغاربة سنويا للعمل في مختلف القطاعات الاقتصادية في ألمانيا.
كانت هذه إذن ملامح سياق أول زيارة رسمية للملك الحسن الثاني إلى ألمانيا في عز أزمة قطع العلاقات بين الرباط وباريس.
«بوليساريو» تسقط طائرة تقل علماء ألمان سنة 1984 وهكذا رد المغرب عسكريا
من بين المواقف التي كانت تعكس حسن نوايا الملك الراحل الحسن الثاني تجاه الدول الأوربية الكبرى المؤثرة في ملفات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ما وقع سنة 1984 عندما تم إسقاط طائرة صغيرة تقل علماء ألمان نحو القطب الجنوبي لإجراء تجارب علمية هناك في إطار مخيمات استكشافية.
آخر اتصال بالطائرة كانت فوق الصحراء المغربية، وبعد ساعات فقط انتشر خبر إسقاطها بقذائف مضادة للطائرات كانت في حوزة مقاتلي «بوليساريو».
اندلعت موجة غضب في الشارع الألماني وسرعان ما تحول الأمر إلى أزمة سياسية في ألمانيا. حدث هذا في وقت كان المغرب في قلب معارك في الصحراء للرد على استفزازات «بوليساريو» واختراق المنطقة العازلة.
ألمانيا أدانت الحادث، ولعبت الخارجية المغربية وقتها دورا كبيرا في نقل الموقف المغربي الرافض لما تقوم به «بوليساريو» فوق التراب المغربي من حرب للعصابات. إذ لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض خلالها مواطنون أوربيون لهجوم من طرف «بوليساريو». الجديد كان إسقاط الطائرة فقط بعد أن تناسلت عمليات الاعتداء على سياح أوربيين كانوا يعبرون الصحراء برا في اتجاه دول أخرى لديها حدود برية مع المغرب.
وللتذكير فقط، فإن هذه الواقعة جعلت الجيش المغربي يرد بعنف على استفزاز «بوليساريو» بعد أن حصل على دعم من دول عربية وأجنبية تعاطفت مع الموقف المغربي. حصل المغرب على دعم من المملكة العربية السعودية، وفق القصاصات الرسمية في مارس من تلك السنة، بالإضافة إلى معونات أمريكية، بحكم أن المغرب وقتها أنفق على الحرب منذ منتصف السبعينيات.
قام مقاتلو «بوليساريو» أولا باستفزاز الجيش المغربي في منطقة «الزاك»، حيث كانت المعدات الثقيلة لقوات الجيش الملكي لا تبعد عن مكان الاعتداء إلا بكيلومترات قليلة.
لم يسفر الهجوم عن خسائر مادية في المعدات، لكن القوات المغربية كانت مطالبة بالرد وإيقاف تلك الاستفزازات التي استعملت فيها قاذفات بالإضافة إلى قيام مقاتلي «بوليساريو» بعمليات اقتحام لأراضي قريبة من المعسكرات.
جاء الرد المغربي عنيفا، خصوصا وأن المنتظم الدولي كان يساند المغرب معنويا، بحكم الاعتداء الذي عرفته طائرات أجنبية عند مرورها من تلك المنطقة.
استغرقت الحرب ساعات فقط، وكانت الحصيلة ثقيلة. لم يسجل المغرب أي خسائر تذكر، بينما كان «بوليساريو» قد خسرت 100 مقاتلة عسكرية حصلت عليها من الجزائر وليبيا في وقت سابق، بالإضافة إلى صناديق من الذخيرة. وتمت مصادرة قاذفتين للطائرات، بعد نجاح القوات المغربية في تطويق منطقة زرع القاذفات، وأصبح انتصار 1984 درسا قويا لمقاتلي «بوليساريو» والنظام الجزائري الذي دعمهم كثيرا في تلك الحرب.
عرفت سنوات الثمانينيات بنوع من الهدوء النسبي في الحرب، لكن معركة 1984، كانت مصيرية لإيقاف الاستفزازات على الحدود والعمليات التي جعلت منطقة العبور غير آمنة للطائرات.
كانت هذه الواقعة واحدة من نقاط التقارب الدبلوماسي بين المغرب وألمانيا في عز اندلاع المعارك في الصحراء المغربية، حيث اعترفت الخارجية الألمانية لاحقا بالموقف النبيل للمغرب والذي رفض أن تطال العابرين في الأجواء المغربية، أية اعتداءات.