شوف تشوف

الرأيالرئيسية

بيئة اتصالية تُعاند الحقيقة

 

 

ياسر عبد العزيز

 

في عام 1940، سقطت باريس في أيدي النازيين الألمان، عقب حرب خاطفة، رأى المؤرخون العسكريون لاحقا أنها شهدت تنسيقا عاليا بين سلاحي المدرعات والجو، فضلا عن دعم جوهري من سلاح جديد، آنذاك، هو الإذاعة.

وحين حاول الزعيم النازي هتلر التعبير عن أهمية دور الإعلام في مشروعه القتالي التوسعي، قال في كتابه «كفاحي»: «إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية ستقوم به في المستقبل الدعاية، التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم، قبل أن تبدأ الجيوش عملها».

وقد كان الزعيم السوفياتي الشيوعي، نيكيتا خروتشوف، أكثر وضوحا في ذلك؛ إذ قال بدوره: «الصحافة سلاحنا الفكري والإيديولوجي، فإذا كان الجيش لا يستغني عن السلاح في القتال، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع القيام بأعماله في الميدان الفكري والإيديولوجي بغير سلاح الصحافة».

كانت تلك مقدمة تاريخية مبكرة نسبيا للدور الذي سيلعبه الإعلام لاحقا في مضمار الحرب وصراعات الأمم، وهو الدور الذي جاءت الديمقراطيات المنتمية إلى ما سُمي «العالم الحر» لتؤكده وتشدد على أهميته.

لكن التطورات التي طرأت على المجال الاتصالي عالميا، خصوصا مع اكتشاف «الإنترنت»، وما تلاه من سطوة «وسائط التواصل الاجتماعي» (السوشيال ميديا)، جعلت ذلك الحدس المبكر بمنزلة السياق التاريخي لظاهرة لم تتوقف عن التطور، حتى أضحت تلك الوسائط الجديدة سلاحا رئيسا في المعركة، وليست مجرد عامل دعم ومساندة.

تقول الفرضية، التي يطرحها الباحث الأمريكي «توماس نيشن Thomas Nissen»، في كتابه «تسليح السوشيال ميدياThe Weaponization of Social Media»، الصادر في عام 2016، إن تلك الوسائط الجديدة باتت «تحكم السياسات العالمية، وأعادت تشكيل آليات التواصل المصاحبة للنزاعات والحروب، وتحولت سلاحا رئيسا في المعارك».

لم يكن هناك أفضل من حرب غزة، التي تملأ أخبارها الدنيا راهنا وتشغل الناس، للتدليل على قوة «السوشيال ميديا» وقدرتها على التأثير في الجمهور، وعندما سيهدأ غبار المعارك، ويتم وقف إطلاق النار، ستكون هناك فرصة سانحة لبحث وتقييم الدور الذي لعبته وسائل «التواصل الاجتماعي» على هامش هذا الصراع الدامي.

لكن ما يظهر راهنا من تأثير تلك الوسائط يبدو أكبر من أي قدرة على التجاهل، كما أن الملاحظة البسيطة المباشرة تشير بوضوح إلى أنها أعادت تشكيل صورة الصراع، وبناء تفاصيله، لدى قطاعات واسعة من الجمهور.

أما الوافد الجديد إلى عالم الإعلام، و«الإنترنت»، ووسائل «التواصل الاجتماعي»، فليس سوى الذكاء الاصطناعي بقوته الجبارة على الاختلاق والفبركة والاصطناع.

ستكون حرب غزة أحد أهم الميادين التي ستُختبر فيها قوة هذا الوافد الجديد، بعدما تم استخدامه على نطاق واسع من طرفي الصراع وبقية الأطراف المؤيدة أو المتحالفة مع أي منهما. وتكمن قوة الذكاء الاصطناعي عند توظيفه في صراع ملتهب وحاد مثل الذي يجري في غزة وحولها راهنا، في أنه قليل التكلفة بدرجة شديدة الإغراء من جانب، وأنه مؤتمت بالكامل إلى الدرجة التي يمكن من خلالها تنفيذ استراتيجية اتصال كاملة عبره، بمجرد إعطاء بعض الأوامر الآلية من جانب آخر.

وفي منطقتنا العربية، ما زال من الصعب جدا على الجمهور العادي الكشف عن آليات التضليل والخداع في منتجات الذكاء الاصطناعي، كما أن الأدوات التي يمكنها أن تميز التضليل ببساطة ليست مدعومة بالشكل الكافي باللغة العربية، وبعضها يحتاج إلى تدريب لم تتوافر له موارد أو جهود كافية.

وما زالت وسائل الإعلام العربية المؤسسية تحبو في طريق الذكاء الاصطناعي وتراوح في مرحلة الاستكشاف، وحتى وسائل الإعلام العالمية الكبرى والمرموقة، التي تمتلك إمكانيات بحث وتطوير مستديمة، ما زالت تشكو من عدم قدرتها على ملاحقة التطورات في هذا المجال.

وفي دراسة حديثة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ظهر أن الأخبار والمشاهد المزيفة تنتشر بمعدلات أسرع من القصص الحقيقية والمثبتة بالأدلة، بينما ترتفع احتمالية إعادة تداول الأخبار الزائفة بنسبة تزيد على 70 في المائة مقارنة بالأخبار الدقيقة.

يشير ذلك إلى وجود بيئة مواتية وقابلة للاختراق بالمواد المزيفة، ويشير أيضا إلى درجة كبيرة من الصعوبة في مواجهة التضليل، بسبب مساندة قطاعات من الجمهور للمحتوى المُضلل، والإسهام في ترويجه.

وببساطة شديدة، فإن كثيرا من الأخبار والصور والفيديوهات المتداولة بشأن حرب غزة وتداعياتها الأمنية والإنسانية والسياسية يصل إلى الجمهور المتعطش لمعرفة الحقائق، لكنها تحوي في ما تحوي المصطنع والزائف، كما تتضمن الحقيقي والخاضع للتدقيق. وبسبب التطورات التقنية التي تشهدها البيئة الاتصالية العالمية، فإن عملية فرز الإفادات تبدو أصعب من أي وقت مضى، وهو الأمر الذي يخلط الحقيقة بالضلال بنهم واطراد.

نافذة:

الأخبار والمشاهد المزيفة تنتشر بمعدلات أسرع من القصص الحقيقية والمثبتة بالأدلة بينما ترتفع احتمالية إعادة تداول الأخبار الزائفة بنسبة تزيد على 70 في المائة مقارنة بالأخبار الدقيقة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى