يعد داء التهاب الكبد الفيروسي من بين أكثر الأوبئة انتشارا في معظم دول العالم. يذكر لنا التاريخ كيف تفشى هذا المرض المعدي في أوساط معسكري الحلفاء ودول المحور خلال الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى وفاة مئات الآلاف من الجنود وخاصة الشباب منهم. عاد التهاب الكبد الفيروسي ليفتك بعدد من سكان البلدان النامية في العشرين سنة الأخيرة، وعلى رأسها مصر التي ما فتئت تعرف تزايدا ملحوظا في عدد الإصابات.
وفي هذا السياق، لم يسلم المغرب أيضا من تفشي فيروس بوصفير، في شكله المتحور الذي ينتشر خارج الجسم البشري. شهدت بلادنا في الأعوام الأخيرة ظاهرة وبائية طرأ فيها انقسام فيروسي عشوائي لأحد أكثر الاضطرابات الاجتماعية والنفسية خطورة. وهي متلازمة «خليه يترزق الله» التي تصاحب عادة وباء بوصفير المغربي. هذا الأخير الذي نقصد به سيميائيا ظاهرة احتلال الملك العام وفرض إتاوات غير شرعية على المواطنين من طرف حراس مرائب السيارات أو ما يطلق عليهم علميا بوصفير واصطلاحا الكَارديانات.
من الملاحظ أن انتشار تلك الكائنات البلطجية التي أصبحت تستعرض عضلاتها على المواطن المغلوب على أمره، وتعمل على استخلاص ضرائب غير قانونية من جيوب المغاربة، انعكاس لمشاكل بنيوية أعمق بكثير من مجرد متسولين أو شمكارة بسترات صفراء فاقعة لا تسر المواطنين.
إن بنية المجتمع المغربي لازالت اتكالية إلى حد كبير. تعود جذور البنية الاجتماعية والثقافية الاتكالية إلى نواة الأسرة المغربية، حين يقرر المغاربة جلب أطفال أبرياء لهذا العالم البشع، فهم ينظرون إلى الأمر من زاوية اقتصاد الريع إن جاز لنا قول ذلك، إذ يحدد الآباء والأمهات أدوارا وظيفية مسبقة لأبنائهم. يعتقد المغاربة، مثلا، أن إنجاب عدد كبير من الأطفال الذكور بمثابة استثمار اقتصادي مستقبلي، إضافة إلى أن وجود ابن ذكر مُعصّب في الأسرة الواحدة يعمل كإجراء وقائي ضد اقتسام الإرث والممتلكات مع عائلة الأب. نحدد كذلك للابنة مهنا كالخدمة المنزلية والتمريض والمرافقة النفسية، وغالبا ما تتردد على مسامعنا عبارات من قبيل أن انجاب الإناث هو ضمان لرعاية صحية أبدية للوالدين.
إن مفهوم الاعتماد على الغير في تقديم الخدمات المجانية وتحقيق الإنجازات الناجحة، بدعوى مبادئ التكافل الاجتماعي أو رضى الوالدين أو «الخير فالمساعدة»، يدخل في إطار اعتقادات ثقافية خاطئة بل ومؤذية. إن الاعتقاد بأن الآخر مدين لنا بخدمات إنسانية أو مساعدات مادية، فقط لأننا نتقاسم معه نصف شريط حمض نووي، محض هراء. إن العمل الإنساني النبيل نابع بالأساس من ضمير حي وإرادة حرة وأخلاقيات لا يمكن أن تتوفر في مجتمعات لازالت تؤمن بأن من حق الفقير والعاطل والمتسول والمتشرد أن يفرض علينا إتاوات بلطجية بقوة قانون «يترزق الله».
إن مفهوم الرزق شرعا مرتبط بالسعي، فكيف أصبحت مجموعة من المخربين تسيطر على شوارعنا وأزقتنا وتبث الرعب في قلوب المواطنين.
كنا نتحدث في الماضي القريب عن مرحلة الإرهاق النفسي التي وصل إليها المواطن المغربي المثقل بأعباء الحياة.. غير أن الوضع تطور بشكل متسارع، حيث انتقل المغربي من مرحلة الإرهاق إلى مرحلة الاحتراق.. احتراق نفسي من نيران الأسعار الملتهبة وضعف البنيات التحتية و«سم» البيروقراطية وهشاشة النماذج الاقتصادية. ليجد هذا المواطن نفسه اليوم في مواجهة مع شرذمة من قطاع الطرق الذين يمارسون ترهيبا ممنهجا ضده أمام مرأى ومسمع وربما تواطؤ من بعض الجهات المسؤولة. إن حرب الشوارع التي أصبح يشنها الكَارديانات على المواطنين المغاربة الذين يمارسون حقهم الدستوري في استعمال الطريق العام، لابد لها من وقفة حازمة وتدخل رادع يعيد للسائقين إحساسهم بالأمان.
حوادث مؤسفة لمواقف يصطدم فيها، مثلا، مواطن ركن سيارته لدقائق معدودة من أجل اقتناء «خبزة بدرهم ونصف»، ليتفاجأ عند عودته بكائن عشوائي يرتدي سترة صفراء متسخة مطالبا إياه بتسديد خمسة دراهم مقابل توقفه في مكان عام تعود ملكيته للدولة المغربية. فما كان من المواطن بوخبزة إلى أن سدد لكمات للكائن البوصفيري الحكَار. موقف آخر شهدته الأسبوع الماضي لسيدة صفت سيارتها بجانب محل جزارة، وبينما كانت تهم بالمغادرة اعترض طريقها داء الالتهاب الكبدي المزمن مطالبا إياها بأداء الإتاوة المعلومة. رفضت السيدة الانصياع لتهديد ووعيد بوصفير، فما كان منه إلا أن أطلق العنان للسانه بأقذر الشتائم الحاطة من الكرامة الإنسانية للنساء.
إن الصراع اليومي الذي يخوضه المغاربة مع هؤلاء «القطاطعية» أصبح فاتورة نفسية ومادية وأمنية ندفع ثمنها جميعا. إن صمت المسؤولين أمام تغول هذه الممارسات اللاأخلاقية والتساهل مع هذه السلوكيات الخارجة عن القانون والمواطنة ومبدأ المساواة، يفاقم المشكل ويدفع به في اتجاه تصعيد لا تحمد عقباه. إضافة إلى ضرورة تغيير العقليات والتخلص من دور الضحية والتبريرات اللامنطقية التي يقدمها المدافعون عن الوضع القائم، بدعوى الرأفة بحال هؤلاء الكَارديانات ومد دراهم المساعدة لهم. إن مبدأ «خليوه يترزق» جر علينا عشوائية خطيرة في تسيير المرافق العامة، إذ هناك دائما منطقة وسطى بين الفقر والبلطجة، تدعى الأجرة مقابل العمل.