لم يُكمل رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، ثلاثة أعوام في منصبه، واضطر إلى الاستقالة من زعامة حزب المحافظين، نتيجة ضغوط ضده قادها وزراء في حكومته ونواب في حزبه. وبعد أن قاوم كل المحاولات التي جرت لعزله عدة أشهر، رضخ أخيرا على إثر حملة استقالات واسعة من حكومته، شملت خلال 48 ساعة أكثر من 55 وزيرا ووزير دولة ومساعدي وزراء، بينهم وزراء العدل والداخلية والصناعة والمالية والصحة والأمومة والطفولة والدولة لشؤون التكنولوجيا والإعلام، إلى جانب عدد كبير من كبار المسؤولين والنواب المحافظين. وواجه جونسون، على مدى أشهر، حملات للمطالبة برحيله، بعد انكشاف الكذب والتحايل والغش في سلسلة من الفضائح المتتالية. واتبع رئيس الوزراء البريطاني طرقا ملتوية من أجل البقاء في المنصب الذي وصل إليه في يوليوز 2019، لكن القضاء لم يتهاون معه، وأصر على كشف الحقيقة كاملة، وجاءت نتائج التحقيق لتُدينه وتحمله المسؤولية المباشرة في ما يتعلق بـ«بارتي غيت»، أو حفلات «داونينغ ستريت»، مقر رئاسة الوزراء البريطانية، التي خرقت قواعد الإغلاق الصارم الذي عاشته بريطانيا خلال فترة تفشي «كوفيد- 19» في شتاء 2020. والتهمة التي وجهها القضاء إلى جونسون ومسؤولين كثيرين في حكومته، عدم الشفافية وانتهاك تدابير الإغلاق.
لعب جونسون على وتر الحرب الروسية على أوكرانيا، وحاول، على نحو مكشوف، توظيف التعاطف الشعبي في الشارع البريطاني مع أوكرانيا، من أجل بناء شعبية تحميه من الإقالة، وحسب أن زياراته المكوكية إلى كييف وبعض النقاط الساخنة، والمبالغة في التصريحات الصحافية التي تحمل نكهة مزايدة على القوى الدولية كافة، يمكن أن تحوله إلى بطل شعبي، وتشيع من حوله تعاطفا يحميه من المحاسبة، ولو إلى حين تمر العاصفة الداخلية، ولكن الرأي العام في بريطانيا على درجة عالية من اليقظة، وكشف ألاعيب جونسون منذ بداية الأزمة الأوكرانية، ولم يتزحزح عن مطالب المحاسبة، وأولها استقالته من رئاسة الحكومة.
يشكل سقوط جونسون نهاية سريعة لرجل سياسة شعبوي، حاول، بكل الوسائل، الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، ولكنه احترق بسرعة بفضل وعي الرأي بالنتائج الكارثية التي جرتها مغامرات رئيس الوزراء، الذي بات رمزا لصعود الخداع الشعبوي في جميع أنحاء العالم، إلى جانب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ورئيس البرازيل جايير بولسونارو وآخرين. هو أحد الشعبويين الذين اكتسبوا السلطة من خلال إثارة شعور الاستياء بين الناس العاديين. وأولى النتائج التي حصدها كانت الفشل الكبير في مشروع «البريكست»، الذي قاده، وكان يأمل منه أن يتحول إلى قائد تاريخي، ولكن الحصيلة السياسية والاقتصادية جاءت عكسية، ولم تجن بريطانيا أي مكاسب من التي وعد بها، بل وجدت نفسها بعد خمسة أعوام من الانفصال عن أوروبا في عزلة اقتصادية وسياسية لم يسبق لها أن واجهتها منذ عدة عقود، وتكفي أرقام التضخم وحال الانكماش والركود وحدها لتقديم حصيلة سلبية عن فترة حكم جونسون.
حصل جونسون على تفويض شعبي حين قاد بريطانيا نحو «البريكست»، ولكن الرأي العام سحب منه هذا التفويض، حين وصل إلى طريق مسدود اقتصاديا وسياسيا، وبدأ يدور في حلقة مفرغة. ويعد سقوط جونسون سريعا بكل المقاييس، وبالمقارنة مع رؤساء حكومات بريطانيين سبقوه كان الأقل جدية، وأكثرهم سرعة في خسارة ثقة الحزب الذي يمثله والرأي العام الذي انتظر منه القيام بثورة جديدة بعيدا عن أوروبا. وهنا تبدو أوجه التشابه واضحة مع دجال نرجسي ومهرج آخر هو ترامب، الذي شكل خطرا كبيرا على الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين، مع قدر لا حدود له من انعدام الحياء والشعور بالواجب.
نافذة:
يشكل سقوط جونسون نهاية سريعة لرجل سياسة شعبوي حاول بكل الوسائل الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها ولكنه احترق بسرعة بفضل وعي الرأي بالنتائج الكارثية التي جرتها مغامرات رئيس الوزراء