شوف تشوف

الرئيسية

بنحمو الفاخري.. قصة أول حُكم بالإعدام في المغرب وأول تنفيذ له رميا بالرصاص

عندما رحل عن الحياة، لم يقو أحد على نعيه لأنه كانا مغضوبا عليه. لا أحد إلى اليوم، يعلم مكان قبره. ولا أحد من الذين كانوا يحجون إلى مقر إقامته الفلاحية خارج الدار البيضاء، كان قادرا على أن يطرح السؤال.. بنحمو الفاخري، أول شخص حكم عليه بالإعدام رسميا وعبر المحكمة في المغرب، وأول من نُفذ فيه الحكم أيضا. مسار حياة شديدة الغموض وكثيرة التقاطعات وقصص تستحق أن تُروى. انطلق من درب غلف بالدار البيضاء وأسس فريقا لكرة القدم كان ينافس بشراسة، وتواجه مع فريق الجيش الملكي الذي كان يديره الحسن الثاني منذ أن كان وليا للعهد. كان وراء إدماج أسماء كثيرة في الأمن والدرك والإدارات العمومية، وكان سببا وراء ترقية آخرين. كل هذا بفضل علاقته الجيدة مع الملك محمد الخامس. كل شيء انتهى عندما اتهم بتقليل الأدب أمام الحسن الثاني، في مباراة بين الجيش الملكي ونجم الشباب البيضاوي. اختفى بنحمو الفاخري وتوارى عن الأنظار، اعتقل سنة 1962 ونُفذ فيه الحكم في 24 يناير من السنة نفسها.

من بيع الفحم بدرب غلف إلى العقار وإدارة أحد أشهر فرق الكرة بالمغرب
تلمس أولى خطوات الدنيا في درب غلف بالدار البيضاء. كان طفلا يافعا خلال نهاية ثلاثينات القرن الماضي، يمضي يومه متنقلا بين درب غلف حيث العائلة وبين المعارف، حيث كانت أسرته تدير محلا بسيطا لبيع الخشب والفحم. لقب «الفاخري» جاء من هنا بالضبط، من حرفة العائلة التي لن تفارقه، حتى بعد أن أصبح من الأسماء المعروفة في المغرب، ليس فقط في عالم الرياضة وكرة القدم، ولكن في عالم المال والأعمال أيضا.
لم يسطع اسمه في «درب غلف» من فراغ، فقد كان صيته نابعا من مكانة أسرته في الحي، لكنه تعزز أكثر في شبابه عندما صار على رأس خلية من الشبان الذين يناوشون الوجود الفرنسي في الدار البيضاء، ليضمن لنفسه مكانا في لائحة الذين سُجلوا في ما بعد مقاومين ضد الوجود الفرنسي في المغرب.
لكن ما لم يفهمه أصدقاؤه، هو كيف أنه كان مطلوبا لدى السلطات مدة قصيرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، خصوصا أنه كان من الذين سلموا أسلحتهم إلى الدولة سنة 1956، ولم يكن من الذين رفضوا الانصياع للتعليمات، حتى أنه كان من أوائل الذين استقبلهم الملك محمد الخامس، في القصر الملكي، لتحيته بعد عودته من المنفى بمدة، وأيضا لتهنئته بعد حصول المغرب على الاستقلال.
لنعد إلى شباب بنحمو الفاخري، لأن تلك المرحلة كانت فارقة في حياته. السمعة التي حازها كانت في البداية بفضل اشتغاله على رأس خلية من خلايا المقاومة بمدينة الدار البيضاء، لكن ما سيجعل نجمه يسطع هو تأسيسه لفريق نجم الشباب البيضاوي. الكرة كان لها سحرها لتمنحه شهرة واسعة وشعبية كبيرة، أقلقت الذين كانوا يعدون أنفاس المواطنين في ذلك الوقت.
الفاخري كان عنيدا بشهادة الجميع، وهذا هو السبب الذي جرّه إلى كل المتاعب التي عاشها في حياته، وستعيشها أسرته بعده.
تقول بعض الروايات التي روجها عنه معاصروه، إنه كان يكره السياسيين كرها كبيرا، وكان يعتبرهم أناسا عاجزين تماما عن التأثير في حياة الناس، وأنهم ليسوا إلا بائعي كلام في الجرائد، بعيدين كل البعد عن واقع حياة الناس.. الحياة التي جاء منها بنحمو الفاخري علمته أن يقرب منه مواطني الدار البيضاء، ودرب غلف خصوصا، ويخاطبهم بلغتهم، ويقاسمهم همومهم.. الروايات نفسها تقول أيضا إن طريقته في الحياة، جعلت الكثيرين مدينين له، لأنه ومباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، كان هو يستفيد من تقدير خاص من الملك الراحل محمد الخامس، وهو ما جعله لا يتردد في طلب التدخل الخاص للملك محمد الخامس لإنصاف المتضررين.
لا يوجد جرد واضح بالعمليات التي كانت تقوم بها مجموعة بنحمو الفاخري ضد الوجود الفرنسي بالدار البيضاء، لكن الروايات التي كان وراءها أناس عاشوا داخل خلايا المقاومة خلال فترة الأربعينات وبداية الخمسينات أشارت في أكثر من مناسبة إلى أن بنحمو الفاخري كان يمثل نواة حقيقية ومصدرا لكل العمليات التي كان يقوم بها شبان منطقة درب غلف.. حتى أن الأمر وصل إلى مسامع الملك محمد الخامس، وهكذا كان قد سمع باسم بنحمو الفاخري لأول مرة، حيث قيل للملك محمد الخامس إن هناك شابا بيضاويا ينحدر من درب غلف، وإنه يتمتع بشعبية كبيرة في ذلك الحي وإنه يتحكم في تحركات خلية نشيطة جدا في الدار البيضاء. كانت هذه المعلومة وحدها كفيلة بتعبيد نصف الطريق أمام بنحمو الفاخري ليصبح مقربا من محمد الخامس، ولزمه الأمر فترة إضافية، نظرا لما عرفته البلاد من أحداث، وهكذا سيكون له لقاء مباشر مع الملك لأول مرة في القصر الملكي بعد عودته من المنفى، وهناك سيصبح بنحمو الفاخري، قد جمع، إلى جانب شعبيته على رأس فريق نجم الشباب البيضاوي، علاقة طيبة مع القصر، من شأنها أن تفتح له الأبواب.
لم يكن يتردد بعض لاعبي الكرة خلال فترات الخمسينات في الاعتراف بأنهم مدينون بما حققوه كرويا لبنحمو الفاخري، لكنهم، بعد 24 يناير 1962، أصبحوا يحسبون ألف حساب قبل نطق اسمه، لأنهم يعلمون جيدا أنه أصبح مغضوبا عليه حتى بعد تنفيذ حكم الإعدام في حقه، بعد أن وجهت إليه تهمة محاولة قلب النظام. وبعد أن كان القرب منه مفخرة، أصبح أمرا يجب الاحتياط من الإفصاح عنه، خصوصا وأن الحديث راج كثيرا عن اعتقالات جماعية في صفوف الذين كانوا يشتغلون في صفوف المقاومة، والذين كان أغلبهم على علاقة بالفاخري وأسماء أخرى كانت تحمل السلاح في الدار البيضاء قبل الاستقلال. كيف تحول هذا الرجل الذي كانت شعبيته كبيرة جدا، بصفته مقاوما سابقا ورئيسا لفريق كروي كان ينافس فريق الجيش الملكي والرجاء والوداد، إلى متآمر على النظام؟

عائلة الفاخري: «لم نتوصل أبدا برفاته بعد إعدامه ولا يزال قبره مجهولا»
يسترجع عبد الفتاح أرسيم، وهو ابن أخت بنحمو الفاخري، صفحات من حياة الرجل الذي صنع مجد العائلة، رغم أن كنية «الفاخري» كانت وحدها سببا في المشاكل في سنوات الستينات والسبعينات أيضا.
يقول أرسيم إن الكثيرين مدينون بحياتهم إلى اليوم، لبنحمو الفاخري، لأنه كان وراء توظيفهم في وظائف مرموقة، مغتنما علاقته القوية مع الملك الراحل محمد الخامس. هذا الأمر أكده أصدقاء الراحل القدامى، الذين تحدثنا إلى بعضهم. وجميعهم أكدوا أن بنحمو الفاخري استغل أول لقاء له بالملك الراحل سنة 1956، وأن اسم «الفاخري» بقي عالقا بذاكرة محمد الخامس، وطلب استدعاءه مرة أخرى إلى القصر الملكي، ليستمع إليه بعد أن وصلته أصداء نزاعات بين أفراد المقاومة في الدار البيضاء بخصوص تسليم أسلحة المقاومة إلى الدولة، وهكذا كان «الفاخري» حاضرا في أكثر من مناسبة، قريبا من الملك محمد الخامس أثناء عمليات تسليم السلاح التي تابعها القصر عن كثب.
يقول أرسيم متحدثا عن خاله بكثير من المرارة، إنه كان يحظى بشعبية كبيرة جدا أزعجت خصومه في الكرة ودبروا طريقة للتخلص منه، خصوصا وأنهم كانوا يحسدونه على علاقته مع الملك محمد الخامس، بحيث لم يكن يرفض له طلبا. «طلبات بنحمو الفاخري كانت اجتماعية دائما. لم يطلب لنفسه شيئا، لكن الملك محمد الخامس كان سخيا معه ومع أصدقائه. أعتقد أن نجاحه اعتبر كبيرا لأنه كان فقيرا، واستطاع تأسيس فريق رياضي جمع فيه شبانا من عائلات فقيرة جدا، ومولهم ووفر لهم كل شيء، وأسس الفريق من ماله الخاص لأنه كان مولعا بكرة القدم، وكرس حياته كلها لإنجاح تجربة نجم الشباب البيضاوي. أما حياته الخاصة فقد كانت مكرسة دائما لخدمة الفريق واللاعبين. لقد كان تاجرا ورجل أعمال ناجح. بداية تألقه كانت منذ لقائه بالملك محمد الخامس واهتمام الأخير به، لأنه رأى فيه ذكاء كبيرا. اليوم أنا أردد دائما أن الكثير من الناس مدينون بحياتهم لبن حمو الفاخري، ونتأسف كثيرا للنهاية الظالمة التي طالته في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد. نحن اليوم لا نعلم أي شيء عن قبره. لم نتوصل أبدا برفاته. لم يكن يستحق أن يُعدم بتلك الطريقة، خصوصا في تلك المرحلة التاريخية الحرجة التي مرت منها البلاد. كان هناك أناس في الدولة وجنرالات أزعجهم وجود بنحمو الفاخري ونجاحه في الحياة، وعطفه على الفقراء، والشعبية الكبيرة التي حازها في درب غلف وفي الدار البيضاء كلها. كان الناس يرون في خالي نموذجا للمغربي الذي انطلق من الصفر ونجح في حياته، فهو لم ينجح فقط في التجارة والمال، وإنما نجح أيضا في تأسيس فريق كرة كانت له شعبية كبيرة جدا.. تفوق التصور. أعتقد أن هذا ما كان يزعج الذين تربصوا به».

هل كان الفاخري مدبرا لأول محاولة انقلابية على الحسن الثاني سنة 1959؟
في نهاية الخمسينات كان بنحمو الفاخري في أوج قوته وفي قمة شعبيته. قربه من القصر جعله يتوسط للكثيرين للحصول على مأذونيات نقل، إلى درجة أن بيته كان مزارا كبيرا لكل الذين كانوا يرغبون في الاستفادة من المأذونيات وبعض المبالغ المالية، خصوصا الأسر القديمة بدرب غلف، والتي كان أفرادها يعانون من الفقر والبطالة ويرون في بنحمو الفاخري نموذجا استطاع أن يحقق النجاح ويربط علاقات نافذة، رغم أنه انطلق من دكان صغير لبيع الفحم. كان فريق نجم الشباب عبارة عن ملجأ كبير لكل الذين كانوا يحلمون باحتراف كرة القدم، ولم تكن لديهم فرصة الالتحاق بفريقي الرجاء أو الوداد البيضاويين، أما فريق الجيش الملكي، فقد كان الوصول إليه بالنسبة إلى هؤلاء اللاعبين الفقراء ضربا من الخيال، لأن رئيس النادي وقتها لم يكن أحدا سوى الملك الحسن الثاني، أيام كان وليا للعهد.
وهكذا كان فريق نجم الشباب البيضاوي، يتمتع بشعبية كبيرة في أوساط لاعبي الدار البيضاء والمدن الأخرى، لأن رئيسه، أي بنحمو الفاخري، مقرب من الملك الراحل، ولديه ماض في المقاومة، ويستقبل في ضيعته يوميا عشرات العائلات والشبان الذين كانوا يلجؤون إليه من أجل المعونة، أو البحث عن وظائف لأبنائهم العاطلين.
نجم الشباب كان فريقا ثوريا لأن رئيسه كان يركز على انطلاقته بحلم الفريق من درب غلف، وهكذا كان لاعبو الفريق يحصدون الانتصار تلو الانتصار، حتى أنهم وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع فريق الجيش الملكي، في مراحل متقدمة من المنافسات. بعض المصادر تقول إن الفريقين التقيا في المراحل النهائية من البطولة لسنة 1959، وإن فريق نجم الشباب كان يقترب من الإطاحة بفريق الجيش الملكي الذي كان الحسن الثاني، وهو ولي للعهد، يحضر جميع مبارياته، كرئيس للفريق وليس مشجعا فقط. عندما وصل نجم الشباب إلى هذه المرتبة الوطنية في كرة القدم، كانت هناك أحاديث في المقاهي وفي المجالس الخاصة ومحيط بنحمو الفاخري، أن فريقه أصبح مزعجا، خصوصا وأن بعض الذين كانوا يلعبون في الجيش الملكي، كانوا يرددون دائما أنهم يلعبون في فريق ولي العهد وأن لديهم معارف وعلاقات، حتى أن بعضهم كانوا يشتغلون في وظائف مهمة ويتفرغون للعب لصالح الفريق العسكري.
كان السياق العام في المغرب وقتها متذبذبا، سيما أن الدولة كانت منشغلة بالتأسيس للحياة السياسية في المغرب، وجمع السلاح بشكل نهائي من الشوارع.
ما لا يفهمه أصدقاء بنحمو الفاخري أنه لم يكن من معسكر الذين رفضوا تسليم السلاح إلى الدولة، لكن المشكل كان نابعا من النجاح الكبير الذي حققه، والذي كان مصدر إزعاج للكثيرين من محيط القصر، وعلى رأسهم الجنرالات والكولونيلات الذين كانت بعض أوساط المقاومة تصفهم بالخونة والمرتزقة، حتى بعد حصول المغرب على الاستقلال. وبنحمو الفاخري لم يكن من الذين يجالسون علية القوم في الفنادق المصنفة، بقدر ما كان وفيا لأصدقائه القدامى وضيوفه من المولوعين بكرة القدم. لكنه وجد نفسه سنة 1959 مطلوبا بتهمة التآمر على قلب النظام. عائلة بنحمو الفاخري تحكي كيف أنه فوجئ بوشاية مجهولة لدى الأمن، يتهم فيها صاحبها بنحمو الفاخري بالتخطيط لقتل الحسن الثاني، وهو وقتها ولي للعهد، أياما قليلة على مرور مباراة حاسمة بين فريقي نجم الشباب البيضاوي والجيش الملكي، الذي كان لاعبوه على قدر كبير من اللياقة البدنية، متمتعين بالمكانة الاعتبارية الكبيرة التي كان مصدرها الانضمام إلى فريق يخصص له ولي العهد أغلب وقته في التخطيط للمباريات واستقدام اللاعبين والتداريب أيضا.
ربما كان بنحمو الفاخري قد قال كلاما مزعجا في غمرة حماسه الكروي في الملعب، وهذا أمر أكده الكثيرون ممن يحتفظون لبنحمو الفاخري بذكريات مع فريق نجم الشباب البيضاوي، وأضافوا أن غضبه في المباراة الحاسمة التي كان الحسن الثاني حاضرا فيها، وقريبا من اللاعبين على أرضية الملعب، لم يرق لمحيط ولي العهد، خصوصا مديرية الأمن الوطني التي كان أفرادها حاضرين، ومن بينهم أناس كانوا في صفوف المقاومة ولديهم حسابات قديمة مع بنحمو الفاخري. حسب المصادر المتوفرة، ممن تحدثنا إليهم بخصوص حياة بنحمو الفاخري، فإن محيط الفريق المنافس استغل الفرصة لضرب رئيس نجم الشباب، خصوصا أنه بالغ في ردة فعله فوق أرضية الملعب وتحمس لفريقه ولم يقدر ربما وجود ولي العهد على بُعد أمتار منه.. هذه «الزلة» التي لم يكن محيط ولي العهد ليهضمها، شكلت فرصة لضرب الفاخري، وهكذا دبرت الشكاية التي ظل صاحبها مجهولا حتى بعد محاولات أصدقاء الفاخري الوصول إلى هوية الشخص الذي تقدم إلى مصالح الأمن ذات ليلة من دجنبر 1959، وقال إنه يريد التبليغ عن مخطط خطير يقف وراءه بنحمو الفاخري، يستهدف به حياة ولي العهد، وانصرف صاحب الشكاية، ولم يتم الإفصاح عن هويته حتى في محاكمة بنحمو الفاخري وصدور الحكم عليه بالإعدام.
حتى لا نستبق الأحداث، فإن بنحمو الفاخري كان قد علم بالمكيدة، حسب ما روته عائلته لـ«الأخبار» وهم يستحضرون تفاصيل حياة رمز الأسرة، بفضل علاقاته الواسعة مع مسؤولين وموظفين في الأمن والدرك. هؤلاء، بحكم أنهم كانوا مدينين له بالوظائف التي يشغلونها لأنه توسط لهم لدى الملك محمد الخامس، ليصيروا رجال أمن ودركيين، أخبروه بأن هناك تهمة ثقيلة جدا في طريقها إليه، ليختفي تماما عن الأنظار لأشهر طويلة، لكن اختفاءه لم يكن ليستمر دائما. وتتحدث بعض المصادر أن ثقته العمياء في أصدقائه المقربين، هي التي أوصلت الأمن إلى مخبئه، ليتم اعتقاله والحكم عليه بالإعدام رميا بالرصاص في يناير 1962.

الفاخري خطط للهروب من المغرب والوشاية عجلت بتنفيذ الإعدام
حسب المعلومات المتوفرة عن نهاية بنحمو الفاخري، فإن الحياة توقفت بالنسبة إليه في سنة 1960، عندما كان مختفيا تماما عن الأنظار، ويرى من بعيد كيف أن الأجهزة السرية كانت تمشط الدار البيضاء ومحيطها، بما في ذلك الضيعات الفلاحية والمناطق الصناعية، بحثا عن بنحمو الفاخري وثلاثة من أصدقائه المخلصين له.
في تلك الفترة كان بنحمو الفاخري محتاطا جدا، لكن ذلك لم يمنعه من متابعة الفريق وتسييره من بعيد، بالرغم من أنه كان مختفيا. يروي ابن أخت بنحمو الفاخري كيف أن أصدقاء الراحل كانوا يروون للعائلة شغفه الكبير بفريق نجم الشباب البيضاوي، بحيث لم تمنعه المخاطر التي كانت تحيط به من إرسال تعليماته إلى إدارة الفريق، بالرغم من الأجهزة السرية كانت تراقب كل شيء، إلا أن الفاخري كان يرسل تعليماته شفهيا مع أناس يثق بهم، ليخبروا إدارة النادي بما يجب اتخاذه في المباريات، بل حتى مسألة تمويل الفريق ماديا لم تنقطع في الفترة التي كان فيها مختبئا عن أنظار الأمن.
العائلة تعرضت لمضايقات كثيرة بحثا عن الفاخري، حيث كانت الأجهزة السرية دائما تداهم بيته، وتضايق زوجته وتضغط عليها نفسيا للإفصاح عن مكان وجود بن حمو الفاخري وأصدقائه المختبئين معه، وكانوا يهددون أمه وأخته وأبناءها، بحيث كانت المداهمات تتم في درب غلف، والإقامات الجديدة التي كان بنحمو الفاخري يعيش متنقلا بينها وبين الضيعات الفلاحية، بالإضافة إلى السكن الذي اقتناه لأخته في منطقة «العنق» بالدار البيضاء دائما.
حسب عائلة الفاخري، فإن ابن أخته أكد للجريدة أن بنحمو كان يفكر جديا في مغادرة المغرب نحو فرنسا، خصوصا عندما كان يظن أن التهمة التي وجهت إليه ستسقط مع مرور الوقت، وهكذا أخبر أحد أصدقائه وكان يدعى «القدميري»، أنه يفكر في مغادرة المغرب نحو فرنسا، بحيث سيوهم المصالح الإدارية في المغرب أنه سيتوجه إلى فرنسا للعلاج، وفور وصوله إلى فرنسا سيعمل على ألا يعود أبدا إلى المغرب، إلا بعد أن تسقط عنه هذه التهمة الثقيلة. هذه المعلومة بدا أنها لم تبق حبيسة صدر صديق بنحمو الفاخري، وخرجت إلى دائرة أوسع لتصل إلى آذان الأجهزة السرية، وهو ما عجّل بالإجهاز عليه وتصفيته، بعد محاكمة عاجلة صدر إثرها فور اعتقاله بأسابيع حكم بالإعدام رميا بالرصاص، نُفذ أياما قليلة بعد إصداره. وهكذا شاع خبر إعدام بنحمو الفاخري، وهوى فريق نجم الشباب البيضاوي، فيما أصبحت عائلته منبوذة، يتجنب أصدقاء الأمس طرق بابها حتى لا يُصنفوا في خانة المغضوب عليهم، باستثناء وفاء بعض الأصدقاء الذين وقفوا إلى جانب العائلة في أحلك السنوات التي تلت تنفيذ حكم الإعدام.

لماذا تم الإسراع بتنفيذ الإعدام في حق بنحمو وأصدقائه؟

الذين دبروا قضية التهمة لبنحمو الفاخري، نقول «دبروا» لأنه وبعد كل هذه السنوات لم يثبت رسميا أنه كان متورطا فعلا في تهمة كبيرة كتهديد حياة ولي العهد. وأيضا لأن السياق العام في المغرب كان متذبذبا، وأيضا لأن التاريخ كشف أن السنوات التي تلت إعدام الفاخري شهدت توزيع نفس التهمة على معارضين سياسيين، أبرزهم محمد الفقيه البصري وآخرين..
تقول عائلة بنحمو الفاخري إنه كان ليلقى نفس مصير محمد الفقيه البصري، لو أنه فر خارج المغرب، لكنه لم يبادر إلى الهرب، وهذا هو الغلط الذي ارتكبه في الفترة التي كان مختبئا فيها، لأنه كان يستطيع على الأقل الفرار إلى الجزائر ومنها إلى دول عربية أخرى، خصوصا وأن العائلة تؤكد اليوم لـ«الأخبار» أن بنحمو تلقى عروضا للهروب بنفس الطريقة التي هرب بها مقاومون قدماء، من بينهم أصدقاؤه، إلى الجزائر ومنها إلى مصر وسوريا أيضا، ووجهت إليهم بدورهم تهمة التآمر على النظام ومحاولة الإطاحة بالملك الحسن الثاني، وصدرت ضدهم أحكام بالإعدام، ليتم إسقاطها بأمر من الملك شخصيا أواسط الستينات.
لماذا لم يكن إذن بنحمو الفاخري قصة شبيهة بقصص أصدقائه، خصوصا أن هناك تطابقا في التهمة وفي الماضي المسلح، بل وتطابقا مدهشا في كيفية صياغة الاتهام؟ فحتى بعد إعدام بنحمو الفاخري، لم يتم التطرق أبدا إلى الشهادة التي تم بناء التهمة عليها، والتي ظلت باسم مجهول، لم يتم التأكد أبدا من صحة المعلومات التي أدلى بها.
يقال، والعهدة على حراس الرواية التاريخية، إن إعدام بنحمو الفاخري كان أمرا ضروريا لأنه كان ليفكر في الانتقام من الذين تدبروا له أمر التهمة في حال تم إسقاطها عنه.
من ناحية أخرى، كان بنحمو متابعا منذ أواخر أيام الملك محمد الخامس، ومباشرة بعد موته، لم يعد له وزن في محيط القصر، لأن المكانة الخاصة التي أولاها له الملك محمد الخامس انتفت بموته، لتأتي أسماء أخرى إلى المحيط الجديد. هذه الأمور تحكمت في رسم نهاية بنحمو الفاخري، خصوصا وأنه كان مختلفا عن المقاومين الآخرين، لأنه كان على رأس فريق كرة يتمتع بشعبية كبيرة في الدار البيضاء، ولديه أنصار كثيرون قد يحولونه إلى معارض سياسي كبير، على الرغم من أنه كان بعيدا تماما عن السياسة.

هكذا كانت الحياة الخاصة لـ«الفاخري».. أب للاعبين ومدين لزوجته

كانت حياة بنحمو الفاخري تختلف كثيرا عن حياة المحيطين به. فقد كان يسافر خارج المغرب بانتظام رفقة زوجته عائشة، والتي توفيت بعده بمدة قصيرة حزنا على نهايته المأساوية وغير المتوقعة.
لقاءات مستمرة بين الفاخري رجل الأعمال، والراغبين في الاستثمار معه في مجال العقار. كلهم ربما سمعوا عن علاقته الوطيدة مع الملك الراحل محمد الخامس، وسمعوا عن نفوذه الكبير بصفته رئيسا ومالكا لناد رياضي كبير له مكانته بين الفرق الوطنية المشهورة. كل هذا ينتهي بمجرد خروج بنحمو من تلك الاجتماعات، ليعود إلى درب غلف، مصدر شعبيته الكبيرة. يقال إنه كان يلتقي اللاعبين بشكل دائم، ويعرف أمهات الكثيرين منهم، ويتولى شخصيا مصاريف علاج المرضى منهم. كان بعض لاعبي فريقه، مطمئنين للعب لصالح نجم الشباب لأن رئيس الفريق، بنحمو الفاخري، كان يتكلف بمصاريف علاج أمهاتهم وآبائهم، بل هناك من كان الفاخري يتكلف بمصاريف تعليم إخوته وحتى فاتورة الكهرباء.
كانوا ينظرون إليه بكثير من الإعجاب، خاصة أن نجاح فريقه وصل ذروته خلال نهاية الخمسينات، وبدأ «الفاخري» يلتقي بلاعبي فريقي الرجاء والوداد، وكانت لديه القدرة على تقديم عروض أفضل لأولئك اللاعبين حتى ينضموا إلى فريق نجم الشباب، حتى أن بعض قدماء اللاعبين تحدثوا في ما بعد لعائلة الفاخري، عن أنهم مدينون له بحياتهم وأنه كان بمثابة أب حقيقي لهم، لأنه أنقذهم من الفقر أيام الأزمة، وألحقهم بالفريق ورووا كيف أنهم تشردوا بعد إعدامه.
زوجة الفاخري، وتدعى عائشة، كانت ضحية النهاية المأساوية لبنحمو الفاخري، يروي ابن أخته لـ«الأخبار»: «كانت زوجته رحمها الله منحدرة من أسرة مقاومة. كنت طفلا صغيرا وقتها، وكنت أرى كيف أنها كانت تشارك خالي في حياته، وكيف أن شخصيتها كانت قوية جدا. روت لي والدتي لأنها عاصرتها أكثر مني، كيف أنها كانت تشتغل مع المقاومة، وأنها كانت تهرب السلاح للمقاومين خلال الأربعينات والخمسينات، وكانت تغامر بحياتها في أحايين كثيرة، ولذلك كان يقدرها بنحمو الفاخري وتزوجها وهو في ريعان شبابه وعاشت معه تطور أعماله وفريق كرة القدم وكانت ترى دائما كيف أنه كان يكرس حياته لخدمة أبناء درب غلف، وهذا سر الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها إلى آخر يوم في حياته. صدمتها كانت كبيرة لأنها لم تتوقع أن ينتهي بتلك الطريقة المهينة. ولأنها زوجته كانت ترغب على الأقل في رؤيته، لكنها منعت من هذا الحق، ولم تتمكن من تسلم جثمانه بعد تنفيذ الإعدام، ولم يكشف لها أحد عن مكان وجود القبر حتى نزوره كعائلة. هذه الأمور كلها جعلت حياتها تنقلب وتدخل في اكتئاب حاد جدا عجل بوفاتها مدة قصيرة بعد رحيله».
تروي العائلة كيف أن عائشة كانت مرافقة دائمة لبنحمو الفاخري طيلة حياته، داخل المغرب وخارجه، وكيف أنها كانت علبة أسرار حقيقية له، ورغم أنه كان يعيش في مستوى اجتماعي متقدم جدا مقارنة ببقية المغاربة البسطاء، إلا أنها لم تتذمر يوما من علاقاته الكثيرة بالفقراء، ولم تكن تتضايق من كثرة الوافدين على ضيعته، أو إقاماته الخاصة في الدار البيضاء والجديدة، طلبا للمساعدات، أو للإعداد لمباريات الفريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى