
المضيق: حسن الخضراوي
عند مضيق جبل طارق، وعلى بعد كيلومترات قليلة من مدينة الفنيدق، شمال المملكة، توجد قرية بليونش. البلدة الشاطئية المحاذية لسبتة المحتلة تطل على جزيرة ليلى. روعة المنطقة، التي جمعت جغرافيتها بين الغابة والجبل والبحر، جعلت منها قبلة لعدد من السياح المغاربة والأجانب. المولوعون بالسباحة تجذبهم شواطئ رائعة على البحر الأبيض المتوسط تتميز بصفائها وهدوئها، والعاشقون لرياضة الغطس يجدون في استقبالهم شبابا مجهزين بمعداتهم لمرافقتهم في رحلة فريدة تحت المياه الباردة. أما الراغبون في خوض مغامرة التسلق فيجدون أمامهم جبل موسى الشامخ، الذي لا يتجاوز علوه 842 مترا.
«الأخبار» زارت هاته الجوهرة السياحية ونقلت صورة عن جمالها الذي يأسر كل من يكتشفها، ووقفت على جزء من الأسرار الطبيعية التي جعلت سلطات عمالة المضيق الفنيدق تشرف على عدد من المشاريع الاستثمارية والتنموية، من أجل الاستجابة لمتطلبات سكان المنطقة وتلبية رغبات السياح، الذين باتوا يترددون بكثرة على هذه القرية الجبلية الساحرة.
«إنها قطعة من الجنة.. لم يسبق لي زيارتها من قبل، وأنا الآن أفكر في قضاء عطلتي الصيفية كاملة، رفقة عائلتي وأصدقائي، وسط وديانها وجبالها وغاباتها وشواطئها المطلة على مضيق جبل طارق، حيث كل ما يحيط بك يبعث على الحياة والاستمتاع والسعادة»، بهذه العبارات استقبلنا سائح من مدينة فاس قطع عشرات الكيلومترات من أجل الوصول إلى منطقة بليونش الواقعة بعمالة المضيق، على بعد 13 كيلومترا عن مدينة الفنيدق. هذا السائح الشاب قال إنه زار المنطقة عن طريق الصدفة، ولم يكن على علم بأن جزيرة ليلى المغربية تقع بالقرب منها على الساحل الشمالي.
تعود تسمية بليونش، بحسب بعض أبناء المنطقة، إلى الكلمة الإسبانية Piñones أو piniones ، وتعني حبوب الصنوبر «البينيا» وذلك نسبة لشكل الصخور التي تظهر فوق سطح البحر. سكانها هادئون هدوء القرية، التي تتسلل إليها الشمس كل صباح لتوقظ عصافير غابتها لعزف سمفونية الطبيعة الرائعة، التي تمتزج بصوت الأمواج الهادئة، فتمنح الزائر فرصة للجمع بين الاستمتاع والتأمل.
رحلة إلى الجنة
انطلقنا من الفنيدق حوالي الساعة الواحدة من بعد زوال يوم الخميس الأخير من شهر يونيو الماضي، في اتجاه قرية بليونش. على متن سيارة خاصة، قطعنا حوالي 9 كيلومترات في اتجاه طنجة، لنجد اللافتة التي تشير إلى مدخل بليونش على اليمين. هناك أوقفنا رجال الدرك الملكي بالسد القضائي الثابت بالمكان للمراقبة والتفتيش. طلبوا منا الإدلاء بوثائق إدارية كإجراء روتيني، قبل أن ننطلق في طريق بليونش ونقطع 4 كيلومترات أخرى لنصل وجهتنا.
في الطريق إلى مركز بليونش، توقفنا عند ينبوع يسمى عين «سملالة» تشرف على تسييره جمعية الحياة والماء. تم تجهيز الينبوع بصنبور والقيام بإصلاحات بالمكان، مع وضع لافتات تشير إلى الاستعمال الخاص بالشرب، ومنع غسل السيارات والحفاظ على النظافة، وتجنب كافة أسباب الحريق حفاظا على الغطاء الغابوي الذي يحف بليونش.
سألنا محمد، الذي كان يملأ قنينة بمياه الينبوع، عن سر توافد العديد من الزوار من مدن قريبة، لأخذ المياه من عين سملالة، فأجاب بأن مياه الجبال لها من الفوائد ما لا يمكن عده، بحيث تعمل على مساعدة مرضى الكلي على الشفاء، وتعتبر خفيفة على المعدة بالمقارنة مع مياه أخرى، إذ تساعد على تسريع الهضم أحسن بكثير من المشروبات الغازية بكافة أنواعها.
ودعنا محمد بابتسامة على المحيا، بعدما أطلعناه على مهمتنا الصحافية بمنطقة بليونش. هذا الشاب الذي بدا حريصا على صورة البلدة، استحسن إنجاز ربورتاجات تبرز المؤهلات السياحية للمنطقة ووضع بين أيدينا كافة المساعدات الممكنة.
انطلقنا نحو مدخل القرية، فوجدنا شيخين كبيرين، تجاذبنا معهما أطراف الحديث ورحبا بنا بحفاوة، قبل أن يؤكدا أن بليونش أصبحت تتوفر على بنيات تحتية مهمة منها الطرق والمواصلات، التي تسهل التنقل إلى مدينة الفنيدق، بسعر لا يتعدى 15 درهما عبر سيارة الأجرة.
عند دخول بليونش، لافتات متعددة لكراء شقق مفروشة. هناك توقفنا عند سعيد، صاحب محل تجاري للمواد الغذائية، لنسأله عن ثمن كراء شقة صغيرة لعائلة من زوجين وثلاثة أبناء، فأجاب، بلكنة جبلية مميزة، بأن ثمن كراء الشقق المفروشة بالقرية، يتراوح ما بين 300 و500 درهم، وملاك الشقق متساهلون ويكرمون الضيف على العموم. ويسأل سعيد، مرحبا بنا، إن كنا سنقضي العطلة بالمكان، «كولشي هنا موجود اخاي.. الغابة والشجر والجبل والبحر والدلاح بارد والجبن بلدي والحوت طري..»، قبل أن نودعه ونشكره على حسن الاستقبال والروح المرحة.
طيلة مسافة 4 كيلومترات من نقطة مراقبة الدرك الملكي بمدخل بليونش على الطريق بين الفنيدق وطنجة، وحتى مركز القرية، أخذتنا المناظر الخلابة وحلقت بنا في السماء غابات وجبال وأشجار خضراء، ووديان وينابيع وعيون يصدق عليها وصف الجنة.
استمتاع مضمون
في مدخل الموقع السياحي المتنوع، صادفنا نقطة مراقبة ثابتة ووجودا أمنيا لافتا لعناصر القوات المساعدة والدرك الملكي. العناصر المتواجدة بالمكان رفضت تصويرها لأسباب أمنية، لكنها قدمت لنا المساعدة اللازمة لإنجاز المهمة الصحافية.
هذا الوجود الأمني المكثف يتم دعمه من قبل السلطات المحلية بعناصر من القوات العمومية، أثناء الفترة الصيفية، وهو ما يمنح الإحساس بالاطمئنان ويحول دون تسجيل أي حوادث غير طبيعية، يقول أحد أبناء المنطقة.
بعد دخولنا إلى بليونش لم تواجهنا أي صعوبة من أي نوع. السياح الوافدون على القرية يتجولون بها بكل طمأنينة. بالقرب من الشاطئ، التقينا سائحا من مدينة فاس رفقة زوجته. اليوبي عز العراب اطلع على صفحات بالفيسبوك فشاهد فيها مناظر طبيعية جميلة، وبحث عن مكانها وقيل له إنها توجد بشمال المغرب، فقال اليوبي «نزورو بلادنا هاد الصيف عاد نشوفو بلادات الناس..». لم يكن يتوقع أن تكون بليونش بهذا الجمال الذي يبعث على الراحة والسكينة والهدوء.
شاب من سكان المنطقة تدخل ليساعدنا، رفقة السائح اليوبي، على تحديد مكان المجسم الطبيعي لـ”المرأة الميتة” بالجبل، فبادر لتصوير الجبل أمامنا بهاتفه الشخصي وشرع يوضح بيده أين يوجد عنق المرأة وأنفها وصدرها… لتنجح مخيلتنا أخيرا في مشاهدتها وهي تنام على ظهرها وتنظر إلى مضيق جبل طارق حيث التاريخ المليء بالانتصارات والحضارة والفتوحات.
قبل توديعنا للسائح اليوبي، طلب منا إيصال رسالة مضمونها الآتي: «المغرب يزخر بمناطق سياحية جميلة جدا، لا يمكن أن تجدها بأي مكان بالعالم، لذلك على الحكومة المقبلة التفكير في إطلاق أوراش ضخمة لهيكلة القطاع السياحي، وتشجيع المشاريع الشبابية، والرفع من جودة خدمات وكالات الأسفار، وتفعيل دور جمعيات حماية المستهلك والمراقبة، وإحداث أرقام خضراء للتبليغ عن الزيادات غير القانونية أو الابتزاز والتفاعل مع الشكايات وفق السرعة والنجاعة المطلوبتين لكسب ثقة السائح».
في طريقنا إلى الشاطئ، الذي يقع بين الجبال، توقفنا عند صاحب ناد للغوص تحت مياه البحر، وطلبنا أن نجرب مغامرة الغوص لننقل لكم تفاصيل الرحلة داخل كهوف الجبال جنب الشاطئ، لكن تعذر الأمر لأسباب تتعلق بانشغال مدربين مع فريق سياحي زار المنطقة.
العامل بالنادي الذي رفض ذكر اسمه أو تصويره لأسباب شخصية، مع السماح لنا بتصوير المحل والمعدات والإدلاء بكافة المعلومات، قال إن الاستفادة من نصف ساعة تقريبا من الغوص تحت مياه البحر الأبيض المتوسط لا تكلف سوى 400 درهم، تدخل ضمنها خدمات مدرب غواص محترف لكل سائح، وخدمة التصوير بالفيديو تحت الماء ونسخ شريط للذكرى. النادي يضمن استمتاع السائح في رحلته التي تتم وفق شروط صارمة للصحة والسلامة والوقاية من الأخطار، بالسباحة لاستكشاف كهوف وسط أنواع من الأسماك والمناظر التي تسلب العقل تحت مياه البحر.
سألنا العامل عن حوادث غرق أو تعرض سياح للخطر أثناء رحلة الغوص تحت المياه، فنفى، بشكل قاطع، تسجيل أي حادث غير طبيعي في مجال الغوص رفقة مدربين في الغوص في أعماق البحر، مؤكدا أن المدربين يخضعون السائح لتجارب فوق المياه، ولهم من التجارب والكفاءة ما يسمح بتحديد الشخص الذي لا يمكنه الغوص، كما يمنع على المرضى بأمراض القلب و”الضيقة” ونوبات الهلع والصرع.. الغوص تحت مياه البحر، تجنبا لأي مضاعفات صحية.
وبخصوص إمكانية السماح للقاصرين بتجريب عملية الغوص، كشف المتحدث نفسه أنه لا شيء في قانون النادي يمنع ذلك، سوى أنه يشترط أن يكون القاصر مرفوقا بولي أمره أو والديه، مع إلزامية إخضاعه لتجارب قبلية فوق المياه، فضلا عن خلوه من أمراض القلب والشرايين وضيق التنفس والصرع.. شأنه شأن البالغين.
عاينا إقبال سياح من مراكش على الغوص تحت المياه، حيث أكد لنا أحدهم، وهو مازال مرتديا لباس الغوص، أنها تجربة رائعة يصعب وصفها وينصح بها جميع الزوار، حيث اكتشاف عالم ما تحت البحار من أنواع الأسماك والسلاحف والمرجان والكهوف الجميلة، كما أن العملية التجريبية فوق المياه ساعدته في الاسترخاء وتبديد الخوف بمساعدة الغواص المحترف الذي يعلمك الإشارات التي يتم التعامل بها في الأعماق في حال إحساسك بضيق أو حالة نفسية غير طبيعية.
سياحة جبلية
بالقرب من قرية بليونش يوجد جبل موسى. هذا الجبل الذي تعود تسميته إلى موسى بن نصير، يقصده العديد من هواة التسلق، حيث يستمتع كل من يصل القمة بهواء المحيط الأطلسي المختلط برياح البحر الأبيض المتوسط، فضلا عن تحقيق هدف التمتع برؤية مناظر خلابة فوقية، والإحساس بنشوة تدفعك لإلقاء خطبة كما فعل سائح قيل إنه عند وصوله لرأس جبل موسى صاح «أنا الآن حر، متحرر من كافة القيود التي يمكنها أن تمنعني من الاستمتاع بمناظر ليست سوى قطع من جنة دنيوية».
صعود الجبال يتطلب صبرا وتحملا وطاقة، ومعرفة دقيقة بتفاصيل تضاريس وخريطة المنطقة، لذلك تنصح السلطات المحلية ببليونش الجميع بأخذ تصريح عادي والتسجيل لديها قبل الإقبال على المغامرة حفاظا على سلامة السائح وحياته بالدرجة الأولى، حيث سبق أن تدخلت مصالح عمالة المضيق أكثر من مرة لإنقاذ سياح تائهين بالجبال المحيطة، لأنهم لم يقوموا بإشعار السلطات ولم يلتزموا بضرورة اصطحاب مرشد يلم بتضاريس المنطقة.
يقول رجل ستيني صادفناه بالقرب من محل تجاري وهو مستند على عكاز، إن صعود جبل موسى يمنحك القوة لمجابهة صعاب الحياة، لأن الوصول إلى القمة هو ما يطمح إليه الجميع في هذه الحياة، لكن يجب أن يكون ذلك مع احترام شروط السلامة واختيار الرفيق قبل الطريق كما يقال في المثل العربي. الرفيق هنا يجب أن يكون عارفا بشعاب ووديان المنطقة، حتى يتمكن السائح من ممارسة هوايته المفضلة في صعود وتسلق الجبال، في أمن وأمان.
ونحن نهم بمغادرة البلدة، قال لنا شيخ مسن إن «بليونش أرض الشرفاء، لي جا مرحبا به ها الجبل ها البحر ها الغابة.. لي حبيتي وتشهيتي هنا تلقاه». وهي الكلمة التي كانت آخر ما سمعته آذاننا خلال زيارتنا لهذه الجوهرة السياحية الساحرة التي تغنى بجمالها وروعتها القاضي عياض وأبو العباس الينشتي ولسان الدين بن الخطيب.
مشاريع ضخمة
تشرف عمالة المضيق – الفنيدق، بتنسيق مع مجموعة من المؤسسات المتدخلة، على تنفيذ مشاريع ضخمة بقرية بليونش، لتصنع منها منطقة سياحية بمواصفات حديثة، وتجهيز البنيات التحتية، وتوفير فرص الشغل لمختلف الفئات العمرية، ودعم وهيكلة قطاع الصيد التقليدي، فضلا عن فتح الطرق والسعي للترويج للمنطقة كي تنجح في استقطاب استثمارات في الفنادق والمنتجعات ودخول وكالات أسفار للسياحة وشركات تهتم وتستثمر في المجال.
ضمن هذه المشاريع تجري هيكلة قطاعات متعددة بقرية بليونش، حيث تم تشييد النادي النسوي لتعليم الحرف والتدرب على الإنتاج والتسويق. ويتابع العامل ياسين جاري بإقليم المضيق، بتنسيق مع جميع المعنيين، إجراءات تنفيذ مشروع لتثمين المنتوجات البحرية ببليونش، وتجهيز كورنيش بميزانية مهمة لاستقطاب السياح وتحريك الأنشطة الاقتصادية، فضلا عن المشروع المتعلق بتصفية مياه الصرف الصحي، حيث سيمكن من الحفاظ على البيئة وتنزيل التعليمات الملكية السامية للحفاظ على نظافة الشواطئ وتفادي كافة عوامل التلوث البيئي.
وأكد جاري، خلال العديد من اللقاءات والاجتماعات بالعمالة، على أن السلطات الإقليمية تعمل، بتنسيق مع كافة المؤسسات والفاعلين في المجال، قصد تحويل مناطق سياحية متعددة بالإقليم لعامل جذب للاستثمار السياحي، من خلال تجهيز البنيات التحتية وتجويد الخدمات، وتشجيع المبادرات الشبابية والإبداع في خلق مشاريع قابلة للتطوير الدائم، وتوفير فرص شغل ترتفع بارتفاع الإقبال والاحترافية في بيع المنتوج السياحي والإشهار والتنظيم والهيكلة، لسهولة المراقبة والحفاظ على حقوق المستهلك، واستفادة خزينة الدولة.