بقايا امرأة
جهاد بريكي
منذ اليوم الذي زفت فيه لذاك الزوج الغريب، زوجة جميلة وطباخة ماهرة وأم ولود في مستقبل الأيام، انتهى كل شيء. أغلقت عليها باب بيتها الجديد وتركت وراءها أهلها وأحلامها وآمالها والمرأة التي كانت والمرأة التي كانت تريد أن تكون، وأصبحت مجرد بقايا، حفنة من الشظايا المتناثرة. لم تكتشف هذا الشيء -أو ربما لم ترد اكتشافه- حتى بعد مرور عشرين سنة من الزواج، انتبهت حينها لتجد الخراب يستوطن صدرها ولا شيء دونه.
لم تحبه يوما ولم يتردد هو في مبادلتها الشعور نفسه، كان زواجا عاديا كأي زواج، فلانة تعرف أم فلان وابنة أخت علان فجمعت بينهما في الحلال. تجاوزت الثلاثين حينها ولم يكن أمامها أي منفذ آخر سوى القبول، القبول بهذا الشخص الذي لا تعرف شيئا لا عنه ولا عن ماضيه، ولا عن عقده ولا عن أفكاره ولا عن تكوينه النفسي. لا شيء، كان عريسا فقط. الحقيقة أنه لم يسبق أن عنفها لا جسديا ولا حتى لفظيا، كان يقوم بواجباته البيتية ثم ينصرف، وكذلك الحميمية ثم ينام. لم يسبق له أن حضنها لأجل الحضن فقط لا غير، ولم يسبق له أن غازلها لأجل الغزل لا غير. يقضي وطره وينصرف عنها تاركا إياها تلعنه وتلعن نفسها وتلعن الحياة. لم يسبق لها مرة أن شعرت بأنها أنثى في معية رجل، بل مجرد آلة، ماكينة لا تكل ولا تمل، إذا دعيت أجابت وإذا فرغ منها أطفئ محركها وانصرف. حتى الطلاق كان يستحيل التفكير به، فكيف تخبر أهلها أنها ترغب به لمجرد سبب «تافه» كهذا، وهو الزوج المحترم الذي يصرف ويعيل، والذي لن تجد مثله ولو زحفت على بطنها.
لم ينتبه إلى كل الألوان التي صبغت بها شعرها، ولا الفساتين التي كشفت مفاتنها، ولا الزخرفات التي كانت رسمت على وجهها بعلب المساحيق حتى ملت ويئست منه، فأصبحت تنافسه في الفوضى وعدم الاهتمام.
كانت تنتظر زواجا يعوضها ولو قليلا عن الفقر العاطفي الذي عاشته والنقص الحاد في المشاعر الذي لم تجد كيف تملؤه، كانت لا ترغب سوى بكلمات جميلة ونظرات رقيقة واهتمام قليل يشعرها بالحياة، انتظرت طويلا أن يمسك يدها ويأخذها لمحل ما يشتري لها شيئا ما ويخبرها أنها مهمة، ثمينة، غالية. قضت عشرين سنة تنتظر منه أن يخبرها بحبه ولو كذبا، أن ينادي عليها بحبيبتي بدل «مدام». انتظرت سنوات طويلة جدا أنجبت خلالها بدل الطفل أربعا، كانت تأمل أن يرق قلبه ويتغير بعد كل ولادة. لكنه كان يبتعد أكثر فأكثر، حاولت أن تتقرب أن تبادر هي، أن تتصابى أن تعيش طفولتها وبراءة أنوثتها معه، فكان الجواب دائما «كبرنا حنا على هادشي»
هي لم تكبر، هي مازالت تنتظر، وهو عبر للضفة الأخرى تاركا السراب.
بعد عشرين سنة لم يستطع يوما أن يملأ الفراغ بداخلها ولا أن يلبي النقص الكبير الذي رافقها، لتكتشف أنها الآن مجرد بقايا، مجرد فتات جسم عمه الخراب، مجرد هيئة بشرية لم تستطع يوما، رغم كل المحاولات المستميتة، أن تكون أنثى.