بصمات الروح
«اعلم أن أرفع منازل الصداقة منزلتان: الصبر على الصديق حين يغلبه طبعه فيسيء إليك. ثم صبرك على هذا الصبر حين تغالب طبعك لكي لا تسيء إليه»، عظيمة هذه الجملة للرافعي، رحمه الله، معبرة ولا مقوم للعلاقات غيرها.
ففي حياة كل منا لحظة أحس فيها أنه ليس نفس الشخص الذي كان عليه في اللحظة التي سبقتها، حادثة خرج منها إنسانا آخرا لا يشبه الإنسان الذي قطع معه كل أشواط حياته السابقة، ثانية تغيرت فيها دون أن يشعر بصمة روحه وهو وحده يعلم لم تغيرت تلك البصمة.
وجوه العابرين في الشوارع، وانعكاسات ملامحهم في زجاج السيارات، والخطوات المتثاقلة والمسرعة، الأكتاف المشدودة وتلك التي تبتهل قطرات المطر كي تطبطب تقوسها، الابتسامات الباهتة التي يحييك بها الغرباء، العبوس، الحياد، العيون الحمراء الدامعة، الوجلة، النظرات المتأهبة وتلك التي تسرح في الزحام، وكل الارتسامات التي تكتسيها وجوه من نتقاسم معهم مرة تلو أخرى طرق الحياة، قصص طويلة لن يكفي العمر كي تسمع نصفها، وتستحمل ربعها، وتتعظ من إحداها.
كلنا عبارة عن قصة حزينة تمشي على قدمين، عن مأساة خلق الله لها من لطفه ذراعين تكفف بهما الدمع والدم اللذين يطبعان كل دروب التاريخ الذي قاد إلى حاضرنا. نمضي جميعا حيواتنا بين الهزائم والتعثرات، بين الخسائر، والخسارة المتنكرة في زي الانتصار، ثم نبتسم بطريقة طفولية لنصر هامشي بائد معتبرين أن ما فات من هزائم وما سبق من انكسارات، وما فتك بنا وبغيرنا ومزق دون شفقة راياتنا البيضاء، ما هو إلا درج نحو المجد، ذلك المجد الذي مهما بلغنا منه سنريد حتما المزيد.
الحياة مليئة بالمرارة والحزن والكبد، وبالرأفة والرحمة ولطف الله، وبيدك وحدك أنت أن تختار كيف ستكمل بعد اللحظة التي غيرتك، هل ستصبح بعدها بكاء، متذللا، هيستيريا، وتظل واقفا على أعتاب يأسك مكتفيا بلحظات الألم والوهن والحزن والانكسار، أو ستتعلم أن تمضي وتحترف التعود والتخطي، وتمتن للرحمة واللطف اللذين حباك الله بهما، وبدّل حالك من حال إلى حال، وجعل كل الأيام الثقال تمر خفيفة على ظهرك المقصوم، وتحمده على الطريقة المدهشة التي يصلح بها كل مرة شقوق قلبك.
ومن أولى بوادر هذا الحمد والامتنان أن تلتمس العذر لسواك، وتعلم أن قصته تغير بصمة روحه ربما بطريقة أعنف من تلك التي تغير بها قصتك بصمة روحك، وأن الحياة قاسية بما يكفي على الجميع، فلا داعي أن نساند هذه القسوة بعتاب أقسى، أو جفاء أنكى، وأن دورنا في حياة بعضنا البعض أن نهون ما استطعنا أحدنا على الآخر، وأن القدر إذ يضعنا في حياة بعضنا البعض فإنه يضعنا كيد رحيمة إذا لم تمسح الحزن عن قلب ما على الأقل لا تجعله يتعاظم.