بر الوالدين لا ينقطع ولو بعد موتهما
أحمد الراقي
الحديث الثالث والأربعون بعد المائة الثالثة (343): عن أبي أُسَيْد مالكِ بنِ ربِيعَةَ السَّاعِدِيِّ، رضي اللَّه عنه، قال: بَيْنا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إذ جاءَهُ رجُلٌ مِنْ بني سَلَمة فقالَ: يا رسولَ اللَّه هَلْ بقى مِن بِرِّ أَبويَّ شيء أَبرُّهُمَا بِهِ بَعدَ مَوْتِهِمَا؟ فقال: «نَعَمْ، الصَّلاَة علَيْهِمَا، والاسْتِغْفَارُ لَهُما، وإِنْفاذُ عَهْدِهِما، وصِلةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إِلاَّ بِهِمَا، وإِكرَامُ صَدِيقهما»، رواه أبو داود.
لقد كان الصحابة، رضوان الله عليهم، أحرص ما يكونون على مجالسة النبي صلى الله عليه و سلم، فبه يقتدون ومنه يتعلمون و على سنته يسيرون. لذا أخبر الصحابي على ذلك فقال: بَيْنا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ، وقد ورد كثير في هذا المعنى عن الصحابة، قال عمر بن الخطاب: بينما نحن جلوس عند رسول الله ذا يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، و هذا أنس بن مالك يقول: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد، دخل رجل على جمل فأناخه، وأبو هريرة يقول: كنا قعودا حول رسول الله.
و لا يخفى الأثر المحمود لجلوس الصحابة مع النبي حيث الإفادة من علمه و التأدب بآدابه و معرفة أمور الدين و الاستزادة من الخيرات، و غير ذلك من الرحمة و البركة والفضل العظيم الذي كان يحصل بالجلوس مع النبي صلى الله عليه و سلم، وإن مصاحبة الأخيار وأصحاب الهمم العالية من أعظم ما يبعث الهمة ويربي الأخلاق الرفيعة في النفس، فالإنسان مولع بمحاكاة من حوله، شديد التأثر بمن يصاحبه، بل إن كثيرا من النابغين يعزون نبوغهم إلى أنهم وفقوا لاختيار صاحب أو أصحاب أثروا فيهم أثرا صالحا ونبهوا فيهم قوى كانت خاملة، فإذا ما وفق المرء لصحبة الأجلاء العقلاء من ذوي الدين والمروءة، فإن ذلك من علامات توفيقه ومن مهيئات نبوغه، فإذا كان هذا يحدث بمصاحبة أصحاب الأخلاق الرفيعة، فكيف يكون الأثر بمصاحبة أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وأكملهم خلقا. لذلك فلا عجب أن يكون الصحابة أفضل جيل شهدته البشرية على مر العصور.
الوالدان لهما فضل عظيم على الابن، لذلك كان برهما لا يقتصر على حياتهما فحسب، وإنما يمتد إلى ما بعد موتهما كما بين النبي صلى الله عليه و سلم، فقال: الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما. و المراد بالصلاة عليهما أي الدعاء و الترحم وطلب المغفرة لهما، و إنفاذ عهدهما أي إمضاء وصيتهما، قال خليل خاطر: «إن من واجبات البر بالوالدين ومن حقهما على ولدهما أن يدعو لهما بعد وفاتهما بالرحمة والمغفرة، ورفع الدرجات وتخفيف الحساب والإكرام بالجنان وإحلال رضوان الله تعالى عليهما، وكل ذلك جزاء ما فعلا و إلا فإنهما قد أكثرا من الدعاء له من قبل وجوده وبعد وجوده».
و أما تنفيذ الوصية بعد وفاتهما، فإن الولد-الوارث- مطالب بتنفيذ وصية والده أو والدته إذا كانت في معروف و ليست في معصية، لأن ذلك واجب في حقه سواء كانت الوصية مالية أو غيرها، وكذلك من الواجب على الولد صلة الرحم التي لا توصل إلا بالوالدين (كالجد والجدة، والعم والعمة، والخال والخالة، وأبنائهم حتى لو كانوا من الرضاع، ومن بر الوالدين بعد وفاتهما، أن يكرم الولد أصدقاء والده، والبنت صديقات أمها لأن في ذلك وصلا بالوالدين و احتراما لهما، ولأنهما السبب في هذه الصلة.
و ذكر العلماء جملة أمور إضافية تحقق هذا البر:
الإكثار من التصدّق عنهما، فأجر الصّدقة تصِل إلى الميّت كما ورد عن الصّحابة.
الالتزام بما اتّفقا مع النّاس عليه ولم يستطيعا إكمالَه بسبب الوفاة، وهذا معنى إنفاذ عهدهما المذكور في الحديث الشّريف السّابِق.
قضاءُ ما عليهما من صومٍ، فإذا مات أحدهما وعليه شيءٌ من الصّوم فالأولى بالأبناء تأدية هذا الحقّ، كما يجوز أداءَ فريضةَ الحجّ والعمرة عنهما.
و من فقه الحديث، أن من آداب المدعو احترام و تقدير أهل العلم، فيخاطبه بما يليق به من الاحترام و التقدير كما فعل الرجل هنا فقال: يا رسول الله، وكان معاذ بن جبل يجيب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «لبيك يا رسول الله وسعديك».