برلمان لم يأسف أحد على حله
ذاك الذي أنشد: ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال، غاب عنه أن أحد برلمانات المغرب سيكون عمره أقصر، كي لا يضيع في انعدام الفعالية والنجاعة، وانهيار ديمقراطية الواجهات. فهل فكر رئيسه المستشار عبد الهادي بوطالب، الذي كان غادر وزارة الخارجية ليصبح رئيسا لبرلمان العام 1970، الذي كانت له رجل واحدة يعكز بها، لحظة في أن مساحة التجربة لن تزيد عن عامين وبضعة أشهر، من دون أن يعرف أحد بوجود نقاش ولجان وأشكال رقابية.
فقد رضخ الرجل لتوازنات المرحلة، من غير أن يفارقه إحساس بأن الحرث في الماء ليس مثل التربة. ومن كان بوسعه آنذاك أن يجاهر بتمدد نفوذ وزير الداخلية الجنرال محمد أوفقير، الذي بلغ به الاستخفاف أنه طاف على أقاليم البلاد للدعاية لانتخابات البلديات، قبل أن يضع قوائم المترشحين الذين ضمن لهم الفوز في التشريعيات، من دون القيام بحملات أو منافسات.. فقد كان يعين نواب البرلمان كما يفعل في أي قطاع آخر بفارق ضئيل، يصبح فيه الاقتراع نيابة عن إرادة الناخبين تعيينا ناعما.
بوطالب كان يعارض ضمنيا فرض حالة الاستثناء، لكنه تقبل على مضض أن يكون شاهدا عليها، وزيرا في أكثر من قطاع ومبعوثا في أكثر من قضية. وربما أغرته المحاولة الأولى المحتشمة برسم إلغاء حالة الاستثناء، وهو الذي ينظر إلى الإجراءات من زاوية قانونية تتشابك فيها الحيثيات السياسية. فقد اتسمت مبادرات عدة في هذا النطاق بمعالجات شكلية، لا تختلف عن قاعدة قوامها ترك جحافل أدعياء الموالاة يمرحون في سيرك ديمقراطي لا تحكمه قوانين المنافسات الحقيقية.
كل التجارب التي كان ينوب فيها العمال وموظفو السلطة المركزية الإدارية عن إرادة الناخبين، آلت إلى الفشل. واحتاجت البلاد إلى عقود كي تطرق أبواب التطبيع الاعتيادي بين الأرقام والوقائع على الأرض. وفي الفترة المعنية باستشهادات الانتكاس، غابت أحزاب المعارضة عن المشاركة في اللعبة. كانت تضم حينئذ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاستقلال والمركزيتين النقابيتين الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد العام للشغالين والقوى الطلابية، إضافة إلى حزب التحرر والاشتراكية، قبل أن يغير كلمة التحرر بشعار «التقدم».
كان سلاح المعارضة في مواجهة منطق تدمير البناء الحزبي، هو المقاطعة التي تراوحت بين الدعوة إلى التصويت بلا ضد دستور العام 1970، الذي انبثق منه ذلك البرلمان، ومقاطعة صناديق الاستفتاء والاقتراع الانتخابي. ووجدت السلطة السياسية نفسها أنها تفتتح برلمانا تعارضه القوى الحية في الشارع، وليس من داخل القبة التي زينت لاستقبال الضيوف الجدد. ولم يغن أحد في عرسها اللاديمقراطي الذي جرفته تطورات أحداث متلاحقة.
ولو أن بعض الشكليات الديمقراطية أفضل من عدمها بالمرة، فقد اعتبرت الأعوام ما بين 1965 و1970 الأكثر من نوعها في التعديلات الحكومية التي لم تستثن أي قطاع. حتى أن زعيم الحركة الشعبية المحجوبي أحرضان استقال من وزارة الدفاع، بضعة أسابيع قبل حرب يونيو للعام 1967 التي ألقت بظلال الهزيمة والخيبة على العالم العربي. وضرب المستشار أحمد رضا كديرة رقما قياسيا في التنقل عبر الوزارات لينتهي مستقيلا، يراجع ملفات المرافعة في مكتب المحاماة الكائن بزنقة اليمامة في الرباط.
لم يفقد عبد الهادي بوطالب الأمل في أن الإنسان يتعلم من أخطائه، ولم يفاجئه أن تلميذه الحسن الثاني قال يوما في معرض تقييمه لفترة حكمه، إن الكم الهائل من الأخطاء المرتكبة لا يحجب مثيله في النجاحات أيضا.
فالملك الراحل الذي قال يوما إنه يستطيع أن يعين سائقه في منصب وزير، ردا على انتقادات المعارضة التي كانت تطالب بتشكيل الحكومة المنسجمة والمنبثقة من صناديق الاقتراع، كان يرى أن شروطها لا تنفصل عن استخدام موازين القوى في الصراع. لذلك تعمد في مناسبات عدة القول إنما المعارضة تناهض الحكومات وليس النظام. وهو نفسه الذي سينفتح لاحقا على نخب المعارضة، من منطلق عدم إبعادها عن التمرس على إدارة الشأن العام بعد منازلات استخدمت فيها كل الوسائل بهدف إضفاء الصدقية على التحول التاريخي الذي كان يجري التمهيد له على نار هادئة. استخرج الحسن الثاني تقارير صادمة للبنك العالمي رأت أن المغرب يسير إلى حافة الهاوية. وساعد في تقريب المسافات أن انهيار الحرب الباردة وضع الصراعات الإيديولوجية إلى الخلف، إذ أصبح الصوت الواحد مهيمنا لناحية دعم اقتصاد السوق والمبادرة الحرة والانفتاح واقتباس قيم المنافسات السياسية والاقتصادية في نطاق الهوية.
لم يأسف أحد على حل برلمان العام 1970. فهناك دائما أحداث تأتي على قدر المتوقع وغير المتوقع، المعول عليه وغير المستبعد. لأن الثابت في السياسة هو المصلحة العامة. وبينما خلف تعليق برلمان 1963 ردود أفعال لم تستسغ فرض حالة الاستثناء، إذ تحول مطلب العودة إلى الحياة السياسية العادية إلى قضية محورية، فإن ارتياحا عاما ساد الأجواء في البلاد، وبين الحالتين لن يكمل برلمان العام 1993 ولايته بعد مرور ثلاثة عقود، لأن تعديلا دستوريا جوهريا أدخل على نظام المؤسسة التشريعية التي صارت تتركب من غرفتين. لكن أبعد منها كان الانفتاح على المعارضة الحقيقية التي تنبت على الأرض، لا في الغرف مكيفة الهواء.
من يذكر تجارب الماضي لابد أن تعتريه الدهشة. وكل ما يصدر عنها ومن حولها يبقى مشاعا قابلا للقراءة والتفكير والاستخلاص.