بدايات سوق الإشهار في المغرب
«أول وصلة إشهارية في تاريخ المغاربة كانت عبارة عن تمثيلية طريفة للتحسيس بضرورة الخضوع للتلقيح، مهما كانت الأعمار والفئات الاجتماعية. بعد ذلك جاءت محاولات أخرى لتعزيز وجود الإشهار والإعلانات التجارية، واعتمد أصحابها في البداية على بعض الأصوات الرخيمة القادمة من عالم المسرح، حتى يروجوا بعض المواد الاستهلاكية والمنتوجات، كالساعات والدراجات النارية وحتى الأدوات الفلاحية.. لكن أقدم البدايات لسوق الإشهار في المغرب كانت عبارة عن لوحات خشبية للأفلام السينمائية والفنادق السياحية، وعاش صُناعها كواليس غريبة أسست لسوق الإعلانات التجارية في المغرب»
هكذا تأسس غول الإعلانات التجارية
حتى بعد مرور كل هذه السنوات والعقود، وربما القرن الأول، على بدايات الإشهار في المغرب، يبقى جل المغاربة غير راضين عن الوصلات الإشهارية التي يواجهونها كل يوم، أينما قلّبوا أبصارهم، في الشارع وفي البيت وخلال كل وسائل الاتصال التقنية التي أصبحنا نتوفر عليها اليوم. حتى أن الذين يطالبون اليوم بتفعيل دور جمعيات حماية المستهلك، يتذمرون من رداءة جودة أغلب الوصلات الإشهارية التي يجدونها في كل مكان يصلون إليه حتى لو أغلقوا عليهم بيوتهم. والحال أن الإشهار في المغرب بدأ منذ فترة طويلة تسمح له، تقنيا على الأقل، بأن يطور نفسه إلى مستوى يليق بذوق الملتقي المغربي، ما دام المغاربة انفتحوا على ما وصل إليه العالم.
كيف بدأ الإشهار في المغرب؟ ومن فكر في اللجوء إليه؟ بطبيعة الحال سيكون للفرنسيين يد في انتشار اللوحات الإشهارية في المغرب، بالقدر الذي كانت تسمح به تكنولوجيا ذلك الوقت. ففي بعض الإشارات التاريخية، وجدنا أن واحدة من بين أقدم علامات بداية الوصلات الإشهارية في المغرب، ما أدخلته الصحافة الفرنسية إلينا عبر الجرائد الفرنسية التي كانت توزع في شوارع الرباط والدار البيضاء. فقد كان واضحا وقتها أن الجرائد الفرنسية تصل متأخرة إلى المغرب، لكنها كانت تصل على كل حال، وكان الفرنسيون يفضلون قراءتها قديمة على عدم الاطلاع عليها مطلقا، على الأقل، حتى لا ينقطع اتصالهم بوطنهم الأم، بعد أن اختاروا الإقامة في المغرب والاستفادة من الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية التي قدمتها فرنسا لكل راغب في المساهمة في استعمار المغرب. القائمون على الأمور لم ينسوا استهداف هذه الشريحة «المهاجرة» إلى المغرب، حيث كانت بعض الوصلات الإشهارية الفرنسية، المطبوعة على الورق، موجهة بالأساس إلى الرعايا الفرنسيين خارج فرنسا. كانت هذه الإشهارات تصل إلى المغرب مطبوعة في الجرائد، بينما كانت هناك مطبوعات أخرى، عن المغرب، لكنها لم تصل إليه إلا في وقت متأخر. يتعلق الأمر هنا بالمنشورات المتعلقة بعروض الفنادق التي شيدها المستعمرون في الدار البيضاء، حيث عملوا على استقطاب الزبائن من فرنسا عبر تشجيعهم على المجيء إلى المغرب، لتكون بذلك هذه الإشهارات أولى المواد الإعلانية التي وجهت إلى المغرب. وبعد ذلك، تم استهداف المستهلك المغربي، خصوصا عندما بدأت السينما تجتاح المغرب وتشجع المغاربة على مواجهة الصورة المتحركة والانبهار بها. وقتها كانت شركات الإنتاج العالمية، والمصرية، تستهدف المشاهد المغربي، لتدخل الملصقات الكبيرة إلى الشوارع المغربية لأول مرة كإعلانات عن صور الأفلام السينمائية وأبطالها. وفي الفترة نفسها تقريبا، كانت الفنادق السياحية قد بدأت في رسم لوحات كبيرة استعملت كإعلانات تجارية لتشجيع السياح والزوار على الولوج إليها.
ومن الدار البيضاء انتقلت اللوحات الإشهارية في كل اتجاه. وتقول بعض الروايات التاريخية التي يصعب في الحقيقة التأكد من صحتها، لكنها تبقى واردة، إن الباشا الكلاوي كان وراء دخول أولى اللوحات الإشهارية إلى مراكش، عندما زار الدار البيضاء مرة وشاهد لوحات إشهارية، ولام أصدقاءه الفرنسيين على عدم نشر لوحات مشابهة في مراكش، رغم أنه كان يوجه إليهم دعوات كثيرة لزيارته، ويقيم لهم حفلات شرفية، خصوصا خلال سنوات الأربعينات.
أما في سنوات الستينات، فقد شهد سوق الإعلانات في المغرب تطورا كبيرا، عندما بدأت بعض شركات الموضة والملابس، تتجه نحو المغرب من أجل «جلسات تصوير». وبحسب المواقع المتخصصة في هذا النوع من الصور، فإن «اختيار المغرب كوجهة خلال سنوات الستينات لتصوير صيحات الموضة النسائية، سببه جمالية المعمار المغربي ومؤهلاته الطبيعية التي توفر الخلفيات التي يحتاجها المصورون ورعاة الإعلانات لتسويق تلك الصور»، أي أن السبب كان تجاريا بالأساس.
كيف حاول اليهود الكبار السيطرة على الإشهار منذ 1960
قبل أن يهاجر اليهود من المغرب فرادى وجماعات بشكل مكثف، كانوا يستقرون في مراكز الاقتصاد، خصوصا خلال سنوات الخمسينات والستينات. في هذا الملف، سنأتي على ذكر قصة مفصلة لواحد من أبرز رجال الأعمال في العالم، والذي نعته قبل ثلاث سنوات تقريبا، كبريات المجلات والجرائد الاقتصادية العالمية، وخصصت صفحات للحديث عن مآل ثروته التي كونها في سنوات شبابه، ولم تغفل الإشارة إلى أصوله المغربية. وأعاد بعضها نشر مقاطع من مذكراته التي كانت عبارة عن حوارات مطولة مع بعض الصحافيين الأمريكيين حول مساره الناجح، حيث قال فيها إنه جاء إلى أمريكا من الصويرة نهاية العشرينات، وبدأ حياته كهاو للاستثمار ومؤشرات الاقتصاد، قبل أن يتخلى عن مساره الأكاديمي ويدخل غمار عالم التجارة والمال والأعمال. فيكتور المالح، عاش تجربة مثيرة مع سوق الإشهار المغربي خلال بداية الستينات، وكان وقتها الأمر مقتصرا على إشهارات «خجولة»، ولم يكن القطاع مهيكلا بعد، ولم تفز به الشركات الخاصة. وجد المالح المجال أمامه شاغرا ليحاول اكتساح سوق السيارات عند عودته إلى المغرب، ولأنه كان قد أبرم صفقة مع ماركة ألمانية شهيرة، فإنه وجد منافسة ضارية مع الماركات الفرنسية التي كانت تكتسح السوق بشكل كلي، على اعتبار العلاقات المغربية الفرنسية. هكذا حاول المالح نقل التجربة الأمريكية إلى المغرب، وفكر في اللجوء إلى الإشهار لتعزيز وجوده في السوق المغربي، لكن إكراهات سنأتي على تفاصيلها في هذا الملف، ستجعله يعيد النظر في كل شيء، ويوقف المشروع نهائيا ويغادر المغرب، لتموت واحدة من أولى بوادر اكتساح سوق الإعلانات العالمية للمغرب، قبل أن تولد.
بعد ذلك جاء يهودي مغربي آخر، هو السيد «سيبوت»، الذي كان يقف وراء صناعة أشهر أنواع المربى في المغرب، وكان قد نجح في الترويج له في سوق الإعلانات في المغرب، بالرغم من أنه تأخر كثيرا في هذا الباب. مصادر «الأخبار» تقول إن تطوير السيد «سيبوت» لإنتاجه من المربى المعلب، أخذ منه وقتا طويلا وكان بعض أصدقائه الأجانب قد نصحوه باللجوء إلى سوق الإشهارات والاستفادة من علاقاته بالمسؤولين في الدولة، ليمنحوه حيزا في إشهارات الراديو والملصقات التي بدأت تنتشر في المغرب.. لكنه لم ينجح في اكتساح الإشهار إلا في سنة 1976، بعد أن بدأ مشروعه وأولى محاولاته سنة 1962. الطريقة التي اكتسح بها عالم الإشهار كانت غاية في الذكاء وقتها، إذ اعتمد على أحد أشهر الرسامين الفرنسيين في ذلك الوقت، ويتعلق الأمر بالرسام «كوزيني» الذي كان وراء انتشار سلسلة رسوم متحركة شهيرة في فرنسا وبلجيكا وطلب منه أن يرسم شعارا لشركته، وسرعان ما انتشر الشعار وأصبح علامة تجارية معروفة جدا في المغرب.
جو أوحنا، الذي كان بدوره أول برلماني مغربي من أصول يهودية خلال سنوات الثمانينات، بعد أن دخل غمار السياسة أيام الاتحاد الوطني للقوات الشعبية خلال سنوات الستينات، كان هو الآخر على علاقة بسوق الإشهار في المغرب، خصوصا عندما كان نافذا في سوق الشاي والسكر، عندما كان يسير الأمور هناك بقبضة من حديد. وكان سوق الإشهار المغربي وقتها واعدا، خصوصا خلال سنوات السبعينات، فحتى بعد أن أصبح أوحنا يعيش أغلب أوقاته في فرنسا خلال تلك الفترة، إلا أنه كان واحدا من الأسماء التي سيطرت على سوق الإشهار في المغرب، للترويج للمنتجات الغذائية، خصوصا وأن الشاي والسكر كانا من بين أكثر المنتوجات طلبا في المغرب، ولم تكن هناك صعوبة في ترويجهما في سوق الإعلانات.
التاريخ المنسي لسوق الإشهار في المغرب
لم يكن سهلا أن تتأسس سوق للإشهار في المغرب، لكن الأسهل، بكل تأكيد، أن يتأثر به الناس، وتصبح حياتهم رهينة به. وهذا ما وقع بالضبط في المغرب. فحتى قبل بداية عهد الجرائد والطباعة الورقية، كانت هناك بعض المخططات لجعل المغرب سوقا تابعا للإشهار الفرنسي، لكنها لم تنطلق مبكرا، وكان هذا التأخير مرتبطا بتأخر ترويج المصنوعات الفرنسية في المغرب وتوجيهها نحو الاستهلاك، وهكذا كانت أولى أنواع الإشهارات التي راجت في المغرب، عبارة عن مطبوعات في جرائد فرنسية، كانت موجهة إلى الفرنسيين بالأساس، لكنها استهدفت جزءا من المغاربة أيضا، خصوصا منهم الذين انفتحوا مبكرا على الحياة.
حتى أن أحد القناصلة الفرنسيين السابقين في الدار البيضاء، سنة 1909، كتب رسالة شكر لأحد الصحافيين الفرنسيين وطلب منه أن يرسل إليه ساعة يدوية جديدة، كان قد شاهد إشهارا لها على صفحات الجريدة التي يكتب فيها ذلك الصحافي مقالاته الأسبوعية، وأخبره في الرسالة أنه شاهد الإشهار على صفحات الجريدة.
وبحسب المعطيات المتوفرة، فإن الإشهارات التي كانت رائجة وقتها، كانت عبارة عن إعلانات مكتوبة، وقلما كانت تتوفر على صور لأسباب تقنية، أولها أن الطباعة كانت بدائية، ولم يكن ممكنا إدماج الصور بالسهولة التي تتم بها الأمور اليوم، وهكذا كانت جل الإشهارات التجارية عبارة عن إعلانات تقدم معلومات حول المنتجات وأثمنتها. وتعتبر هذه الإشارة التاريخية واحدة من أقدم البدايات لسوق الإشهار في المغرب، رغم أنه لم يكن موجها للمغاربة بالأساس.
ولو أن المغرب انطلق مبكرا في سوق الطباعة، لكان تاريخ الإشهار في البلاد مختلفا. فبحسب بعض الباحثين المتخصصين في تاريخ العلاقات المغربية البريطانية، فإن اتصالات بين البلدين في أيام الدولة الحفيظية، أواخر سنة 1908، كانت ترمي إلى تمكين المغرب من مطبعة لصناعة أول جريدة مغربية برغبة من المولى عبد الحفيظ نفسه، وكان وقتها قد اطلع على صحف مصرية قُدمت له كهدية من أحد ضيوفه القادمين من الشرق، وتناولت مقالات عن تنصيب مولاي عبد الحفيظ سلطانا على المغرب، فأعجب بها كثيرا، وطلب من ضيوفه البريطانيين الذين لم يكن القصر الملكي في فاس يخلو منهم بشكل يومي، أن يسهلوا له أمر الحصول على طابعة، وكلّف ضيفه المشرقي بالإشراف على إنتاج أول نسخة من الجريدة. لكن هؤلاء البريطانيين لم يشجعوا المولى عبد الحفيظ على هذه المغامرة، وأخبروه أنه ليس من السهل صناعة جريدة في المغرب، خصوصا وأن صعوبة الاتصال بين المدن وانقطاع الطرق الرابطة بينها بسبب «الفيضان» سيجعلان من إنتاج الجريدة بشكل منتظم، أمرا مستحيلا. والحقيقة أن هذه الأعذار أخرت ميلاد هذا المشروع الذي كان من الأكيد أنه سيعرف دخول نوع من أنواع الإشهار إلى المغرب، وفي وقت مبكر أيضا.
بعد ذلك، دخل المغرب مراحل أخرى، خصوصا بعدما انفتح مغاربة المدن على الحياة، وأصبحوا يتوجهون إلى المسارح ودور السينما في فتراتها الذهبية خلال العقود المبكرة من القرن الماضي.. وقتها كان سوق الإشهار المغربي تهيمن عليه ملصقات الأفلام الأجنبية والمصرية على وجه الخصوص، بالإضافة إلى أوراق كانت توزع في الشوارع كنوع من الترويج لبعض السلع الفرنسية، خصوصا الساعات اليدوية وأجهزة الراديو.
أول إشهار في الراديو كان لتشجيع المغاربة على التلقيح
جل الذين انكبوا على التأريخ لانطلاق الإعلام في المغرب، ركزوا على مواكبة الأحداث المهمة التي صنعت صيت الإذاعة الوطنية، وبعدها التلفزيون، لكنهم نسوا وأغفلوا جزءا مهما من تاريخ الإذاعة في المغرب، ويتعلق بالمحاولات الأولى لبث الوصلات الإشهارية.
المثير في الموضوع، أن هذه الوصلات لم تكن لها أبعاد إشهارية أبدا بقدر ما كانت تحسيسية. فأحد أقدم الوصلات الإشهارية التي كانت تبث خلال سنوات الخمسينات، فور استلام المغاربة لمفاتيح تسيير الإذاعة بشكل مستقل عن الرؤية الفرنسية والتقنيين الفرنسيين، كانت مخصصة لتشجيع المغاربة على التلقيح ضد الأمراض المتنقلة والمعدية، مثل السل والأمراض الجلدية، وكانت وزارة الصحة وقتها، والتي بالكاد عين فيها أول وزير للصحة في تاريخ المغرب، ترمي إلى توسيع نطاق المغاربة المستفيدين من التلقيح المجاني في المدارس والمستشفيات، وكان عليها أن تلجأ إلى خدمات المذياع وأمواج الإذاعة حتى تصل إلى كل البيوت المغربية. موضوع الوصلة كان حوارا بالعامية المغربية بين زوج وزوجته ليحثها على الاستفادة من التلقيح معددا مزاياه، وكان على القائمين أن يحرصوا على أن تكون لغة الإشهار مفهومة للعوام ولا تخلو من طرافة حتى تبقى راسخة في الأذهان. الفرنسيون بطبيعة الحال شاركوا في صناعة هذا الإشهار التحسيسي، بحكم أن المغاربة كانوا وقتها حديثي عهد بهذه الأمور، وتم تسجيله بطريقة بدائية ليبث لاحقا على أمواج الإذاعة بالطريقة نفسها التي كانت تسجل بها المسرحيات التي كانت تبث أيضا بالطريقة ذاتها.
في الفترة نفسها تقريبا، بدأت الإشهارات الاستهلاكية في شق طريقها إلى المغاربة عبر الراديو، الذي كان وسيلة تفوقت كثيرا على الأوراق التي لم تكن تجربة المستشهرين المغاربة معها وطيدة، وهكذا كانت ماركة فرنسية للساعات اليدوية سباقة إلى الإعلان عن افتتاح محل لها في شوارع الرباط، وبثت الأمر عبر الإذاعة، باللغة الفرنسية والعربية، تلاها إشهار لماركة فرنسية للدراجات النارية، وكان الإشهار بصوت رجل مغربي يعدد مزايا الدراجة النارية.
بعض المصادر العليمة بدهاليز أرشيف الإذاعة الوطنية، أكدت لـ«الأخبار» أن جزءا مهما من أرشيف المغاربة مع أمواج الراديو، تعرض للتلف، أو لم يتم ترميمه في الوقت المناسب، مرجحين أن يكون أغلب ما نتحدث عنه في هذا الملف من وصلات إشهارية، قد تعرض للتلف بدون شك.
في السياق نفسه، توالت المواد الإشهارية المسموعة في الراديو، ولم تتطور إلا في نهاية الخمسينات، عندما بدأ الجيل الأول من رواد المسرح المغربي في احتراف أداء مقاطع إشهارية لفائدة شركات استهلاكية، خصوصا في مجال مواد التنظيف وبقية المنتجات التي بدأت في دخول البيوت المغربية، في الفترة التي كانت فيها الهجرة القروية نحو المدن تشهد إقبالا كبيرا.
الفلاحة هي الأخرى نالت نصيبها في الراديو المغربي، قبل ظهور التلفاز، وخصصت وصلات إشهارية لتشجيع الفلاحين، سيما الأغنياء منهم، على اقتناء أدوات وآليات فلاحية لتطوير إنتاجهم الفلاحي ومحصولهم السنوي، وكانت هذه الوصلات تبث بشكل دوري، خصوصا عند بداية المواسم الفلاحية في سنوات الخمسينات.
يبقى الراديو، إذن، الوسيلة الأولى التي انتشر بها الإشهار في المغرب. فبحسب ما وقفنا عليه من معطيات تاريخية، فإن الاعتماد على الإشهارات المطبوعة، جعل سوق الإشهار يتأخر في اكتساح السوق الاستهلاكي في المغرب، ولولا الملصقات الأولى التي علقت في الشوارع وقرب بوابات دور السينما في الدار البيضاء خلال البدايات، لتأخر ظهور الإشهار أكثر.
لوحات الفنادق وصور النساء الجميلات.. بدايات الإعلانات
تبقى الفنادق الفرنسية في المغرب أول المنشآت التي لجأت إلى سوق الإشهار لمحاولة المنافسة على استقطاب الزبائن المفترضين، والذين كانوا فرنسيين أيضا. بعض الإشارات التاريخية تفيد بأن البدايات الأولى لهذا النوع من الإشهار لم تكن في المغرب، وإنما في فرنسا، حيث حرصت هذه الفنادق التي كانت موزعة في الدار البيضاء على توزيع منشورات بعروضها السياحية في شوارع فرنسا ومدنها، وبما أن أول الفنادق الأجنبية في المغرب، قد أنشئت سنوات العشرينات وهو ما يعني أن بناء الفندق، وفنادق أخرى بالدار البيضاء، تم في الفترة التي كان فيها المهندس الفرنسي Henri Prost مكلفا بتصميم المدن ما بين سنوات 1914 و1922، فإن مسألة الترويج لها لم يكن أمرا صعبا، في فرنسا بالخصوص، وهكذا طُبعت في باريس أوراق كثيرة لترويج عناوين فنادق الفرنسيين «البيضاوية» على أرصفة الموانئ في فرنسا. وكانت المنافسة وقتها على أشدها وهو ما جعل أرباب هذه الفنادق يحاولون الترويج، على أوسع نطاق، لأسعارهم التفضيلية في المغرب.
هنا بدأ إشهار الفنادق متأخرا، وتشهد بعض المدن المغربية، سيما منها الساحلية، أقدم الإشارات على اكتساح الإشهارات الفرنسية للمغرب، في مجال الفنادق، إذ عمد بعض المستثمرين الفرنسيين في المجال إلى صناعة لوحات إشهارية ضخمة، كانت الأولى من نوعها في المغرب، لترويج اسم الفندق، والإعلان عن خدماته وما يقدمه من امتيازات للزبائن. كان هذا خلال ثلاثينات القرن الماضي، في بدايتها بالضبط، وهو ما جعل فنادق أخرى تنهج السياسة نفسها لتشهد الشوارع المغربية أولى اللوحات من هذا النوع، وبطبيعة الحال فإنها كانت تعتمد على الرسومات فقط، للشمس والشواطئ والخدمات المقدّمة. وكانت هذه اللوحات الإشهارية، التي كان أغلبها يقام في أسطح الفنادق، بأحجام ضخمة، تحاكي اللوحات الإشهارية التي بدأت دور السينما في الدار البيضاء، خلال الفترة ذاتها أيضا، في استعمالها للترويج للأفلام التي تقترحها على مرتاديها.
كانت هذه الصور هي البداية الأولى لسوق الإشهار في المغرب، ولم تكن وقتها متوفرة في مجالات أخرى استهلاكية، والسبب راجع بالأساس إلى الصعوبات التقنية، وهو أمر أشار إليه الكثيرون، وبدا منطقيا أن تحول التقنية وترويج إشهارات تشجيعية لمنتجات بدأ ترويجها في المغرب، سواء أثناء فترة الاستعمار الفرنسي، أو بعده.
يهوى بعض جامعي التحف الاحتفاظ بكل الأشياء القديمة، ومن بينها اللوحات الإشهارية الأولى، ووجدوا صعوبات في جمع بقايا أولى اللوحات الإشهارية التي أتلف جُلها بسبب الإهمال، أو طول مدة الاستعمال، خصوصا أنها كانت مصنوعة من الخشب، وكانت مرسومة بالصباغة العادية، وهو ما كان يعني سرعة تلفها، خصوصا وأنها كانت توضع في أماكن بارزة تجعلها عرضة لمختلف العوامل الطبيعية التي تسرع بتقليص عمرها الافتراضي. هذا ما أسر به لنا بعض جامعي التحف الذين سألناهم عن إمكانية توفرهم على اللوحات الإشهارية القديمة، ومدى نجاحهم في التنقيب عن أقدمها على الإطلاق بالمغرب، خصوصا وأن أغلبهم يكونون مستعدين لدفع مبالغ طائلة مقابل حيازة ملكية القطع النادرة التي تؤسس لتاريخ المراحل التي مر منها المجتمع المغربي في انفتاحه على الحياة العصرية. بالمقابل، هناك جامعو تحف يتوفرون اليوم على مطبوعات إشهارية قديمة قبل أن تهتدي الشركات إلى إمكانية طباعة إشهاراتها في الجرائد بدل طباعتها والإشراف على توزيعها حتى تصل إلى الفئات المستهدفة. بالإضافة إلى أن هناك جامعي تحف يتوفرون على اللوحات الأصلية لملصقات الأفلام الشهيرة خلال فترات الثلاثينات والأربعينات، والتي عرضت في الدار البيضاء وقتها، وخصصت لها لوحات إشهارية من الحجم المتوسط، استطاع بعض الملاك القدامى لدور السينما الاحتفاظ بها لما يزيد على سبعين سنة، لتباع في الأخير إلى هواة جمع التحف، لتصبح بين أيديهم واحدة من أقدم الإشارات إلى بدايات سوق الإشهار في المغرب.
قصة مستورد سيارات فشل في ترويج إشهاره الأول وغادر المغرب
لم يكن الملياردير العالمي الذي كان خلال بداية الستينات مجرد شاب طموح من أصول مغربية، قادما إلى المغرب من أمريكا للاستثمار في بيع السيارات.. (لم يكن) يتوقع أن يعيش تجربة مثيرة مع شركة ألمانية شهيرة، نجح في الفوز بصفقة إدخال ماركتها التجارية إلى المغرب. يتعلق الأمر هنا بفيكتور المالح، الذي ودعه العالم بكثير من الاهتمام قبل حوالي ثلاث سنوات، نظرا لثقل رقم معاملاته في الاقتصاد الأمريكي وعلاقاته المتشعبة مع صناع القرار وبارونات الاقتصاد.
قصة فيكتور المالح مع سوق الإشهار بدأت عندما استقر في أمريكا التي جاء إليها طفلا صغيرا من مدينة الصويرة، وهكذا تشبع بمظاهر الحياة في نيويورك التي كانت تضج بالحياة، وبملصقات الإشهار أيضا، وعندما فكر في بدء مشروعه الخاص، لم يتوقع أن يكون المغرب وجهته الأولى، خصوصا وأنه لم يزر المغرب نهائيا منذ أن غادره طفلا خلال سنوات العشرينات رفقة أسرته الصغيرة وجده الذي سبقهم إلى الاستقرار في أمريكا.
عندما عاد فيكتور المالح إلى المغرب، فلأنه درس جيدا إمكانية مضاعفة ثروته مرات كثيرة، نظرا للفراغ الكبير بحكم أن المغرب كان يعيش بدايات تأسيس الاقتصاد الوطني، أربع سنوات بالضبط بعد الحصول على الاستقلال. لكن ما لم يتوقعه المالح، هو أن يخضع رغما عنه، للوبي مغربي قوي، لا يخلو من سياسة، وسيكون عليه أن يحاول إرضاء بعض النافذين الذين كانوا يستقوون بعلاقاتهم، سواء ببعض الأسماء الأمنية أو العسكرية البارزة وقتها، بالإضافة إلى رجال أعمال كانوا يمولون حزب الاستقلال.
ما وقع أن المالح وجد نفسه أكثر من مرة، كما كتب في مذكراته الشخصية، مطالبا بمنح سيارات من الماركة الألمانية الشهيرة، لبعض زوار المحل، فقط لأنهم كانوا يحملون بطاقات وتوصيات من شخصيات نافذة، وكان على فيكتور المالح أن يستجيب لها على الفور، لأنه كان يفهم أن الامتناع يعني أن يُسحب منه الترخيص بالاستيراد الحصري للسيارة الألمانية إلى المغرب.
المثير أيضا أنه كان يفكر في بدء حملة إشهارية كبيرة لحث المغاربة القادرين على اقتناء سيارات، بالتوجه إلى الماركة الألمانية، عوض الماركة الفرنسية التي كان يختارها المغاربة بحكم تجربتهم مع الفرنسيين، وبحكم انتشار السيارات الفرنسية في المغرب، لكن الصعوبات التي صادفته أثناء البيع في الرباط وحدها والدار البيضاء، جعلته يؤجل إطلاق مشروعه الإشهاري الذي كان يخطط لكي يجتاح به أغلب المدن المغربية، خصوصا وأنه كان ينوي استنساخ النموذج الأمريكي في الاقتصاد، ففي الفترة التي اتجه فيها هو نحو المغرب، كان الاستهلاك الأمريكي وقتها قائما بالأساس على القروض، وهو ربما ما كان فيكتور المالح ينوي التأسيس له في المغرب، رغم أنه لم يوضح هذه التفاصيل جيدا في مذكراته.
في الأخير، كان على المالح أن يواجه الأمر الواقع، وأن يكتفي باللوحات الإشهارية العادية التي كانت ترسلها الماركة الألمانية مع كل عملية شحن، والتي كانت بالكاد تكفي لتوزيعها في الشوارع الرئيسية أو في نطاق وجود المقر الذي اتخذه فيكتور المالح نقطة بيع للماركة الألمانية، والذي كان عبارة عن مخزن كبير، تعرض فيه السيارات المتوفرة.
حزم فيكتور المالح أمتعته ورحل عن المغرب، بعد أن أحس بأن مشروعه في طريقه نحو الفشل، ما دامت الضغوطات المفروضة عليه من النافذين المغاربة أقوى بكثير من أن تتحملها أرباحه التي توقع أن تكون أكبر بكثير من رقم المعاملات الذي حققه خلال الأشهر التي قضاها في المغرب، ولو أن سوق الإشهار كان أكثر مرونة وقتها، لربما استطاع المنافسة بقوة مع الفرنسيين، لكن التجربة التي مر بها جعلته يطوي كل شيء، ويضع نهاية للمشروع.
بعد سنوات طويلة على رحيل صاحب السيارات الألمانية، جاء مستثمرون آخرون، مغاربة أيضا، واستطاعوا رفع أرباحهم واستقطاب المستهلك المغربي، بفضل بداية انتعاش سوق الإشهار في المغرب، خصوصا خلال سنوات السبعينات.