انهيار مؤتمر موسكو حول ليبيا
عبد الباري عطوان
انهارت آمال «الشريكين الخصمين» الرئيسيين على الأرض الليبية، روسيا وتركيا، في التوصل إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار بعد رفض الجنرال خليفة حفتر التوقيع وخروجه «هاربا» من موسكو، بينما غادر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غاضبا، ومُتوَعِّدًا هذا الجِنرال «الانقلابي» حسب وصفه بـ«الدرس الذي يستحقه إذا واصل هجماته ضِد حكومة السراج المشروعة وضد الأشقاء في ليبيا..». هذا الانهيار يعني فشل محاولات الرئيس أردوغان في تجنب المواجهة العسكرية، والوصول إلى مخرج سلمي يحفظ الكرامة من هذه الأزمة اعتمادا على الروس الذين يدعمون حفتر في السر بالسلاح والقوات، والدبلوماسية، ويدعون الحياد في العلن، ويراهنون على عنصر الوقت تماما مثلما فعلوا ويفعلون في سوريا، ومخططاتهم الفائزة في نهاية المطاف. أسباب الفشل يمكن تلخيصها في أن الجنرال حفتر المدعوم من مصر والإمارات وروسيا وأمريكا وفرنسا يسيطر على معظم شرق وجنوب ليبيا بِما في ذلك الهلال النفطي، ولم تبق إلا بعض أجزاء من طرابلس العاصمة خارج سلطته، إلى جانب مصراته، ولن يقبل بأي اتفاق يؤدي إلى خسارته أي من هذه المكتسبات.
المؤكد أن الرئيس أردوغان هو المخدوع الأكبر حتى هذه اللحظة، ولا نستغرب أنه كان ضحية «مصيدة» روسية حفترية مصرية إماراتية فرنسية جرى إعدادها بشكل محكم وسقط فيها وهو «مُحمَر» العينين وليس مفتوحهما فقط، ومرد ذلك استماعه لمن يقول له ما يريد أن يسمعه، وهذا ليس خطرا على تركيا وحدها، وإنما المنطقة بأسرها. مشكلة أردوغان الكبرى أنه بات يملك القليل من الأصدقاء في حوض المتوسط، وباستثناء علاقاته القوية مع «الإخوان المسلمين»، ودولة قطر، وحكومة السراج في ليبيا التي هرعت لطلب نجدته، يواجه الرئيس التركي محيطا من الأعداء بعضهم يمكن تصنيفه في خانة الدول العظمى أو المتوسطة إقليميا ودوليا. ثلاثة مؤشرات مهمة تعكس في رأينا ملامح المأزق التركي الحالي:
الأول: دعوة ياسين أقطاي، مستشار الرئيس أردوغان إلى ضرورة الجلوس مع مصر والتعاون معها، مشيرا في مقال نشره في صحيفة «يني شفق» المقربة من الحزب الحاكم، إلى أن أسباب التعاون أكثر من أسباب الحرب والعداء.
هذا المقال الموحى به، وربما من أردوغان شخصيا، هو كسر لكل الخطوط الحمر التركية، وعلامة على اعتراف بالمأزق والرغبة بحدوث مراجعة شاملة. الثاني: اللقاء الذي تم في موسكو بين ثاني أقوى رجلين في كل من سوريا وتركيا قبل أيام، الأول بين اللواء علي المملوك، رئيس مكتب الأمن القومي السوري، ونظيره التركي حقان فيدان، لبحث ملف إدلب وشمال سوريا برعاية من بوتين، وإعلان هذا اللقاء هو كَسرٌ ليس للخُطوط الحُمر من الجانبين، وإنما للكبرياء التركي تحديدا. الثّالث: انهيار مؤتمر موسكو، وبعده مؤتمر برلين الذي سيعقد الأحد المقبل حول ليبيا، اللذين يراهن عليهما أردوغان لتجنب الحرب، وأي تنفيذ لوعوده بتلقين الجنرال «الانقلابي» حفتر درسا يستحقه تعني الغرق في مستنقع أكثر دموية.
الرئيس أردوغان يستطيع دخول الحرب في ليبيا، بالطريقة نفسها التي دخلها في سوريا، مع فارق أساسي وهو أنه عندما دخل الأُولى، كان مدعوما من تحالف يضم 65 دولة على رأسه الولايات المتحدة، وجناحاه بريطانيا وفرنسا، وبغطاء من الجامعة العربية، وسوريا دولة جوار، أما الحال في ليبيا فهو مختلف تماما، فهي تبعد 2000 كلم، ويخوض حربها بدون أصدقاء، وفي مُواجهة التحالف نفسه الذي دعمه في الحرب الأولى، وهذا التحالف لن يقف مكتوف الأيدي وهو يشاهد حليفه، أو «عميله» حفتر يتعرض للتصفية. النقطة الأخرى التي لا بد من التوقف عندها، أن أصدقاء تركيا ضعاف يشكلون عبئا على كاهلها، عسكريا على الأقل، في وقت يتناسخ ويتناسل فيه أعداء أردوغان في الداخل التركي أيضا، فها هو الدكتور أحمد داوود أوغلو، مُنظر سياسة «صفر مشاكل» ينشق ويؤسس حزبا سياسيا منافسا لمعلمه. أردوغان، وها هو علي باباجان، أحد أبرز صانعي النهضة الاقتصادية العظمى لتركيا يستعد لإطلاق حزب آخَر بالشراكة مع عبد الله غل، أحد أبرز شيوخ حزب العدالة والتنمية، والرئيس الأول لحكمه.
نصيحتنا للرئيس أردوغان أن يقرأ مقالة مستشاره ياسين أقطاي، إن لم يكن هو كاتبها، وأن يعمل بما ورد فيها فورا، والبدء في الاستماع إلى أصوات أخرى غير المحيطين به الذين يدفعونه إلى هاوية الجحيم، والانفتاح شرقا على جيرانه السوريين والعراقيين والإيرانيين، ويقود تحالقا، ضد أمريكا وإسرائيل مصدر كل الأزمات والمتاعب للمنطقة.