انهيار الحضارات
بقلم: خالص جلبي
دعا الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانت) إلى إلغاء الجيوش، وهو الشيء الذي تفكر به حاليا سويسرا «يجب أن تزول الجيوش النظامية كليا مع الوقت … لأن ظهور هذه الجيوش الدائم على أهبة للاستعداد للقتال يجعلها تهدد الدول الأخرى بالحرب تهديدا مستمرا؛ ومن شأن هذا الواقع أن يدفع بكل دولة من الدول إلى محاولة بز الأخرى من حيث حشد الأعداد غير المحدودة من الفرق العسكرية، فتترتب عن هذه المنافسة نفقات مالية تجعل السلام أبهظ تكلفة من القيام بحرب قصيرة، وتسبب أعمالا عدائية تعتمد للتخلص من العبء المالي المعني. أضف إلى ما تقدم أن إكراه الناس ليقتلوا أو يُقتلوا إنما هو على ما يبدو معاملة البشر كما لو كانوا مجرد آلات بأيدي الآخرين (الدولة)، الأمر الذي قلما يتوافق مع حق الإنسانية المتممثلة في شخص كل منا».
ويعقب الفيلسوف على ما مر بهذه القصة: أجاب أحد الأمراء البلغاريين إمبراطورا يونانيا كان قد اقترح عليه الاقتراح الشهم بالمنازلة، لإنهاء الخلاف بينهما من دون سفك دماء رعاياهما، فقال: «الحداد الذي لديه ملقط لا يستخرج من كوزه قطعة الحديد المحماة بيده!».
قام المؤرخ البريطاني (جون أرنولد توينبي) بدراسة للتاريخ والحضارات، في مدى نصف قرن من الزمان، درس فيها بزوغ 28 حضارة من أصل 600 مجتمع بدائي، وكان السؤال الذي يقلقه دوما كيف تنهار الحضارات بعد أن تستوي على سوقها؟ وما هي الأمراض التي تعصف بها فتقوضها، في الوقت الذي يظن أصحابها أنهم قد تمكنوا من كل شيء؟
يقول توينبي في كتابه «مختصر دراسة التاريخ»: «قادنا بحثنا عن علة انهيار الحضارات إلى رتل من الاستنتاجات السلبية:
الأول: ليس الانهيار الحضاري من فعل القضاء والقدر، بالمعنى الذي يعنيه رجال القانون.
الثاني: لا يعتبر الانهيار إعادات عابثة لقوانين الطبيعة الجامدة.
الثالث: لن يتيسر رد انهيار الحضارات إلى فقدان السيطرة على البيئة، طبيعية كانت أم بشرية.
الرابع: لا يرجع الانهيار إلى انحطاط في الأساليب الصناعية أو التكنولوجية.
الخامس: لا يرد الانهيار إلى عدوان مهلك يشنه خصوم دخلاء».
وإذا كانت كل هذه العناصر حسب ـ توينبي ـ ليست سببا لسقوط الحضارة، فما هو السبب الجوهري إذا؟
يرى توينبي أن علة سقوط الحضارات هي داخلية بالدرجة الأولى «وقادتنا عملية الاستنفاد المنطقية في كل حالة تقريبا إلى العودة إلى الفكرة القائلة، بأن (الانتحار) هو علة (الانهيار)».
وإذا كان مصير الحضارة داخلي بالدرجة الأولى، فأين مكان العنف في صورة السقوط والانهيار؟ يسوق إلينا توينبي مثلا مروعا من التاريخ لإمبراطورية وحضارة أرعبت لمئات السنوات منطقة غرب آسيا بأكملها، وحملت شعوبا بأكملها إلى معسكرات الاعتقال، وسوت مدن الشرق الأوسط بالتراب، وكانت تمتلك عدة حربية رائعة تشرف على تطويرها بانتظام، بل لقد سقطت (إمبراطورية آشور) وهي في أوج امتلاكها للآلة العسكرية الرهيبة البطاشة!
«كانت الكارثة التي أودت بالقوة الحربية الآشورية عام 610 – 614 قبل الميلاد إحدى الكوارث العارمة المعروفة في التاريخ، فإنها لم تتضمن دمار أداة الحرب الآشورية فحسب، ولكنها تضمنت محو الدولة الآشورية من الوجود، واستئصال الشعب الآشوري، والشعب الآشوري جماعة لبثت قائمة أكثر من ألفي سنة، وقامت بدور رئيسي في جنوب غرب آسيا طوال فترة تقرب من القرنين والنصف قرن، ثم محيت محوا يكاد يكون تاما، ومصداقا لذلك فإنه بعد انقضاء مائتين وعشر سنوات، تعاقب عشرة آلاف جندي يوناني من جنود قورش الصغير المرتزقة على موضع (كالاه) ونينوى، أثناء اتجاههم عبر وادي دجلة من ميدان معركة كوناكسا إلى ساحل البحر الأسود، فأصابهم ذهول بسبب عدم عثورهم على شيء يعتد به مقارنة بفخامة التحصينات، وبمدى المنطقة التي كانت تضمها بين ظهرانيها، إذ يخلو مشهد تلك الأعمال البشرية الشاسعة من السكان. ويشير التراث الأدبي الذي خلفه أحد أعضاء التجريدة العسكرية اليونانية، إشارة ضمنية واضحة إلى سحر هذه الهياكل الخاوية، التي تشهد طاقتها الجامدة على حيوية زالت».
لم يدرك العالم عبثية الحرب إلا متأخرا، وبعد معاناة رهيبة، وبثمن أكثر من باهظ، والذي قاده إلى هذه العتبة هو (العلم)، ورأس العالم المتقدم يطير الآن إلى المستقبل بجناحي (العلم والسلم)، ويبقى الذي لم يشترك في (صناعة العالم المعاصر) يجتر أحلام بطولات عنتر والمتنبي ويكرر:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب.
ولكن كما يقول المثل الحكيم: «والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي بنفسه».