انفراد.. بوتفليقة مغربي وهذا أصل العداوة مع المغرب (وثيقة سرية)
الأنظار هذه الأيام مصوبة في اتجاه الجزائر، رغم أن أغلب متابعي القمة العربية في نسختها الأخيرة يعرفون ألا طائل من توصيات قمة عربية انطلقت بممارسات تضرب في العمق شعار القمة. والذين ضربوا في شعار القمة، قبل انعقادها، هم أنفسهم الجهة المُضيفة.
أقدم الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على تغييب الدور التاريخي الذي لعبه المغرب في انطلاق شرارة الثورة الجزائرية، وتمويلها وإيواء أعضائها. حتى أن قيادة جيش التحرير المغربي كانت تعتبر استقلال الجزائر بعد استقلال المغرب، الهدف الأسمى من تأسيس الخلايا المسلحة وفروع جيش التحرير الوطني، ولم تكن تفرق بين البلدين، إلا بعد أن اختار «هواري بومدين» أن يصبح رئيس دولة معادية رسميا للمغرب.
ننشر في هذا الملف وثيقة، يسلط عليها الضوء لأول مرة، تكشف حقيقة سوف تكون مزعجة بالتأكيد لكل الذين يحاولون طمس الدور المغربي في إنجاح الثورة الجزائرية وتمويلها أيضا، وتتعلق بتتبع أنشطة بوتفليقة عندما كان وزيرا لخارجية الجزائر سنة 1967، وهو المنصب الذي شغله منذ 1965 وغادره بعد وفاة بومدين سنة 1978، قبل أن يعود بعد سنوات من الغياب والمنفى مباشرة إلى منصب رئيس الجمهورية، وتصفه -الوثيقة- بالمغربي!
وثيقة سرية من سفارة بلجيكا سنة 1967: بوتفليقة معاد للمغرب لأنه رُفض في مباراة الأمن
مضامين هذه الوثيقة السرية تُنشر لأول مرة. هي مراسلة خاصة حُررت في سفارة بلجيكا بالرباط، وقعها السفير «جان دو باسومبيير» ووُجهت إلى وزير الخارجية البلجيكي السيد «بيير هارميل»، وحررت في الثامن من مارس سنة 1967.
وقتها كان عبد العزيز بوتفليقة وزيرا للخارجية الجزائرية، وانتاب المخابرات الأجنبية، خصوصا الأوروبية منها، فضول كبير بشأنه، سيما عندما رصدت فرنسا اتصالات بينه وبين جماعات مسلحة في أوروبا، لديها اتصال بالاتحاد السوفياتي، وبعضها نفذت عمليات فوق التراب الأوروبي، خصوصا في فرنسا التي كانت جماعة «لو شاكال» تنشط فوق ترابها.
بالعودة إلى الوثيقة، فقد تحدث فيها السفير البلجيكي في الرباط قائلا: «إشارة إلى الاتصالات المختلفة التي أجريناها، يشرفني مراسلتكم بخصوص النزاع الحدودي المغربي الجزائري، فإني أرى أنه من المفيد تحديد السيد عبد العزيز بوتفليقة، الذي يلعب دورا مهما في هذه القضية.
عبد العزيز بوتفليقة مغربي، وُلد وترعرع في وجدة. وفي شبابه اشتغل حمالا للسلع في بقالة بوجدة، تعود إلى والد بن بلة الذي كان جزائريا.
لاحقا، عادت أسرة بن بلة إلى الجزائر، حيث لعب الابن دورا كبيرا تعرفونه جيدا، بينما بقيت المسيرة المهنية لبوتفليقة غامضة في وجدة.
في سنة 1962 رفضت الحكومة المغربية توظيفه في منصب ضابط أمن بمدينة وجدة، حيث تقدم بطلب لاجتياز المباراة، لكن لم تكن لديه أي كفاءة لشغله.
خاب أمله لهذا السبب، ذهب إلى الجزائر، حيث ترقى سريعا وتجاوز كل العقبات والمراحل، ليصبح وزيرا للخارجية..
إن مخبرا مغربيا هو الذي زودني بهذه المعلومات، التي تسلط الضوء على شخصية بوتفليقة، وتفسر رد فعله أمام المغرب».
انتهى مضمون هذه الوثيقة التي وصف فيها سفير بلجيكا في المغرب، عبد العزيز بوتفليقة بأنه مغربي.
هذه الوثيقة التي تقبع اليوم في أرشيف مراسلات سفارة المملكة البلجيكية في الرباط، تكشف إلى أي حد كان سهلا تتبع أثر عبد العزيز بوتفليقة سنة 1967، وهو لا يزال وقتها وزير خارجية بلاده. قبل أن تجري وقائع كثيرة عملت من خلالها الجزائر على محو تاريخه المغربي، حتى لا تُحرج كلما قامت دولة أجنبية بالسؤال عنه.
إذ إن ولادة بوتفليقة في المغرب، ودراسته به وحصوله على شهاداته التعليمية كلها من المغرب، كان موضوعا محرجا للجزائر، خصوصا بعد حرب الرمال وأزمة الصحراء المغربية.
إذ إن بوتفليقة الذي دبر إعلاميا ودوليا هجومات الجزائر على المغرب، وصار ناطقا باسم رئاسة الجمهورية، وهي المهمة التي جمعها مع منصبه وزيرا للخارجية، أصبح موضوع إحراج لبومدين، عندما يثار موضوع علاقته الحقيقية بالمغرب.
الوثيقة التي وقعها سفير بلجيكا في المغرب، تؤكد أنه حصل على المعلومات التي تضمنتها من مصدر أمني مغربي.
سكان وجدة كانوا يعرفون تلك المعطيات جيدا، لكن أن تصف دولة بقيمة بلجيكا، وزير خارجية الجزائر، ورئيسها المستقبلي، بأنه مغربي، يحقد على المغرب فقط لأنه فشل في اجتياز مباراة الإدارة العامة للأمن الوطني في ستينيات القرن الماضي، فالأمر يستحق فعلا أن نتوقف عنده.
إذ إن تداعيات الأزمة بين المغرب والجزائر تعود في أصلها إلى عوائق وضعها بوتفليقة بنفسه، ومعه «والده الروحي» هواري بومدين.
منازل وجدة وأحياؤها الشعبية التي احتضنت أسرار أعضاء الثورة الجزائرية
في صيف سنة 1958 سُجلت في وجدة حالات اختفاء لمواطنين جزائريين، قدرت الشرطة الفرنسية وقتها عددهم بين 10 و15 شخصا. ورغم التحريات والاتصالات، إلا أنها لم ترصد اعتقال أي منهم في الجزائر، بينما السجلات وتقارير المخبرين تسجل أنهم كانوا يعيشون في وجدة منذ سنة 1956.
يتعلق الأمر بخلية من الثوار الجزائريين، أقاموا في مدينة وجدة هربا من منشورات تبحث عنهم تصفهم بالعناصر الخطيرة. وهؤلاء كانوا على خلاف مع تيار هواري بومدين، في الجزائر العاصمة وتلمسان.
عند وصول خبر اختفاء هؤلاء الشبان إلى أحمد بن بلة، وجه أصابع الاتهام إلى قادة الجناح السري للثورة الجزائرية على الميدان، والذين كان يحركهم هواري بومدين، لذلك كانت وزارة الدفاع بعد استقلال الجزائر خاضعة له تماما، لأنه كان يملك ولاء كل المسلحين الجزائريين على الأرض. وهؤلاء نفذوا عمليات اغتيال لصالحه، دون علم أحمد بن بلة، الذي لن تكن تفصله عن منصب الرئاسة إلا سنوات قليلة فقط.
حددت هوية بعض الأشخاص المبحوث عنهم، وتركت اللائحة مفتوحة، لأن تقارير الثوار لم تكن حاسمة فيما إن كان المفقودون مُختبئين مع بعضهم، أم أنهم أقاموا في مدينة وجدة بشكل منفصل. أي أن أمل ظهور أحدهم كان واردا.
كان عبد العزيز بوتفليقة، وهو دون العشرين، يوزع المنشورات السرية في مدينة وجدة بحثا عن هؤلاء الثوار المفقودين، رغم أنه كان يعرف معلومات مهمة عن مصيرهم، وهو ما عرفه الرئيس أحمد بن بلة، بعد استقلال الجزائر، وجعله يكره بوتفليقة، لكنه اضطر إلى منحه منصبا وزاريا، لأن هواري بومدين يدعمه، بل ويدفع به نحو القمة.
كان الرهان أن يتوهم الفرنسيون أن قادة الثورة الجزائرية لا يعرفون مصير الأعضاء المفقودين، وفعلا بلع البوليس الفرنسي الطعم، واتضح لاحقا أن تيار هواري بومدين هو الذي سهر على عملية تصفية هؤلاء الثوار الجزائريين، لأنهم رفضوا الامتثال لتعليمات أحد المحسوبين عليه، وكان يُكنى بـ«التلمساني»، وعمل معه بوتفليقة ونفذ تعليماته في كثير من المناسبات.
كان عبد العزيز بوتفليقة إذن يوزع منشورات تبحث عن هؤلاء الثوار وتحثهم على الصبر وتعدهم بالمجد والخلود، وتدعو المواطنين إلى حمايتهم في حال ما إن لجؤوا إليهم. وبطبيعة الحال فإن هذه المنشورات لم تكن تضع صورهم ولا أسماءهم، وإنما وصفتهم بـ«الأبطال الأشاوس».
فرع البوليس الفرنسي في وجدة، كان يرفع تقارير يومية عن حالات الانفلات الأمني في المدينة. وكان الجزائريون قد عمدوا إلى تزوير جزء من تاريخ المغرب. كيف ذلك؟ كانت هناك عمليات نفذها قدماء جيش التحرير المغربي في فرع مدينة وجدة، أو أعضاء الخلايا السرية الذين يتحركون بين الجزائر والمغرب واستقروا سرا في مدينة وجدة لأشهر، ونفذوا بعض العمليات ضد ضباط شرطة ورجال أعمال فرنسيين يقيمون في وجدة.
بعد نصف قرن، وفي إطار الشهادات والمنشورات التي تقدمها مؤسسة قدماء المقاومة المغاربة وأعضاء جيش التحرير المغربي، اتضح أن العملية نفذها مواطن مغربي من قدماء جيش التحرير الذين التحقوا بالجيش الملكي بعد استقلال المغرب سنة 1956، وأن الجزائريين كانوا يريدون تبرير التمويل الكبير الذي كانوا يتلقونه من الجزائر في وجدة، فنسبوا العملية إلى أنفسهم لتغطية مصاريف تنفيذ اغتيالات في صفوف ثوار جزائريين ومغاربة كانوا قادمين من الجزائر. وهذا يجعلنا نفتح ملفا شائكا جدا يتعلق بالشهداء المغاربة في الجزائر الذين شاركوا الثوار الجزائريين في الثورة ودفنوا في الجزائر، وأحصيت أسماؤهم بالآلاف، في قوائم المليون شهيد. عبد العزيز بوتفليقة يعلم تفاصيل كثيرة في الموضوع، بل وكان في قلب العاصفة. لكنه عندما تسلم وزارة الخارجية الجزائرية سنة 1963، ثم عندما أصبح رئيسا للجزائر في نهاية التسعينيات، لم يقم بأي خطوة لتصحيح التاريخ وأخطاء الماضي التي كان طرفا في صناعتها.
لماذا اغتالت الجزائر رموز ثورتها بعد الاستقلال؟
«حتى الذين بقوا منهم على قيد الحياة فقد جرى اغتيالهم رمزيا، إما بنفيهم إلى الخارج، أو تهميشهم والتضييق عليهم»،
هذا التعليق تكرر كثيرا على لسان قدماء الثورة الجزائرية، الذين اكتووا بنار هواري بومدين منذ سنة 1963. فقدوا زملاء ورفاقا لهم، ماتوا أو اختفوا نهائيا في ظروف غامضة لم يرفع عنها اللبس إلى اليوم، ومنهم من تم نفيهم إلى الخارج، لكنهم لم يوصلوا أصواتهم إلى الصحافة الدولية، للفت انتباه العالم إلى ما يقع في الجزائر من اغتيال لرموز الثورة الجزائرية، التي كانت وراء استقلال الجزائر.
هناك بعض النقاط الخفية في موضوع قدماء الثورة الجزائرية. بعض المعلومات التي تناولها قدماء الثورة، خصوصا الموالين لبومدين، مفادها أن بعض أعضاء الثورة تورطوا في علاقات مشبوهة مع قيادات من جيش التحرير في المغرب، وسقطوا في شبهة الاتجار في السلاح، فكان لزاما على رفاقهم إزالتهم من الصورة، حتى لا يتسببوا في مشاكل للثوار الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي.
لكن لم يتم تقديم أي معلومات وافية بهذا الخصوص. وهو ما يجعل هذا التفسير غير منطقي، سيما وأن الأمر يتعلق بآلاف المختفين ومجهولي المصير الذين تحتفظ عائلاتهم بصور لهم وهم يشاركون في عمليات قيادة الثورة الجزائرية، واختفوا بعد أن حصلت البلاد على الاستقلال في يوليوز 1962. بينما وقعت أغلب حالات الاختطاف والاختفاء، بالضبط بعد تعيين هواري بومدين في منصب وزير الدفاع، في أول حكومة جزائرية.
اشتغل صحافيون جزائريون كثر على موضوع قدماء الثورة الجزائرية، وتساءلوا عن السر وراء تغييبهم، إلى درجة أن الثورة الجزائرية استحقت فعلا لقب «الثورة التي تأكل أبناءها».
أحد هؤلاء الصحافيين، هشام عبود، الذي قضى سنوات طويلة في منفاه الاختياري بباريس، بسبب التضييق على كتاباته داخل الجزائر. ورغم أنه لم يكن من الجيل الذي اشتغل في ظل وجود هواري بومدين في السلطة، إلا أنه عانى كثيرا مع أتباعه الذين سحبوا البساط من تحت أقدام تيار أحمد بن بلة أو المتعاطفين معه منذ سنة 1979، أثناء محاولاتهم تقسيم البلاد بينهم.
يقول هذا الصحافي في مذكراته، وهو يتناول قضية سيطرة الذين اغتالوا قيادات الثورة الجزائرية على السلطة، وحقيقة علاقتهم بالاستعمار قبل استقلال الجزائر، إن الجيش لم يكن يتحكم في حكومة الجزائر، بعد سنة 1962 وحسب، بل يصنعها ويضع رجالها بنفسه. وأصّل هذا الصحافي للعقل المدبر للجيش، حيث عيّن اسمين فقط هما الجنرال توفيق والجنرال إسماعيل العماري. وقال إنهما انشقا أساسا من الجيش الفرنسي، وانضما إلى الجيش الجزائري خلال حرب التحرير الجزائرية ما بين سنتي 1958 و1962.
وكان بعض المنضمين إلى تلك الحركة يعرفون بعضهم البعض جيدا، بحكم أنهم انضموا إلى قوات اليافعين الذين استعملهم الجيش الفرنسي في الحرب، ولم يكن عمرهم وقتها يتعدى 12 ربيعا فقط:
«إنهم أبناء المتقاعدين من الجيش الفرنسي أو أبناء القادة. هذا الماضي المشترك نسج بينهم علاقات متقاطعة ومتشابكة وتضامنا غير محدود. الجنرالات خالد نزار وعبد المالك كنيزية والعربي بلخير، على سبيل المثال فقط لا الحصر، لم يكونوا خارج هذا الإطار.
لقد انضموا جميعا إلى صفوف جيش التحرير الوطني، حيث كانوا يحومون في الفلك نفسه».
الرسالة واضحة إذن، فالذين اغتالوا رموز الثورة الجزائرية التي يصفها الجزائريون بالمقدسة، ليسوا إلا جزائريين من قدماء الجيش الفرنسي، أي أنهم كانوا عين فرنسا على الجزائر قبل الاستقلال، وأصبحوا قتلة مأجورين لديها بعد استقلال بلادهم، لتصبح مهمتهم الأولى العمل على إتلاف كل ذكريات ومعالم الثورة الجزائرية.
الثورة الجزائرية مغربية!
لا يتعلق الأمر باستعارة أو سرقة فكرية. لكن الثورة الجزائرية كانت فعلا مغربية، باعتراف أكبر قادة الثورية الجزائرية أنفسهم، وعلى رأسهم أحمد بن بلة ومحمد بوضياف، بل وحتى هواري بومدين، الذي ناصب المغرب العداء عند وصوله إلى منصب رئيس الجمهورية سنة 1965، وقبله عندما كان وزيرا للدفاع بعد استقلال البلاد في يوليوز 1962.
ومما يؤكد أن الثورة الجزائرية انطلقت من المغرب، أن قيادة العمليات كانت كلها في وجدة، بل إن القادة أنفسهم كانوا يدخلون وجدة لإجراء الاجتماعات قبل سنة 1956، تاريخ استقلال المغرب، وبعدها أيضا.
هناك أرشيف كامل من الصور الفوتوغرافية، يؤكد بما لا يدع أي مجال للشك أن الثورة الجزائرية كانت تعقد أهم اجتماعاتها في المغرب، حيث كان قادة الثورة الجزائرية يأتون إلى وجدة، للبت في القرارات الواجب اتخاذها، ويعولون كثيرا على أعضاء جيش التحرير المغربي وقدماء المقاومة، لكي يوفروا لهم الإعانات المالية.
من بين المناطق المغربية التي احتضنت أنشطة الثورة الجزائرية، بالإضافة إلى وجدة، منطقة أكنول التي كانت معقلا لجيش التحرير المغربي، في شخص أحد قادته الكبار وهو عباس المساعدي.
إذ إن منطقة أكنول بحكم موقعها في شمال المغرب، بين خطي تازة والناظور، كانت معقلا لتركز المساعدات المغربية للثورة الجزائرية. مساعدات مالية ومساعدات أخرى بالسلاح، كلها كانت تُجمع في أكنول، ويتم تهريبها برا على ظهور البغال، أو في حمولات تُخبأ فيها البنادق والقنابل والرصاص وتعبر في اتجاه الجزائر، حيث يسهر تجار مغاربة على إيصالها إلى الثوار.
وهو ما يعني أن حرفيين وتجار مغاربة كانوا يتنقلون باستمرار بين المغرب والجزائر، كانوا أيضا أعضاء في الثورة الجزائرية.
وهناك حقيقة محرجة أخرى، يعترف بها قادة الثورة الجزائرية، خصوصا في مرحلة ما قبل وصول بومدين إلى السلطة، تتعلق بوجود شهداء مغاربة في الجزائر. استشهدوا أثناء دفاعهم عن الجزائريين، أو شاركوا معهم في عمليات المقاومة التي نفذت ضد الجيش الفرنسي في مدن الجزائر وواحاتها في الصحراء، وهو ما يعني أن بلد «المليون شهيد» التي تشتهر بها الجزائر، للمغرب أفضال كثيرة وراءها.
وتحفل مقابر الجزائر العاصمة بآلاف الشهداء المغاربة، الذين يعترف لهم قدماء الثورة الجزائرية بأنهم كانوا «إخوانا في السلاح»، شاركوا كغيرهم من الجزائريين في استقلال الجزائر.
ومن بين الحقائق التاريخية المُغيبة أيضا بخصوص الثورة الجزائرية، أن أعضاء جيش التحرير المغربي في منطقة أكنول، معقل جمع السلاح والمساعدات للجزائريين، كانوا موضوع نقاش كبير بين المغرب وفرنسا، بعد استقلال المغرب. إذ إن وزارة الخارجية الفرنسية راسلت الرباط لتعبر عن قلقها الشديد من الأنشطة التي يمارسها قادة جيش التحرير في الشمال، سيما في منطقة أكنول، حيث بقوا يواصلون ما أسماها جيش التحرير المغربي وقتها «معركة تحرير بلاد المغرب الكبير». وأرشيف الخارجية الفرنسية لا يزال يحتفظ بتقارير كثيرة، تكشف إلى أي حد كان جيش التحرير منخرطا وملتزما مع الثورة الجزائرية، حتى بعد استقلال المغرب.
قصة إذاعة الثورة الجزائرية التي بثت برامجها من المغرب
سبق أن تداولت الصحافة قصة هذه الإذاعة الثورية، التي لعبت دورا كبيرا في إيقاظ الوعي الوطني في الجزائر، خلال الثورة. لكن مغالطات كثيرة انتشرت بشأنها، كان الهدف منها تبخيس حضور المغرب وفضل جيش التحرير المغربي، خصوصا بمنطقة وجدة، في جعل تلك الإذاعة ممكنة.
كما سبق أيضا أن تناولنا موضوع هذه الإذاعة من خلال حلقات عن قصة صعود عبد العزيز بوتفليقة، والتي نُشرت في «الأخبار»، قبل وفاته بفترة. ووقتها، بمجرد نشر تلك الحلقات التي تناولنا فيها موضوع الإذاعة الجزائرية، صار الأمر أشبه بإلقاء حجرة في بِركة راكدة. إذ أيقظت بعض النقاط الخلافية بخصوص تاريخ هذه الإذاعة، ذكريات كثيرة في صدور وعقول قدماء جيش التحرير المغاربة الذين كانوا في قلب تلك الأحداث.
كان توقيت بث الإذاعة السرية الجزائرية المناوئة لفرنسا لا يتجاوز الساعتين يوميا سنة 1956. وهي السنة نفسها التي تأسست فيها هذه الإذاعة، بعد أن كانت فكرة تراود قيادات الثورة التي كانت في حاجة إلى ذراع إعلامي لمخاطبة الجزائريين وتجييشهم ضد الاستعمار.
كان استقلال المغرب عن فرنسا، هو الورقة التي ولدت بها إذاعة الجزائر السرية، التي سميت أيضا إذاعة الثورة. لكن بدايتها كانت في شاحنة تحمل معدات البث، وهي نفسها الشاحنة التي أدخلت بها تلك المعدات من إسبانيا إلى المغرب.
بعض المصادر تقول إن المعدات تم إدخالها من فرنسا بطريقة ملتوية، ثم قاموا بتجميعها على الحدود وإدخالها إلى المغرب، لكن الأمر تزوير كبير للتاريخ.
الحقيقة أن شاحنة البث تم اقتناؤها في إسبانيا، بمساعدة مغاربة من قدماء جيش التحرير والحركة الوطنية، بحيث كانوا يتوفرون على خبرة في الموضوع. إذ إن عبد الكبير الفاسي، أحد كبار رموز حزب الاستقلال، كان مستقرا في إسبانيا ويستقبل في مدريد قيادات مغربية وجزائرية، أثناء عمليات التخطيط لإدخال السلاح إلى البلدين لمقاومة الاستعمار الفرنسي. وهو سلاح وضعه جمال عبد الناصر رهن إشارتهم في مناسبتين، وليس مناسبة واحدة كما تداولت ذلك بعض الأطراف المتصارعة سياسيا.
هذه المعدات المتطورة للبث، تم اقتناؤها خصيصا حتى لا يهتدي الفرنسيون إلى تحديد موقعها، وبالتالي قصفها. ولذلك لم يتم تحديد مقر معين للإذاعة، رغم أنها كانت في الأشهر الأولى لبثها تبث من منزل عادي في مدينة الناظور، وضعه مالكه رهن إشارة الثوار، بينما بقيت الشاحنة التي نقلت المعدات من إسبانيا مركونة في مكان مخفي. قبل أن يتم اقتراح تحويل الشاحنة إلى وحدة بث على طريقة الجيش، حتى يستحيل تعقبها على المخابرات الفرنسية، التي تحركت بقوة لتحديد موقع الإذاعة، وإنهاء وصلات البث المعادية لها التي كانت تحظى بشعبية كبيرة في أوساط الجزائريين. وبعد ذلك تغير موقع الإذاعة واقتربت من الحدود الجزائرية، حيث أصبحت قبيل استقلال الجزائر تبث من الحدود نواحي مدينة وجدة، دائما في تلك الشاحنة المخصصة لنقل معدات البث، حتى يستحيل تحديد موقعها وبالتالي قصفها أو اعتقال مذيعها عيسى مسعودي.
الإعلامي الجزائري عيسى مسعودي كان هو المذيع الأبرز للإذاعة السرية الجزائرية، التي كانت تبث من المغرب. كان قد حباه الله بصوت حماسي استثنائي، حتى أن الجزائريين كانوا يقلدونه بحماس، مرددين شعارات الثورة التي كان يكتبها له أعضاء الثورة، عندما كان عبد العزيز بوتفليقة يحلم بالانضمام إليهم، وهو لا يزال تلميذا في مرحلة البكالوريا.
يُنسب إلى هواري بومدين اعتراف بأفضال المذيع عيسى مسعودي على الثورة، وهو قوله إن نصف فضل تحرير الجزائر يتقاسمه الثوار، بينما النصف الثاني من الفضل يعود إلى عيسى مسعودي وحده.
لكن الحقيقة أن مدينتي وجدة والناظور كانتا وراء وصول صوت مسعودي إلى الجزائريين. ولو أن إذاعة الجزائر تأسست في التراب الجزائري، لتم قصفها وحتى اعتقال من كانوا وراءها بسهولة شديدة على يد الفرنسيين. لكن البث من المغرب، خصوصا من منطقة الشمال التي كانت غير تابعة للنفوذ الفرنسي، وتراقبها إسبانيا، «أطال» عمر الإذاعة الثورية.
العلاقة بين بومدين وبوتفليقة والأسرار التي دفناها معا في وجدة
سنورد هنا شهادة مهمة لأحد أوائل الموثقين للثورة الجزائرية وعملياتها التي انطلقت من المغرب، والتي تناولت موضوع السلاح والاجتماعات السرية في وجدة. لكن ما يُعاب على صاحبها أنه اشتغل عليها في فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة، فكان مُجبرا من الناحية البحثية على إبراز الدور الذي لعبه الرئيس السابق للجزائر، خصوصا وأنه وُلد وعاش في وجدة وقضى فيها أغلب سنوات شبابه.
يقول هذا الباحث، واسمه عمراني بن الحسين، وهو من مواليد نواحي تلمسان لأم مغربية وأب جزائري، توفي سنة 2011، في شهادته على المقاومة التي جمعها الأكاديمي الدكتور عمر الخبالي: «عبد العزيز بوتفليقة لولا وفاة والده سنة 1958، لما حظي بثقة أعضاء الثورة الجزائرية في وجدة. لم يُقنعهم على مستوى تنفيذ العمليات، لأن بنيته الجسمانية لم تكن في مستوى خطورة العمليات. كما أنه لم تكن لديه أية دراية نهائيا بالتضاريس والطرقات السرية بين المدن في الجزائر، بحكم أنه ترعرع في المغرب، وما يعرفه عن الجزائر لم يكن سوى حكايات اللاجئين في وجدة،
لكنه عوض ذلك كله ببصيرة منفتحة. هذه هي الحقيقة، لقد كان أعضاء الثورة في الجزائر يحتاجون إلى من يوثق، لأن حملة السلاح كان عددهم كبيرا، لكن الذين يتقنون صياغة التقارير وتلخيص مضامين الاجتماعات وكتابة الرسائل، لجمع التبرعات وصياغة جداول للميزانية… إلخ، لم يكونوا موجودين في صفوف الثوار، لذلك تعزز وجود بوتفليقة بسرعة في الجزائر. وقد لعب دورا كبيرا سنة 1958، عندما ناب عن عدد من القيادات في الثورة، لكي يكتب لجمال عبد الناصر والملك الأردني أيضا رسائل شكر على مساعدات للثورة الجزائرية. وأتذكر أن بن بلة مباشرة بعد استقلال الجزائر، دعاه إلى تعلم اللغة الإنجليزية لكي يرسله إلى الأمم المتحدة وبعض الدول الأجنبية الصديقة للجزائريين، وهنا برز دوره السياسي».
هذا الكلام قيل قبل تنحية بوتفليقة عن السلطة. وربما لو أخذت هذه الشهادة بعد سنة 2017 من صاحبها، لربما كان مضمونها سيشهد بعض التغيرات. فالصحافي الجزائري فريد عليلات الذي تناول قصة حياة بوتفليقة، كان لديه رأي آخر. وذهب حد اتهام بوتفليقة بالوقوف وراء اغتيالات أشرف عليها هواري بومدين، الأب الروحي لعبد العزيز. بل ذهب هذا الصحافي إلى القول إن بوتفليقة عُين وزيرا للخارجية وهو لا يزال شابا، مكافأة له على «المهام السوداء» التي كلفه بها بومدين في مدينة وجدة، قبل استقلال الجزائر.
يونس جنوحي