انتهت اللعبة
سقوط المنتسب إلى عالم الصحافة والكتابة إريك لوران ومساعدته في شرك الابتزاز، يتجاوز حالة التبلس والإصرار المسبق على الإساءة إلى رموز المغرب، نحو فضح أساليب بعض صحافة التحقيقات الملتسبة التي تتدثر وراء نبل المهمة الإعلامية، بهدف تحقيق مكاسب شخصية.
إذا كان الشرك الذي نصبه القضاء الفرنسي في مواجهة ابتزاز دنيء، أضفى على العملية بعدا قانونيا صرفا، منذ بداية أطوار مسلسل الابتزاز والتهديد إلى الإمساك بحالة التلبس ذات القوة القانونية التي تعزز الاتهام، فإن الواقعة في حد ذاتها تكشف أن سلطة القانون تسمو على باقي الاعتبارات، كونها تشمل الجميع، ولا تستثني من يمارس مهنة الصحافة، حين يزيغ عن مواثيقها وأخلاقياتها وأهدافها التي تتعارض مع التهديد والابتزاز وتشويه الحقائق. والأهم أنها رسخت سلوكا حضاريا في التعاطي ومظاهر الانحراف الإعلامي، عبر اللجوء إلى القضاء.
في سجل التعاطي رسميا من طرف المغرب مع بعض التجاوزات التي تستخدم الواجهة الإعلامية، ما يفيد بأن إنصاف الحقيقة يعد اعتبارا معنويا ذا دلالات كبيرة للمتضررين من سوء استعمال السلطة الرابعة. غير أن كسب منازلة قضائية في ملفات القذف والتشهير، لم يشكل رادعا أمام استمرار أسلوب المغالاة وتقديم حقائق مشوهة، فيما أن سقوط إريك لوران ومساعدته، يرسخ الاعتقاد في أن بعض المعطيات التي يجرى تداولها، لا تكون دائما بدافع عدم الانضباط إلى مقتضيات الالتزام الإعلامي الذي يبسط الآراء والمواقف والمعلومات من مختلف مصادرها، وإنما تكون أحيانا بدافع الإمعان في الإساءة والابتزاز، ما يعتبر خطرا داهما على الممارسات المهنية النظيفة.
في خلاصات الحادث الذي يترفع عنه حملة الأقلام الباحثون بصدق ومصداقية عن المعلومات والحقائق، من دون أي خلفيات أو تصفية حسابات، أن كل ما صدر عن أريك لوران في سعيه لتشويش حقائق مغربية، إنما كان يدور في فلك الضغوط وأساليب التحريف لبلوغ أهداف تمثلت في الحصول على منافع مالية. بصيغة أخرى فإن كتاباته لم تفتقد الموضوعية ورجاحة الموضوع والتحليل العقلاني فحسب، بل اندرجت في نطاق استخدام نبل الكلمة وقداسة الحرية والتعبير عن الرأي وجدل الأفكار، لأهداف خسيسة، مثل تلك التي يعبر عنها المطالبون بالفدية لدى اختطاف واحتجاز رهائن أبرياء.
ولئن كان العقل الإنساني المتحضر اهتدى إلى رفض مساومة الإرهاب، فإنه أخطر أن ينسحب على إرهاب الفكر والسياسة والابتذال، وإنه لأمر مثير للاشمئزاز أن يتحول بعض المنتسبين إلى قطاع صناعة الرأي العام، عبر الروافد الإعلامية المكتوبة والمسموعة والمنظورة، وتلك التي تتلقفها وسائط الاتصال الاجتماعي، إلى تجار حروب في بث المعلومات المحشوة بالأضاليل، من أجل ممارسة الضغط والتهديد.
إنهم بذلك يسيئون إلى روافد صناعة الرأي العام، إذ يغيب الوازع الأخلاقي وتحكيم الضمير. ولئن كان الدفاع عن شرف مهنة الإعلام مسؤولية مشتركة ومتعاظمة، تتوازى واحترام إرادة المتلقي، من دون استعداء أو استعلاء أو تزوير، فإن من أبرز واجباته التصدي لهذه الظاهرة التي لا تكاد تسلم منها ممارسات مهنية في قطاعات أخرى، والأمر يهم بالدرجة الأولى الساحة الفرنسية التي تفخر بالدفاع عن المبادئ وقيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام الآخر وتوخي نصرة الحقائق، وإن جاءت عن طريق خصوم محتملين، في حال لم تجانب مقومات الصدق والنزاهة وسلامة المسعى.
إن نشر ثقافة الابتزاز وطلب الفدية أكثر خطورة من ثقافة الخنوع والتدجين، لأن ضحاياها قد يقعون تحت تأثير معلومات خاطئة ومضللة، وبالتالي قد تتعرض العلاقات بين الدول، جراء الاستسلام لهذا النوع من الترويج الدعائي إلى هزات، خصوصا حين ندرك أن الكثير من الأزمات التي عرضت علاقات المغرب وصداقاته، نشأت بسبب مغالطات إعلامية. ما يفيد بأن القضاء الفرنسي في هذه المسألة تحديدا أنقذ العلاقات المغربية ـ الفرنسية من مآزق لا يريدها أي طرف، وقد تبين الآن بكل وضوح أن هناك لوبيات لجأت إلى سلاح الإعلام «المفترس» للإساءة إلى أسس هذه العلاقات.
واضح إذن أن المجاهرة بما يوصف بـ «ضعف مساحات الحرية» التي يتم استغلالها بطريقة مشوهة وممنهجة للإساءة إلى المغرب ورموزه، إنما يخفي رغبة الاستعلاء والتحكم وإملاء الشروط. والأدهى أن ذلك يصدر عن منتمين إلى عالم الصحافة والكتابة خرقوا كل المواثيق والأعراف بهدف تحقيق مكاسب نفعية وشخصية. ذلك أن تسويق هذا المفهوم لم يكن دافعه مبدئيا ونبيلا، وإنما لشد الانتباه إلى ما يصدر خارج البلاد، إلى أن تبين أن خلفيات هذا السلوك ترادف أحط أساليب الابتزاز التي يلجأ إليه عديمو الضمائر.
درس بليغ لقنه المغرب للمتاجرين بمهنة الصحافة ومبادئ الحرية وقيم الحضارة، وهو إن كان فضح خلفيات الاتجار في أعراض الدول، فإنه يدق أجراس الإنذار إزاء ضرورات تطهير الجسم الإعلامي مما يعلق به من شوائب. ولئن كانت حرية الصحافة والفكر تقدم خدمات جليلة لتحصين الخيار الديمقراطي، فإن سوء استغلال مناخها ينتصب حاجزا حقيقيا أمام ترسيخ تقاليد التعايش الديمقراطي، وسيكون على الرأي العام الفرنسي بالذات أن ينتبه إلى هكذا مزالق.
لا تزدهر الديمقراطية غربية كانت أم وطنية في أجواء التشكيك الذي ينفث السموم، بل إنها تظل رهن التقدير والإلمام الموضوعي بالحقائق، وهنا تكمن مسؤولية الإعلام النزيهة. وما سقوط دعاة التشكيك والابتزاز إلا أفضل دليل على أن الحقيقة في إمكانها أن تنتصر دائما. ومن الآن يمكن القول إن صفحة جديدة فتحت على طريق استشعار مخاطر التهديدات التي كانت تتدثر تحت عباءة حرية الرأي والفكر والصحافة. وليس أخطر على الحقائق من «مفترسيها الحقيقين» أكانوا ذئابا منعزلة أو منفردة أو جماعية، وكل ما فعله المغرب أنه تصدى لهذه الظاهرة بشجاعة وجرأة.
انتهت اللعبة إذن!