انتصارات المخابرات المغربية على الجزائر حسب وثائق KGB
يونس جنوحي
«في علاقته بموسكو، فقد كان الملك الحسن الثاني عند آخر زيارة له إلى الاتحاد السوفياتي أواسط الستينيات من القرن الماضي، قد أظهر للسوفيات أنه لن يكون صديقا حميما لموسكو ما دام حكامها يدعمون علنا أنظمة تعادي المغرب بل وتخطط لاغتيال الملك».
أما أسباب الجفاء بين الملك الحسن الثاني وقصر «الكرملين»، فتعود إلى سنة 1965 عندما قرر الملك الحسن الثاني إيقاف اتفاق تعاون عسكري بين الرباط وموسكو، وتعويضه ببرنامج عسكري أمريكي قدم عرضا مغريا للمغرب، حيث اضطر مدربون طيارون سوفيات كانوا يقيمون في القاعدة الجوية بالقنيطرة إلى مغادرة المغرب على الفور تاركين وراءهم طائرات روسية كانت هدية إلى المغرب سنة 1960، حصل عليها الملك الراحل محمد الخامس سنة فقط قبل وفاته.
وثائق الـKGB الروسية تحدثت أيضا عن رصد تحركات للأمن الرئاسي للعقيد معمر القذافي، الذين كانوا أيضا في موسكو تزامنا مع علاج الهواري بومدين الذي حاول تجنب التقاط الصور قدر الإمكان حتى لا تبدو عليه علامات الإجهاد في الصور. ورصدت نفس الوثائق قيام المكلفين بالتغطية الإعلامية، بإملاء تعليمات على صحافيين جزائريين لكي يعتمدوا صورا قديمة نسبيا للهواري بومدين، ونشرها مع خبر عودته إلى الجزائر، في المرة الأخيرة، بعد انتهاء آخر حصص العلاج، لأن صور الظهور الأخير من شأنها أن تذكي الإشاعات حول تدهور الوضع الصحي لرئيس البلاد.
أطرفها التجسس على الفرق الرياضية المغربية.. مغامرات رجال بومدين
في الوقت الذي ربطت العاصمة الجزائر مستقبلها الأمني باتفاقيات سرية مع جهاز الـKGB الروسي رغم الانتقادات التي طالت الاتحاد السوفياتي وحربه الضروس ضد الولايات المتحدة الأمريكية، كان عملاؤها في المخابرات يركزون كل تحركاتهم ضد المغرب إما في عمليات التجسس، والتي كان أبرزها محاولة تنظيم انقلاب مسلح ضد الملك الحسن الثاني بقيادة ضباط جزائريين تسللوا عبر الحدود، وآخرها محاولة تفجير فندق أسني بمراكش منتصف التسعينيات، فإن بين المحطتين توجد مغامرات كثيرة أضفت نوعا من «السخرية السوداء» ضد المخابرات الجزائرية بين الأجهزة السرية الدولية.
ففي منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، شهدت الجزائر دورة لألعاب القوى حضرتها منتخبات عربية في عدد من الرياضات. وتركت الأجهزة السرية الجزائرية كل القضايا لتتفرغ تماما للفريق المغربي الذي حل بالعاصمة الجزائر للمشاركة في صفوف المنتخبات العربية.
إذ أن ضباط المخابرات الجزائرية حشروا أدوات تنصت في غرف الرياضيين المغاربة بل وجندوا حتى عاملات التنظيف في الفنادق للتجسس على مضامين جلسات الرياضيين المغاربة حتى لو تعلق الأمر بسهرة عادية أو جلسة على هامش التداريب. وبلغ الأمر أعلى درجات السخافة عندما وجد المتدربون المغاربة آثار تفتيش دقيق لحاويات النفايات الخاصة بهم.
أرشيف المخابرات السوفياتية رصد هذا الأمر، إذ أن وثائق المخابرات الروسية عند سقوط الاتحاد السوفياتي، لم تتعرض للتلف، إذ أن الروس استفادوا من أخطاء الحرب العالمية الثانية، واحتفظوا بأرشيف مهم لوثائق المخابرات الروسية ومنها وثائق تطرقت للصراع بين المغرب والجزائر، حيث كان عملاء الاتحاد السوفياتي في العاصمة الجزائر يعدون تقارير شبه يومية عن تطورات الصراع بين البلدين منذ حرب الرمال إلى سقوط الاتحاد السوفياتي بداية التسعينيات من القرن الماضي.
بالعودة إلى هذه التظاهرة الرياضية منتصف الثمانينيات، فقد كان وزير الداخلية المغربي إدريس البصري يتابعها عن كثب، حيث عقد لقاء مع مسؤولين جزائريين طلب منهم بالحرف وضع الخلافات بين البلدين جانبا.
لكن المخابرات المغربية في عهده رصدت مراقبة لصيقة للرياضيين المغاربة حيث لم يكونوا يحظون بأي خصوصية تقريبا، وكل تحركاتهم كانت مراقبة.
كما أن المخابرات الجزائرية لم ترد أن يقع أي تعاطف شعبي مع الرياضيين المغاربة في حالة وصولهم إلى النهائيات أو حصدهم للميداليات الذهبية. ووقع فعلا ما كانت تتخوف منه الأجهزة السرية في الجزائر، إذ أن عدائين وملاكمين مغاربة حصدوا ميداليات ذهبية وتفقوا على المنتخبات العربية، وهو ما جعل الجمهور الجزائري يتعاطف معهم وينخرط في تشجيعهم وهو ما خلق حالة استنفار في صفوف المخابرات الجزائرية التي بحثت عن «مُندسين» مغاربة.
وثيقة من أرشيف الـKGB الروسية تعود إلى يونيو 1987، تكشف أن وزارة الإعلام الجزائرية عممت قصاصة على الصحافة الجزائرية توجههم فيها إلى نسب أعمال شغب على خلفية مباريات في كرة القدم، إلى أنصار الفريق المغربي، واضطرت الصحف إلى الكذب على الرأي العام الجزائري وعزت انفلاتا للجمهور نتج عنه تخريب بعض السيارات وواجهات المحلات في العاصمة الجزائر، إلى ممارسات لا أخلاقية للجمهور المغربي، رغم أن الأمر كان يتعلق بعراك بين أنصار فريقين جزائريين مشاركين في البطولة.
مواجهات الصحراء.. عندما زور ضباط لم يخوضوا الحرب يوما حصيلة المعارك
يوم معركة «أمغالا» التي دارت رحاها في الصحراء في يناير 1976، كانت الجزائر تتحسر على أسرى البوليساريو الذين حملوا السلاح في الصحراء ضد القوات المسلحة الملكية وحاولوا تحويل المنطقة إلى خط نزاع.
نقل التلفزيون الرسمي، والوكالات الدولية صور أسرى البوليساريو، وكان واضحا أن قيادات الجبهة، اعترفت بأن مصدر تمويلها الأول هو الجزائر وليبيا، إذ أن المخابرات رصدت اتصالا بين الهواري بومدين والعقيد القذافي، تعهد فيه الأخير أن يمنح الجزائر طائرات مقاتلات، سوفياتية الطراز، بالذخيرة للمشاركة في الاعتداءات على الحدود البرية المغربية في الصحراء، وتمويل البوليساريو أيضا.
المخابرات السوفياتية رصدت هذا الأمر، وفي إطار تعاون مخابراتي بينها وبين الأمريكيين خلال مرحلة الهدنة التي عرفتها السبعينيات بين المعسكرين، حذرتها واشنطن من تداعيات استمرار صفقات السلاح بين الاتحاد السوفياتي وبين القذافي، الذي أبان عن نية استعمال الأسلحة التي اقتناها من موسكو في إذكاء الصراع في الحدود المغربية الجزائرية.
وأمام هذا الوضع، لم تجد موسكو، في 13 فبراير 1976 بدا من تحذير القذافي، وفق ما أشارت إليه وثائق الـKGB، من عاقبة وضع سلاحه رهن إشارة البوليساريو. وهو ما جعل القذافي فور توصله بالتحذير، يتصل بالهواري بومدين وطلب منه عقد اجتماع عاجل للبت في تطورات الحرب في الصحراء المغربية، وبحث موضوع الأسرى من البوليساريو.
واضطر الجزائريون إلى ابتلاع الهزيمة وهم يرون المعدات التي تم التبرع بها للبوليساريو مدمرة عن آخرها وسط مساحات الرمال الشاسعة. وحسب الصور التي تناقلتها الوكالات الدولية وقتها، وبينها وكالة فرانس بريس، فإن الجيش المغربي سحق تماما مقاتلي البوليساريو وأجبرهم على التراجع إلى ما وراء منطقة العزل التي عرفت بدورها في الثمانينيات أحداث ساخنة قبل عقد اتفاق وقف إطلاق النار.
في خضم كل هذه التطورات، كان الإعلام الجزائري بأمر من قصر الرئاسة يوجه التعليمات بنشر أخبار كاذبة مناقضة تماما لما تنشره وكالة «فرانس بريس»، وهو ما رصدته تقارير المخابرات السوفياتية. إذ أن وثيقة في هذا التاريخ تناولت التناقض بين ما تنشره الصحف والإعلام المرئي والمسموع في الجزائر وبين ما تنقله قصاصات الوكالات الدولية.
حتى أن المواطنين الجزائريين الذين كان لديهم إلمام كبير بالفرنسية كانوا يصدرون نكاتا عن الهواري بومدين وهو يسعى إلى تزوير أخبار الحرب في الصحراء المغربية رغم أنه كان يعلم استحالة حجب قصاصات الوكالة الفرنسية.
أمام هذه المعطيات، كان تدخل «موسكو» لتنبيه ليبيا والجزائر من تبعات تمويل البوليساريو بالسلاح السوفياتي، ذا مفعول سياسي كبير، إذ أن العقيد القذافي وعد بألا يرسل الطائرات المقاتلة التي وعد بها، واستمر التمويل السري للبوليساريو بعيدا عن مراقبة الأجهزة السرية، وتحولت الوعود المعلنة لتمويل الجبهة الانفصالية إلى عمليات سرية للتهريب عبر الحدود، لإذكاء الصراع المفتعل في الصحراء المغربية طيلة فترة السبعينيات.
«بركات» الحسن الثاني بعيون موسكو
في وقت كان حافظ الأسد، وصدام حسين، ثم الهواري بومدين والقذافي، لا يخفون إعجابهم الكبير بالسوفيات مقابل مهاجمة واشنطن في جل خطاباتهم الرئاسية وحتى جلساتهم السرية. كان الملك الراحل الحسن الثاني يحظى بتقدير كبير من البيت الأبيض منذ أيام الرئيس كينيدي إلى بيل كلينتون، حيث كانت زيارات الملك الراحل الحسن الثاني إلى الولايات المتحدة تحظى باهتمام إعلامي كبير.
أما في علاقته بموسكو، فقد كان الملك الحسن الثاني عند آخر زيارة له إلى الاتحاد السوفياتي أواسط الستينيات من القرن الماضي، قد أظهر للسوفيات أنه لن يكون صديقا حميما لموسكو ما دام حكامها يدعمون علنا أنظمة تعادي المغرب بل وتخطط لاغتيال الملك.
أما أسباب الجفاء بين الملك الحسن الثاني وقصر «الكرملين»، فتعود إلى سنة 1965 عندما قرر الملك الحسن الثاني إيقاف اتفاق تعاون عسكري بين الرباط وموسكو، وتعويضه ببرنامج عسكري أمريكي قدم عرضا مغريا للمغرب، حيث اضطر مدربون طيارون سوفيات كانوا يقيمون في القاعدة الجوية بالقنيطرة إلى مغادرة المغرب على الفور تاركين وراءهم طائرات روسية كانت هدية إلى المغرب سنة 1960، حصل عليها الملك الراحل محمد الخامس سنة فقط قبل وفاته.
توجه الملك الحسن الثاني الجديد، راقبته المخابرات الروسية، حيث رصد السوفيات وجود اتصال بين الرباط وواشنطن، وتوقعوا أن ينتهي باتفاق عسكري، خصوصا وأن المغرب صار على علم بتوغل روسيا في الجزائر وتقديمها معدات عسكرية للجيش الجزائري وبالضبط لوزير الدفاع الهواري بومدين منذ سنة 1962، تاريخ استقلال الجزائر، وهو ما جعل الملك الحسن الثاني يتعامل مع السوفيات بحذر لأنهم كانوا يحفزون طموح بومدين للوصول إلى السلطة.
عندما وقع المغرب اتفاقا عسكريا مع واشنطن، فهم السوفيات أن أيامهم في المغرب قد انتهت، لكن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بقيت قائمة، لكنها لم تعد بنفس الدفء السابق. إذ أن آخر زيارة للملك الحسن الثاني إلى الاتحاد السوفياتي اعتبرت حدثا دبلوماسيا كبيرا وخصص لها الإعلام السوفياتي حيزا مهما في تغطية النشاط الرسمي للملك الحسن الثاني. لكن علاقة النظام السوفياتي برؤساء عرب معارضين للمغرب ويجهرون بدعمهم لمعارضة الملك الحسن الثاني وتمويلها للقيام بثورة في المغرب، أثرت على مستقبل العلاقات بين البلدين بدون شك.
لذلك كان التقدير الكبير الذي حظي به الملك الحسن الثاني في القمم العربية وأيضا خلال تمثيل العالم العربي في زياراته إلى واشنطن وأيضا ثقله في الصراع العربي الإسرائيلي في الشرق الأوسط، كلها عوامل جعلت الـ «كي.جي.بي» تراقب الأوضاع في المغرب عن كثب.
العلاج السري لبومدين في موسكو: انشغلوا بالمغرب وتركوا الرئيس للسوفيات
عندما كان الهواري بومدين في خريف سنة 1978 يعاني من تبعات المرض الذي ألم به ووصلت إشاعات كثيرة بشأنه إلى عموم الجزائريين، كان رجاله المقربون منشغلين بالمغرب أكثر مما كانوا منشغلين بصحة رئيسهم.
إلى درجة أن بعض وثائق أرشيف الاستخبارات السوفياتية، كشفت أن نونبر 1978 عرف حملة تمشيط من طرف بعض الضباط الجزائريين للفنادق والأماكم العامة بحثا عن مشبوهين مغاربة، وحاولوا التجسس عليهم لمعرفة ما إن كانوا يعملون لصالح المخابرات المغربية.
واستغرب الضباط السوفيات عن بحث الجزائريين عن مغاربة على وجه الخصوص بدل أن ينشغلوا بتأمين إقامة الهواري بومدين أثناء تلقي العلاج، بل طلبوا من السوفيات توفير حماية خاصة للرئيس المريض. وهو ما استقبله السوفيات بحذر.
إذ أن الرئاسة في موسكو، خصصت ميزانية مهمة لتغطية نفقات علاج الرئيس الجزائري، حليف الاتحاد السوفياتي، وكلفت فريقا مدربا من المخابرات السوفياتية بالإشراف على تأمين حماية الإقامة الخاصة التي خصصت له وتنقلاته بينها وبين الجناح الطبي الذي خصص له ووضعت فيه أحدث التجهيزات وأكثر الاطباء السوفيات خبرة في الجراحة والتحاليل الطبية.
كان مرض الهواري بومدين معلومة غير خفية رغم أن القنوات الرسمية لم تصارح الرأي العام الجزائري والدولي بحقيقة مرض الرئيس الذي كان يعرقل قيامه بمهامه الرئاسية.
استغراب السوفيات من طلب الجزائريين توفير حماية رئيسهم في موسكو، لم يدم طويلا، فقد فهموا السر وراء الموضوع عندما رصدوا تحركات مشبوهة لضباط جزائريين كانوا يقضون يومهم في تمشيط الفنادق والأماكن العامة في موسكو، بحثا عن مغاربة يشتبه في أن يكونوا يتابعون مرض الهواري بومدين.
وهو ما كان نشاطا غير مسموح به، خصوصا وأن الموضوع قد يتسبب في إحراج للعلاقات بين المغرب والاتحاد السوفياتي في حالة ما إن تعرض مواطن مغربي لاعتداء على يد الأمنيين الجزائريين.
في المقابل، كانت المخابرات الفرنسية تتابع تطورات الوضع الصحي للهواري بومدين الذي فضل العلاج في روسيا بدل فرنسا، رغم أن العلاقات الفرنسية الجزائرية كانت هادئة.
لكن اختيار الاتحاد السوفياتي كان يتحكم فيه أثر العلاقات بين الجزائر والمغرب، إذ أن الملك الراحل الحسن الثاني لم يقم علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفياتي في نهاية السبعينيات، بحكم أن هذا النظام كان يدعم كل الأنظمة المعارضة لتوجه المغرب وسياساته، وهو ما جعل العلاقات المغربية السوفياتية تفقد دفئ سنوات ستينيات القرن الماضي.
وثائق الـKJB الروسية تحدثت أيضا عن رصد تحركات للأمن الرئاسي للعقيد معمر القذافي، الذين كانوا أيضا في موسكو تزامنا مع علاج الهواري بومدين الذي حاول تجنب التقاط الصور قدر الإمكان حتى لا تبدو عليه علامات الإجهاد في الصور. ورصدت نفس الوثائق قيام المكلفين بالتغطية الإعلامية، بإملاء تعليمات على صحافيين جزائريين لكي يعتمدوا صور قديمة نسبيا للهواري بومدين، ونشرها مع خبر عودته إلى الجزائر، في المرة الأخيرة، بعد انتهاء آخر حصص العلاج، لأن صور الظهور الأخير من شأنها أن تذكي الإشاعات حول تدهور الوضع الصحي لرئيس البلاد.
الـ «كي.جي.بي» تابعت حرب الرمال وتحركات المهدي بن بركة
كان الملك الراحل الحسن الثاني يعلم أن صديقه، أحمد بن بلة بعد سنة 1963، محاصر في قلب القصر الرئاسي، وأن كل يوم إضافي يقضيه في الرئاسة، يعني سقوط امتياز رئاسي من يده.
المخابرات السوفياتية رصدت اتصالات بين الملك الحسن الثاني وأحمد بن بلة، وتأكد لضباطها أن الهواري بومدين، وزير الدفاع وقتها يتجسس على مكالمات القصر الرئاسي ويسجلها مخططا لإدانة أحمد بن بلة ومحاكمته وتوجيه تهمة التواطؤ مع المغرب ضد الجزائر، وهي تهمة كان بومدين يخطط لفبركتها بدقة لكي يسقط بن بلة في شراكها، لكنه لم يملك ما يكفي من الصبر لتنفيذها، لذلك انقلب عليه معرضا مستقبل البلاد للخطر.
كنا قد سبقنا في «الأخبار» إلى تناول حلقات مثيرة تزامنا مع إصدار الصحافي الجزائري لكتاب مثير مباشرة بعد سقوط بوتفليقة ومغادرته السلطة. وهذا الكتاب الذي ألفه الصحافي الجزائري فريد عليلات، والذي حمل عنوانا بالفرنسية:
« Bouteflika: L’histoire secrete « قدم إفادات أكدت صحة ما جاء في أرشيف مخابرات الاتحاد السوفياتي منذ ستينيات القرن الماضي.
تقرير للمخابرات السوفياتية يعود إلى يوم 14 مارس 1964، يكشف أن السوفيات كانوا يعرفون تفاصيل خطة الهواري بومدين، وكشفت الوثيقة أن دبلوماسيا سوفياتيا كانت تربطه صداقة في باريس مع سكرتير وزير الدفاع الهواري بومدين، هو الذي سرب إليه كل تلك التفاصيل، بما فيها التجسس على مكالمات الرئيس أحمد بن بلة مع الملك الحسن الثاني مهما كانت مدتها قصيرة، وحتى لو كانت مكالمات غير رسمية.
كانت التقارير السرية للمخابرات المغربية خلال سنة 1963، تنقل للملك الحسن الثاني تفاصيل ما يقع في الجزائر، وتضعه في الصورة. وعلم مبكرا أن الوضع كارثي هناك، وأن انقلابا كبيرا وقع ضد الرجل يموله زعماء عرب للأسف.
اصطف كل من الملك الحسن الثاني، والأردني الملك حسين، لمساندة أحمد بن بلة. لكن ذلك السند وحده لم يكن كافيا، إذ أن الضباط المصريين كانوا يمولون الهواري بومدين.
يومها قال أحمد بن بلة كلمته الشهيرة بحق المصريين. كان يظن أن جمال عبد الناصر يمول الثورة الجزائرية بالسلاح قبل حصول الجزائر على الاستقلال ظنا منه أن الرجل يؤمن بالحركات التحررية ويدعمها. في حين أنه كان يطمح إلى السيطرة على الحياة العامة في الجزائر، وتحويلها بعد الاستقلال إلى ثكنة عسكرية يحكمها الجيش الجزائري وليس رئاسة الجمهورية.
وحرب الرمال كانت دليلا ماديا قويا على التورط المصري هناك. إذ أن اعتقال المغرب للضباط المصريين الذين كان من بينهم الطيار حسني مبارك، الرئيس المستقبلي لمصر، بعد اقتحامهم للأجواء المغربية ونزولهم بمروحية في الصحراء ظنا منهم أنهم في الجزائر، كان أكبر دليل على هذا الالتباس، خصوصا وأن أحمد بن بلة لم يكن يعرف أي شيء عن هذا التنسيق بين المروحية المصرية والهواري بومدين.
ظل أحمد بن بلة، يتمتع بدعم الملك الحسن الثاني، نفسيا على الأقل. لكن كان على الرجل أن يضبط بلاده جيدا، ويمسك زمام الأمور، وهو ما لم يتمكن منه، إذ أن رفيقه الهواري بومدين خطف حرفيا البلاد من يديه.
كان الملك الحسن الثاني، مرة أخرى يتوصل بتقارير المخابرات المغربية مؤكدة هذه المرة أن الفارين من أحكام واعتقالات يوليوز 1963، قد بدؤوا يتدربون على حمل السلاح.
اختار الملك الحسن الثاني، بحسب أوراق السفارة الأمريكية في الرباط، ألا ينقل المعلومة الثمينة إلى أحمد بن بلة. وهو ما تجسس عليه الاتحاد السوفياتي أيضا، إذ أن عملاء سوفيات كانوا يراقبون السفارة الأمريكية في الرباط. لأن الملك الحسن الثاني كان يعرف أن صديقه بن بلة مُخترق تماما من الداخل.
كان لدى الملك الراحل حس استباقي قوي. لذلك حرص على أن يبقى أحمد بن بلة بعيدا عن المتاعب. وفي نفس الوقت لم يكن يريد لشلة وزير الدفاع الحاكم أن يعلموا أي تفاصيل عن الخطة الدفاعية المغربية.
كان أكثر ما أقلق الملك الراحل الحسن الثاني هو موقف المهدي بن بركة من حرب الرمال. فقد كان وقتها صديقا للجزائريين وحصل منهم على مساعدات مادية وجواز جزائري لكي يسافر به بحرية إلى فرنسا. وأعطى تصريحات للصحافة في عز حرب الرمال أعرب فيها عن مساندته للجزائريين ورفض تلك الحرب.
هذه المعطيات تناولتها مخابرات الاتحاد السوفياتي أيضا، إذ أن عميلا مزدوجا كان يحمل اسم «N.T» عمل لصالح الموساد الإسرائيلي والاتحاد السوفياتي في نفس الوقت، وباعهم ميكروفيلم كان يحتوي على وثائق رسمية مصدرها مكتب الهواري بومدين حصلت عليها الموساد وتابعت من خلالها أطوار تمويله للمهدي بن بركة، واستغلاله لتصريحه الذي أغضب الملك الحسن الثاني سنة 1963 بسبب حرب الرمال، إذ أن بومدين كان قد أمر صحافة بلاده بأن تنقل تصريح المهدي بن بركة على صفحاتها وتمنحه مساحة للحوار في الراديو الجزائري، لكن بن بركة اعتذر عن تسجيله بحجة التزام بموعد في باريس.
القمم الإفريقية شكلت «جحيما» لبومدين وأنصاره جيشوا صحافيي بلاده ضد المغاربة
من الأمور التي تابعها الاتحاد السوفياتي في بداية سبعينيات القرن الماضي، الاجتماعات الإفريقية التي كان يحظى المغرب بشعبية كبيرة داخلها، خصوصا وأن رؤساء عدد من الدول الإفريقية التي حصلت لتوها على الاستقلال من فرنسا في ذلك الوقت، كانوا يعلنون مناصرتهم لموقف المغرب وهو ما شكل عقدة لكل من العقيد القذافي والهواري بومدين.
كشف عدد من الصحافيين المغاربة القدامى، خصوصا موفدي جريدة حزب الاستقلال الذين كانوا يرافقون الوفد المغربي، الذي كان من بين الحاضرين فيه الزعيم الاستقلالي، امحمد بوستة، وجود مناوشات وتضييقات على عملهم الصحافي. ومصدر ذلك التضييق هم الصحافيون الجزائريون.
وقد تحدثت وثيقة للمخابرات السوفياتية تعود إلى أواخر نونبر سنة 1984، عن أن الجزائر وظفت عددا من رجال مخابراتها ومنحتهم اعتمادا صحافيا لمرافقة الوفد الرسمي الجزائري إلى القمة الإفريقية التي حضرها الملك الحسن الثاني. وبطبيعة الحال، فهؤلاء «الصحافيون» الجزائريون لم يكونوا مكلفين بالتغطية الإعلامية. وإنما كانت مهمتهم مضايقة الصحافيين المغاربة الذين رافقوا الوفد المغربي الرسمي، والتضييق أكثر على الوفد وخلق نوع من التفرقة بين مواقف البلدان المشاركة.
كان وقتها الهواري بومدين قد غادر الحياة، لكن رجاله بقوا في دواليب الدولة رغم الإعفاءات التي طالت عددا من المسؤولين المقربين منه بعد وفاته في آخر أيام دجنبر سنة 1978. إذ أن سياسته بقيت مستمرة، والعداوة مع المغرب أورثت إلى الوجوه الجديدة في السلطة. في وقت بقي رجال المخابرات على حالهم، واستمروا في نفس حملة محاربة المغرب في التظاهرات الدولية والإفريقية.
الانسحاب الشهير للمغرب من القمم الإفريقية التي كانت آخرها تلك التي انعقدت في نونبر 1984، كان وراءه تلك المضايقات التي قام بها الجزائريون، حيث كانت الأجهزة السرية الجزائرية تهندس لحضور ممثلي البوليساريو وتمارس نوعا من التضليل خارج مقر الاجتماعات، حيث يعمد رجال المخابرات الجزائرية إلى حشد متظاهرين مقابل المال، وتمنحهم أعلام البوليساريو وتدرس بدقة أماكن زرعهم لكي يكونوا في طريق مرور سيارات الوفد الرسمي المغربي والصحافيين المغاربة.
أرشيف المخابرات السوفياتية رصد كل هذه العمليات، وتناولها بدقة بحكم اهتمام الاتحاد السوفياتي بالمنطقة، وأيضا بحكم انشغال النظامين الجزائري والليبي بقضية الصحراء المغربية وصرفهم لملايين الدولارات ما بين سنوات السبعينيات والثمانينيات لتغذية صراع في منطقة الصحراء المغربية.
كانت القمم الإفريقية التي جرت في عهد بومدين وبعده أيضا، تشكل «جحيما» لا يطاق للسلطة الجزائرية، لأن تلك المناسبات كانت تعرف حشدا كبيرا لمناصرة الموقف المغربي من ملف الصحراء، وكان الجزائريون يحاولون التشويش على التحركات الدبلوماسية للمغرب في الموضوع، بتجييش أقليات في عدد من الدول الإفريقية التي تحمل شعارات ضد المغرب.
نفس هذه الوثائق تناولت معلومات عن سفريات قام بها عبد العزيز بوتفليقة عندما كان وزيرا للخارجية الجزائرية إلى عدد من الدول الإفريقية، حيث قدم وعودا كاذبة لزعماء تم الانقلاب عليهم عسكريا ما بين سنوات 1969 و1978، واتضح لاحقا أن الوعود التي قدمها باسم الهواري بومدين لم يكن له أي نية في تحقيقها. وهذه الوعود تمثلت في تقديم دعم مالي للحكومات الإفريقية مقابل تغيير موقفها من المغرب أو سحب سفرائها من الرباط، وهو ما لم يتم. إذ اكتشف عدد من الزعماء مراوغات الجزائر بسبب تمويلها للبوليساريو فقط دون غيرها من تنظيمات القارة الإفريقية.