انتخابات ورسائل
أسدل الستار عن ثاني اقتراع في المسلسل الانتخابي الذي يراهن عليه البلد لتشكيل المؤسسات الدستورية الوطنية والترابية، المهنية والسياسية في انتظار أم المعارك الانتخابية التي ستجري خلال شهر شتنبر المقبل.
فوسط جو سياسي بارد جرت الانتخابات المهنية لملء 2230 مقعدا من أجل التجديد العام لممثلي المهنيين داخل هذه المؤسسات المهنية الترابية. وتعد هذه الاستحقاقات التي ترشح لها 12 ألفا و383 ثاني انتخابات مهنية في ظل الدستور الجديد. وبدون شك فإن السياق الاستثنائي المرتبط بتداعيات كوفيد 19 والظروف السياسية والمجتمعية، ألقت ببعض ظلالها الكثيفة لكي تمر هذه الاستحقاقات دون رهانات سياسية ولم يواكبها ما يكفي من النقاش السياسي والإعلامي المواكب، خصوصا عبر الإعلام السمعي البصري العمومي.
هذا الموعد الانتخابي، بقدر ما أنه يعني الناخبين المهنيين وهي شريحة محددة بحكم اشتغالها في ميادين الفلاحة، والتجارة والصناعة والخدمات، والصناعة التقليدية، والصيد البحري، فنتائجه مع ذلك لن تخلو من مؤشرات قد تسعف في توقع وقراءة مجريات باقي مواعد المسلسل الانتخابي لهذه السنة. فمن الصعب عمليا وضع قطيعة تامة بين المزاج الانتخابي الذي سيتحكم في تصويت حوالي مليون من المهنيين على اللون الحزبي المعين وبين الانتخابات الجماعية والتشريعية المقبلة.
والتجارب السابقة، آخرها ما جرى في 2015، تؤكد أن المزاج الانتخابي السائد خلال الاستحقاقات المهنية والعمالية، امتد بشكل كبير إلى الاستحقاقات الترابية والتشريعية، لا سيما أن هاته الاستحقاقات تنبثق عنها الهيئة الناخبة التي تختار 20 ممثلا للغرف في مجلس المستشارين، وهو بمثابة مؤشر يتم الاعتماد عليه، قبل موعد الانتخابات البرلمانية والجماعية المقررة في الشهر المقبل.
فلا يمكن، تحت ذريعة الخصوصية الانتخابية، غض الطرف عن المزاج الانتخابي لحوالي 900 ألف ناخب يشكلون عمليا خمس الكتلة الناخبة في التشريعيات، ولا يمكن، تحت أي تمييز، أن نتجاهل حصول الحزب الحاكم فقط على 20 ألف صوت من رقم مصوتين يقترب من المليون، وبالضرورة لا يمكن الانحياز إلى اللامبالاة في قراءة القفزة الهائلة التي حققها حزب التجمع الوطني للأحرار الذي ضاعف سلته من المقاعد ليفوق 600 مقعد.
نحن، إذن، أمام مؤشرات سياسية دالة، ومهما حاول البعض التقليل من شأنها، فهي تفرض نفسها بقوة في قراءة الخريطة السياسية المقبلة. ولعل قراءة متأنية لنتائج الاقتراع المهني، تؤكد الخلاصات التالية:
أولا، إصرار أكثر من 880 ألفا من المهنيين، أي ما يعادل 47 في المائة، على ممارسة حقهم الانتخابي، وهي نسبة كافية للرد على شريحة المروجين لـ”سردية” العزوف الانتخابي خلال الاستحقاقات المقبلة بسبب الوباء أو انهيار الثقة، فالظروف الاستثنائية التي فرضتها جائحة كوفيد 19 لم تحل دون الوصول إلى سقف مشاركة، لم نتمكن من حيازته في الظروف العادية حين كانت السياسة في ذروتها ومنسوب الثقة في المؤسسات مرتفعا، خصوصا خلال استحقاقات 2015.
ثانيا، أظهرت الاستحقاقات الانتخابية، سواء تلك المتعلقة بالنقابات والغرف، قدرة وزارة الداخلية ورجالاتها على تأمين تنظيم الاقتراع دون وقوع أخطاء وحوادث، مما يبعد عن الأذهان مزاعم تأجيل الاستحقاقات التشريعية والترابية التي حاول رئيس الحكومة التلميح إليها، بينما كذبها وزير الداخلية جملة وتفصيلا مؤكدا، خلال عرضه للنتائج الرسمية، على احترام المقتضى الدستوري المتعلق بدورية الانتخابات.
ثالثا، من بين خلاصات نتائج الاقتراع المهني أن هذا الصنف من الاستحقاقات لا زالت له جاذبيته ورهاناته لدى المهنيين والأحزاب السياسية، خصوصا وأنه يرتبط بانتخابات القرب التي تهم مصالح الملايين من المهنيين، وهذا يعني أن معدل منسوب الثقة في المؤسسات المهنية لا زال مقبولا بما يضفي الشرعية على المؤسسات المنتخبة، وأن مئات الآلاف من المهنيين الذين تحدوا فوبيا كوفيد وتوجهوا لصناديق الاقتراع لم يفقدوا أمل التغيير من داخل مؤسساته الانتخابية.
رابعا، هزيمة حزب العدالة والتنمية. صحيح أن الحزب حاول تبرير هذا السقوط بالادعاء أنه لم يسبق له الرهان على الاستحقاقات المهنية، لكن النتائج المحصل عليها كارثية بكل المقاييس، أولا لأنها سجلت تراجعا بـ147 مقعدا عن آخر اقتراع، مما جعل الحزب الحاكم يتبوأ المرتبة الأخيرة، ثانيا لفشله في استقطاب كتلة المهنيين طيلة عقد من تربعه على رأس السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهنا بالضبط يكمن الفشل الذريع، ويبدو أن التراجع الانتخابي للحزب الحاكم أصبح بنيويا، وظهر ذلك خلال الانتخابات الجزئية الأخيرة وخلال الاستحقاقات النقابية والغرف المهنية وسيظهر ذلك خلال استحقاقات رجال الأعمال وبدون أدنى شك ستمتد روح التراجعات إلى الاستحقاقات التشريعية والجماعية.
خامسا، الصعود الملحوظ لحزب التجمع الوطني للأحرار، ويبدو أن حزب الحمامة بدأ يقطف ثمار التغيير التنظيمي الذي حدث داخل بيته الداخلي منذ خمس سنوات بعد صعود عزيز أخنوش لقيادته، والمؤكد أن الأحرار يواصل بهدوء ودون مواجهات شعبوية تحقيق رهانات سياسية متعددة، كان آخرها رهان تحسين معدلاته في الغرف حيث انتقل من الرتبة الثالثة خلال سنة 2015 بحوالي 14,96% إلى الرتبة الأولى بحوالي 28,61%، أي ما يعادل تقريبا ربع مليون صوت، وهذا في حد ذاته مؤشر كاف لتسجيل دخول انتخابي تشريعي وترابي بمعنويات مرتفعة.