بقلم: خالص جلبي
ثمة مثل آخر يلقي نورا في بحثنا عن مبدأ الصدفة أو التصميم والخلق الإلهي، وهو مثل المطبعة. لو فرضنا أنه لدينا مطبعة وفيها نصف مليون حرف، ثم حدثت هزة أرضية ألقت الحروف بعضها فوق بعض، حتى اختلطت إلى حد كبير وتراكمت فوق الأرض، ثم عدنا بعد ذلك إلى المطبعة، بعد أن انتهت الهزة الأرضية لنرى خليطا غير متجانس من الحروف والكلمات، إن هذا هو الأقرب للمعقول، ولكن كيف الحال إذا رأينا جملة أو جملتين مفيدتين فيهما معنى جميل أو مثل عميق أو بيت من الشعر بالطبع، إن هذا بعيد جدا، وحتى لو حدث فسوف يثير دهشة واستغرابا عميقين عند من يرى هذا الشيء، وبالطبع إن هذا يعود إلى قانون الاحتمالات وهو هنا تزاحم الحروف حتى تشكل الكلمات، ولقد مر معنا أن سحب عشرة أرقام متتالية، واحتمال خروجها مرتبة بعضها خلف بعض بالترتيب، هو احتمال واحد ضد عشرة مليارات، ولكن هنا المثل معقد جدا، فهو ليس تزاحم عشرة أرقام، بل خمسمائة ألف حرف! فالمثل يبلغ حدا من التعقيد، بحيث إن قانون الاحتمالات يصل إلى درجة المستحيل في ما إذا رجعنا إلى المطبعة، لنجد قصيدة مؤلفة من ألف بيت من الشعر الموزون الجميل ذي المعنى العميق والوزن المتناسق، ولا يوجد فيها أي خلل لغوي. بالطبع إن هذا في عالم المستحيل، لأنه في عالم الرياضيات – وهو عالم دقيق- توجد حسابات دقيقة محددة، ومعلوم فيها أن أي عدد أو زاوية أو رقم تناهى في الصفر فإنه يصل إلى الصفر، وهو يعتمد القانون المعروف ( أي لا نهاية).
وهنا أمامنا في قانون الاحتمالات إمكانية واحتمال حدوث هذا الشيء يبلغ رقما لا يمكن تصوره، بحيث إنه يملأ من الأصفار صفحات، وبحيث إنه لا يقرأ بشكل علمي، أي يصل إلى اللانهاية، وبالتالي فهو في عالم المستحيل، أي يستحيل حدوثه، وهكذا يمكن نسف فكرة المصادفة بشكل جذري ونهائي، حتى في عالم المادة، قبل عالم الإحياء الذي وقفت عنده فكرة المصادفة.
وخذ مثلا آخر وهو مثل الأنبوب الزجاجي.. فلو فرضنا أن لدينا أنبوبا زجاجيا وفيه ألف كرة بيضاء وألف كرة سوداء، والكرات البيضاء تعلو الكرات السوداء، وهذا الأنبوب يتصل من إحدى نهايته بكرة زجاجية مجوفة تتسع إلى أكثر من ألفي كرة من حجم الكرات الموجودة في الأنبوب الزجاجي، فلو ألقينا نظرة على الأنبوب الزجاجي لوجدنا اللون الأبيض واضحا، كما أن اللون الأسود واضح، ولكن لو فرضنا أننا ملأنا الأنبوب الزجاجي (وهو لا يتسع في قطره إلا لكرة واحدة فقط، بحيث تصبح الكرات بعضها فوق بعض)، بحيث إن الكرات اختلطت في النهاية المجوفة التي تتسع للجميع، فإن اللون يصبح رماديا، وإذا أردنا إرجاع الكرات إلى الأنبوب الزجاجي، فإن اللون لا يعود كما كان، أي الأبيض متميز عن الأسود، بل يصبح اللون رماديا، وذلك لامتزاج الكرات السوداء مع البيضاء امتزاجا تاما.. والآن فإن إمكانية أن تعود الكرات إلى ما كانت عليه، أي الألف كرة البيضاء منفصلة عن الكرات السوداء، تحتاج إلى احتمال لا يمكن تصوره، وهو احتمال 489 × 10 600، أي رقم 489 مسبوق
بـ600 صفر إلى اليمين، وهذا يحتاج إلى ملء أسطر عديدة من الأصفار وهو رقم لا يمكن قراءته بحال، وهذا المثل هو فقط في ناحية اللون مع تماثل باقي الشروط، فكيف الحال لو حدث تغير في شروط أخرى، وأين سيكون قانون المصادفة عند ذلك، وهذا كما ذكرنا في عالم المادة فقط وفي ترتيب الأشياء؟
وهناك أمثلة أخرى متعددة في هذا الباب، ولكننا سنختم الأمثلة بمثل أخير قام به عالم رياضي سويسري، هو «تشارلز يوجين جاي» على ذرة واحدة من العضويات، والتي يمكن أن تشترك في تركيب خلية واحدة من خلايا الكائنات التي تعمر هذا الوجود.. ومع أن الوزن الذري لأبسط الأحيات هو 34.500 وهو أح البيض، ومع ذلك قام بتبسيط أول فاعتبر الذرات 2000 (ألفا ذرة). وقام بتبسيط آخر فاعتبر أن الذرات هي نوعان فقط، بينما هي في الحالة العادية أربع جواهر على الأقل، وهي الفحم والهيدروجين والأكسجين والآزوت، بالإضافة إلى الكبريت والنحاس والفوسفور وغيرها من العناصر. وقام بتبسيط ثالث، وهو اعتبار الوزن الذري عشرة وسطيا، مع أن الفحم 12 والأكسجين 16، فكانت نتيجة الحسابات التي وصل إليها هي أقرب للخيال منها إلى الحقيقة، حيث إن احتمال حدوث هذه الذرة يحتاج إلى ثلاثة أشياء. أولا: الاحتمال النظري لحدوث هذه الذرة، وثانيا: المادة وحجمها التي بإمكانها أن تعين رقم الاحتمال، وثالثا: الزمن الذي تحتاج إليه نظرية الاحتمالات حتى يمكن تشكيل هذه الذرة الواحدة فقط! فكان احتمال المصادفة تقريبا 2 × 10 3210، أي مسبوق بـ321 صفرا إلى يمين الرقم!
وأما الحجم من المادة الذي نحتاج إليه حتى تتحقق مثل هذه المصادفة، فهو بحجم كرة ضخمة يحتاج الضوء لكي يقطع قدرها إلى 10 164 سنة، أي رقم واحد أمامه 164 صفرا، ونتيجة قراءة هذا الرقم تكون بالسنين الضوئية، وهو ما يعادل المسافة التي لو سار الضوء سنة زمنية كاملة يستطع أن يقطعها وهي ما تصل إلى رقم ستة ملايين مليون ميل، أي 6 × 10 12 ميل، حيث إن الضوء يقطع في الثانية الواحدة 300 ألف كيلو متر أو 186 ألف ميل، وهو ما يقطع في الدقيقة الواحدة 11 مليون ميل و160 ألف ميل، أو كما ذكرنا في السنة الواحدة 6 ملايين ميل على وجه التقريب، حيث وصلنا إلى هذا الرقم بضربه عدة مرات حتى نصل إلى رقم السنة، فهذه الكرة المادية التي نحتاج إليها لحدوث احتمال تكون ذرة بسيطة مكونة من ألفين من الذرات وذات نوعين فقط من الجواهر وذات وزن ذري وسطيا يبلغ العشرة (كما ذكرنا ثلاثة تبسيطات لهذه الذرة الوحيدة) هي ذات قطر يبلغ بالسنين الضوئية 10 164 سنة! وهذا الرقم يبلغ في علم الفلك أكبر من الكون الذي تخيله أينتشاين بسكستيليون سكستيليون سكستيلون مرة «تشارلز يوجين جاي».
وبقي علينا الشيء الثالث وهو الزمن بالإضافة إلى الاحتمال والكون المادي، فلو فرضنا أن عامل الخض الحروري هو الذي يعمل ويقدر أن يبلغ 500 مليون تريليون هزة في الثانية الواحدة، أي 5 × 10 14/ثانية، والتي هي من رتبة ذبذبة الضوء، فإن الزمن الذي نحتاج إليه مع كل هذا هو 10 234 بليون سنة.
نافذة:
في عالم الرياضيات وهو عالم دقيق توجد حسابات دقيقة محددة ومعلوم فيها أن أي عدد أو زاوية أو رقم تناهى في الصفر فإنه يصل إلى الصفر وهو يعتمد القانون المعروف ( أي لا نهاية)