شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

امتحان الوعي الغربي في غزة

 

مقالات ذات صلة

 

عبد الإله بلقزيز

 

وقر في أذهان العرب والمسلمين، شعوبا ونخبا، ومنذ عهد بعيد، شعور حاد بأن بيننا والغرب جفاء مستحكم يبلغ بعضه عتبات العداء، خاصة حينما يصطدم الفريقان ببعضهما في نزاعات أو حروب، وتتعسر سبل التفاهم حول أهداف متقابلة متناقضة.

ما كان هذا من العرب والمسلمين محض شعور حملت عليه حوادث وآلام وجراح؛ كان وعيا تكون من تجربة من المعاناة مديدة. وما كان الوعي ذاك مغلوطا أو مبالغا فيه أو متلبسا صفة الضحية ومتوسلا حجة المظلومية – على ما يصر بعض منا على ترداده ببغاويا بتعلة النقد – وإنما أتى وعيا مطابقا لواقع حال علاقة كنا فيها دائما، ومنذ قيام أوروبا الحديثة، موضوعا لفعل الآخر، وما كان لنا أكثر من حصة رد الفعل فيها. وحتى حينما كان قسم من نخبنا السياسية حازما أمره لجهة توطيد العلاقة بالغرب، سعيا نحو تحصيل حقوقنا ومصالحنا، ما كان يأتي مطالبنا منه غير الصد وحقوقنا غير النكران والجحود. أما من عالنه الاعتراض وناهض سياساته من النخب السياسية العربية فتلقى منه وجبات متعاقبة من العقاب: تراوحت بين العقاب الاقتصادي والحصار و(بين) الحرب وتدمير الكيان!

ولقد كان فريق آخر من النخب الفكرية والثقافية العربية يعرف، على التحقيق، أن هذه السيرة العدائية مع العرب والمسلمين هي، إجمالا، سيرة الغرب خارج دياره مع الآخر، وإن كان حظنا نحن منها أسوأ من حظوظ غيرنا؛ وكان يعرف أن لا سبيل إلى ثني هذا الغرب عن السير فيها، من طريق تذكيره الدائم بقيمه الحضارية الكبرى؛ ذلك أنه غرب لا يشبه نفسه خارج موطنه، ولا شريعة تحكمه (خارج ذلك الموطن) سوى شريعة القوة. وكم من مرة اصطدم هذا الفريق من النخب بكثيرين منا جربوا، عبثا، أن لا يروا في ذلك الغرب وجهه المظلم الكالح فطفقوا يلمعونه أنحاء مختلفة من التلميع متوسلين، في ذلك، منظوماته الكبرى التي صنعت المدنية الحديثة مستشهدين بها، ولكن ذاهلين – في الوقت عينه – عن حقيقة تلك الازدواجية الصارخة التي ظل ينطوي عليها: غرب العقل والحرية والديمقراطية والأنوار، من جهة، وغرب الهيمنة والتسلط والتمركز الذاتي والعنصرية والاستعمار من جهة ثانية. وما من شك في أن الكثير من سوء الفهم والتقدير للغرب – إن سلبا أو إيجابا – إنما مأتاه، في المقام الأول، من الذهول عن ذياك الازدواج في شخصيته وفي سلوكه السياسي. وكما سقط فيه مبجلة الغرب ممن دبجوا أمدوحات فيه، سقط فيه القادحون فيه من معارضيه، خاصة أولئك الذين نفوا عنه أن يكون صاحب أي نصيب في صنع الحضارة وأسباب التقدم، وما بارحوا النظر إليه بما هو خطير على الهوية والأنا الحضارية؛ وأكثر القادحين فيه أولاء من الأصاليين.

الوعي برسوخ هذه الازدواجية في تكوين الغرب، والرغبة في الخروج من النفق المسدود الذي دخلته فيه هذه المضاربة الإيديولوجية بين مبجلة الغرب والقادحين فيه، كانا في جملة أسباب حملتنا – في أحد كتبنا – إلى الدعوة إلى وجوب التمييز بين الغرب السياسي والغرب الثقافي، سعيا في عدم تحميل فتوحاته الثقافية والمعرفية أوزار سياساته الاستعمارية والعنصرية. ومع إدراكنا بنسبية هذا التمييز ونسبية قدراته على بيان حدود الاتصال والانفصال بين البعدين المتقاطبين في شخصية الغرب؛ ومع إدراكنا بأن الانقسام فيه ليس واقعا بين فسطاطي السياسة والثقافة، بل هو معتمل حتى داخل الفسطاط الواحد على نحو يوزعه بين فريقين ورؤيتين ومسلكين، إلا أنا جربنا أن نفك الاشتباك بذاك التمييز من باب الاحتفاظ لكل من السياسي والثقافي بنصابه، ثم بغية حفظ المسافة الموضوعية بين الفكرة والممارسة وعدم محاكمة الأولى بما فعلته الثانية (السياسة) أو أخذها بجريرتها. بالجملة، تغيا التمييز الاحتفاظ للثقافي، في تاريخ الغرب الحديث والمعاصر، بمقامه البهي في ذلك التاريخ والكف عن تلويث صورته وسيرته بما أتته أفعال السياسيين الأوروبيين والأمريكيين من قبيح المنكرات، والاحتفاظ لهذا الثقافي – في الآن عينه – بسلطة معيارية تسمح بزنة السياسات الغربية بميزان معاييره.

اليوم، لمناسبة هذا العدوان الإسرائيلي المتمادي على غزة منذ أشهر ثلاثة ونصف الشهر؛ ولصمت قبور ينبعث من داخل بيئات المجتمع الثقافي الغربي أمام فاجعة القتل اليومي للأطفال والنساء في غزة: صمتا يضع كل المخزون الثقافي والفكري الغربي موضع امتحان عسير…، ما عدت أجد في التمييز ذاك ضالة ولا وجه منفعة؛ حيث الفتوق رتقت والمسافات ضيقت بين حكومات الغرب ونخبه الثقافية، وحيث حركة بيكار الاتهام والاشتباه بات يسعها أن تذهب نحو الاستدارة الكاملة! إنها، حقا، لفضيحة صارخة للوعي الغربي النخبوي؛ وعي الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين… (ما خلا القليل القليل منهم)، أن يقف مشدوها وقد بلع لسانه أمام إرادة الموت والقتل والإبادة الجماعية. هذا، طبعا، عدا عن أن بعض من ملك الجرأة وتكلم، قال باطلا بانت معه الجرأة تلك جرأة على الحق لا غير، وجبنا في قوله أمام أهل الباطل!

أي ردة ثقافية هذه التي يشهد عليها الغرب المعاصر!

نافذة:

إنها حقا لفضيحة صارخة للوعي الغربي النخبوي وعي الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين ما خلا القليل القليل منهم أن يقف مشدوها وقد بلع لسانه أمام إرادة الموت والقتل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى