الوهم
شامة
كتب لي رسالة يقول فيها «أشكرك، فعلا أشكرك على مقالك بعنوان «العقد السابع»». كانت رسالته من سطر أو يكاد، لكنها كانت واحدة من تلك الرسائل التي يبعث لي بها القراء وتبقى عالقة في ذهني.
لم يقل فيها الكثير، لكني شعرت بما يريد قوله، وتذكرت منذ سبع سنوات، كنت في زيارة إلى تونس العاصمة، غادرت عملي بإحدى المؤسسات الإعلامية، وأمضيت شهورا أبحث عن عمل بدون جدوى، كان رصيدي البنكي ينذرني بأن ما فيه سينفد في أيام، وأني لن أجد ما أصرف منه، ولا ما أدفع به ما تبقى من مصاريف اقتناء شقتي، ولا حتى ما يكفي لاقتناء تذكرة ذهاب بلا عودة إلى كندا التي كنت أحمل بطاقة الإقامة فيها.
جلست على كرسي في مقهى بحي «البحيرة» الأنيق في تونس، وجلس هو قبالتي بابتسامته التي لا تعرف إن كانت ساخرة، أو طفولية، كنت قد التقيت به قبل سنوات في برنامج لوزارة الخارجية السويدية لصناعة القادة الشباب، لم أكن أستلطفه، كنت أراه مجرد شاب مدلل، مستهتر، يستغل وسامته، ووضعه الاجتماعي الميسور لإغراء الفتيات، وقضاء الوقت في الشرب، واللهو والرقص، نمط حياة مختلف عن الذي عشت فيه، أنا التي أتت من عائلة محافظة، تؤمن بأن مآل الفتاة مهما بلغ طموحها هو أن يكون لها زوج وأطفال، وحين جعلت مسارا آخر لحياتي غير الذي تربت عليه بنات العائلة، وجدت نفسي أشق الطريق بنفسي، وأتحمل كل عقباته، لكني في ذلك اليوم كنت أشعر بتعب شديد من كل هذا الثقل الذي أحمله في صمت وكبرياء، لم يكن هو صديقا مقربا لي، لكني استحسنت فيه أنه أصر على دعوتي إلى وجبة غداء حين علم أني أتيت إلى تونس، وكانت أول مرة أجالسه فيها دون أن يرافقني إحساس الامتعاض منه، ولم أكن أعرف أن حياتي ستتخذ بعد هذا اللقاء منعطفا جديدا يتغير فيه كل ما كنت أعتقد به.
شكوت له أنه في عمري ذاك أجد نفسي محشورة في ورطة لا أعرف كيف أخرج منها، قروض، عطالة، البقاء في بلد لا يوفر لك فرصة عمل إلا بشروط، أو العودة إلى كندا وأنا لا أملك ثمن تذكرة قطار فما بالك بتذكرة طائرة، قلت له: «أشعر بأن العمر قد مر وأنا لا أزال عالقة في مكاني». وقتها قال لي: «والدتي تبلغ من العمر ستين سنة، شعرت بأنه قد حان الوقت للانفصال عن والدي، وهو ميسور، نعيش في فيلا فسيحة في سوسة، له صيدلية تدر عليه دخلا محترما، اشتغلت فيها حين تخرجت، وأخي أيضا، أما أختي فقد آثرت أن ترحل إلى كندا وألا تعود إلى تونس، هناك تزوجت كنديا وأنجبت طفلة، حين قررت أمي الانفصال عن والدي أصيب بالصدمة، وكانت هي مصرة على أن تبدأ حياة جديدة بعد الستين، قالت لنا إننا كبرنا، وباتت لكل واحد منا حياته، وإنه حان الوقت لتبني لنفسها الحياة التي لم تكن قادرة على بنائها من قبل، اختارت والدتي ترك رغد العيش الذي كانت تعيش فيه لترحل إلى كندا، وأول شيء فعلته أنها أرادت أن تكمل دراستها، لم تحصل أمي على الباكالوريا من قبل، وكان نظام الجامعة هناك يسمح لمن لا يحمل شهادة