بقلم: خالص جلبي
كان يجب تطويق الموضوع منذ أمد بعيد كما يحدث في حرائق الغابات في الصيف؛ هكذا وجه «بول تومسون Poul Thomsen»، رئيس اللجنة المالية لعشرين عضوا، وهم يجتمعون في اجتماع مغلق، في قبو الفندق المخملي «غراند بريتانيGrande Bretagne » في أثينا، ومعهم أعتى اقتصادي يوناني هو «سافاس روبوليس Savvas Robolis»، الذي كان موضع الأنظار في تحليلاته الاقتصادية ومساهماته في النقاشات الاقتصادية، فضلا عن أنه محدث لبق ومحلل بارع للمستقبل المالي، فضلا عن تأليفه العديد من كتب الاقتصاد. في هذا الاجتماع (الجليدي)، كما وصف بين الرجلين تومسون وروبوليس مع اللجنة المالية بعشرين رأسا من عتاة الاقتصاديين من صندوق النقد الدولي (IWF)، أصيب روبوليس بالخرس وضربته الحيرة بالدوار؛ فلم ينبس ببنت شفة كما يقول المثل العربي.
المشكلة ليست في حرامية اليونان، كما قال تقرير قعد على كتابته عشرة من الاقتصاديين، بل حريق يمتد إلى كل القارة، بحيث كتبت مجلة «دير شبيغل» الألمانية بالعنوان العريض، «أرض اليورو تحترق .. قارة بأكملها في طريقها إلى الإفلاس».
ومما ظهر إلى السطح وكان مخبأ أن ديون اليونان ليست كما أعلنتها الدولة، بل هناك أرقام سرية ترتفع إلى ثلاثة أضعاف، ولذا يقول الاقتصادي الأمريكي «نسيم طالب» من أصل لبناني، وهو يستعرض الوصايا العشر في الاقتصاد، إن من يقول إن الدول لا تفلس هو واحد من اثنين إما جاهل مسكين أو مسرف كذاب، فالدول تفلس كما يفلس الأشخاص. وأنا شخصيا أعرف معنى كلمات الاقتصادي نسيم من عائلتي، حين غرق والدي في الدين بالمرض الأمريكي نفسه الحالي، وهو مرض العالم جميعا، وليس المرض الأمريكي الذي دمر الاقتصاد العالمي، حتى أصبحت البيوت في الإمارات بنصف السعر في رحلة إلى القاع ليس لها قرار.
الوصايا العشر في الاقتصاد مصطلح توراتي، وله ما يشبهه في سورة «الأنعام» في القرآن، تحت قوله تعالى: «تعالوا أتلو ما حرم ربكم عليكم»؛ ولعل أول وصية في الاقتصاد هي الحذر المفرط من الاقتراض. ومنذ القديم قال توماس جيفرسون، إذا أردت معرفة قيمة المال فجرب أن تستقرض. تماما مثل الوعي البيئي بالحفاظ على الخضرة، لأنها أكسجين الحياة، والوعي الصحي بتناول اللقاحات فتحرر الإنسان من الشلل والقتل، والوعي الديني لأنه يحرر من التعصب والحماقة، فالتدين مثل ملح الطعام قلة منه مفيدة وكثرة منه لا تبق طعام. كذلك الوعي الثقافي والجنسي، فالأول يعرف الإنسان معنى الحياة وكم هي جميلة واسعة، والأخيرة يستحي المرء أن يتكلم فيها، وكل منا لم يأت لهذه الدنيا دون علاقة جنسية، وهو أمر لم يستح منه القرآن فقال: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم، والقرآن يقول: ويسألونك عن المحيض، والقرآن يقول: حتى إذا تغشاها حملت حملا خفيفا، والقرآن يستعرض في سورة كاملة قصة حب جامحة انتهت بنهاية جميلة من معنى الحياة، وأن لا يطبق اليأس أبدا على قلوب المحبين الصالحين.
إن أعظم آيات القرآن هي آية الكرسي في سورة «البقرة»، ولكن أطول آية في القرآن هي آية التداين، وتتسع لصفحة كاملة لوحدها، وهذا يدل على أهمية هذا الموضوع، أن تم تناوله بكل هذا التفصيل من التشريع. ولعل أعظم مصيبة تحل بعائلة أو دولة هي الاستقراض، كما أشار إلى ذلك الاقتصادي الأمريكي، نسيم طالب، اللبناني الأصل، ومما قال إن المرض الأمريكي سيأتي في النهاية على أمريكا، وإن مزيدا من القروض هي أشبه بالحركة في الرمال المتحركة؛ فلا يزداد الساقط فيها إلا غرقا واختناقا. قال هذا في معرض القانون الثامن من الوصايا العشر، إن المدمن لا يعالج بالمزيد من جرعات الهيروين، بل بالإقلاع عن الإدمان بكل ألمه وعسرته.
لنحاول تقريب المفاهيم العشرة في الاقتصاد، فهو يرى أولا أن ما كان هشا وضعيفا الأفضل فيه التخلص منه مبكرا، طالما كان صغيرا قبل استفحاله، ومعظم النار من مستصغر الشرر. وتحت الوصية الثانية يقول إنه لا مكاسب شخصية على حساب الخسائر الاجتماعية، وتحت المبدأ الثالث يقول إن كل من قاد باصا إلى الكارثة لا يخول السيطرة على المقود في تجربة جديدة، وهي حكمة كبيرة إلا في العالم العربي حيث العكس، وحين فشل عبد الناصر في الامتحان وأعلن استقالته، هتفت الجماهير برجوعه إلى منصة القيادة وهو الفاشل، فأي عقل جمعي خرافي يحكم عقائد الجماهير في العالم العربي؟ مع أنه هو الذي قاد العرب إلى أعظم نكبة، ما زال العرب يدفعون فاتورتها مع الفوائد المركبة حتى الساعة! وينص القانون الرابع على فقرة مضحكة، وهي محاولة تبسيط الأفكار العظيمة في كلمات بسيطة؛ لا تعطي الصبيان أصابع الديناميت حتى لو شرحت لهم مخاطرها، فلسوف تفجرهم بالتأكيد ونراهم في غرف الإسعاف. وينص القانون الخامس على فهم توازن الاقتصاد بين البساطة والتعقيد. أما الوصية السادسة فهي مواجهة الإشاعات بالاقتصاد المتين، لأن البشر يجمعهم طبل وتفرقهم عصا، ويركضون كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة في ظروف الهلع، فيبيعون أو يشترون بدون وعي وأثارة من علم. ويتكلم الرجل عن الديون والاستقراض أنها ليست حالة طارئة، بل مشكلة بنيوية وتحتاج إلى التأهيل. وتقول الوصية التاسعة إن على المواطن ألا يقلق على شيء لا يسيطر عليه، وكل القلق حيال عمله ووظيفته وليس حول مدخراته.
ويختم كلامه بحكمة قديمة من المطاعم، أن إفطار الصباح من صحن بيض بعيون (أومليت) لا يصلح فيها البيض المكسور، ويذهب إلى أن سفينة مهترئة لا تصلح فيها ترقيعات من الخشب هنا وهناك، ولا بد من إعادة هيكلة السفينة، وهي قانون الاقتصاد نفسه كما جرى مع حرامية اليونان وهلع الاتحاد الأوروبي. عظة للغافلين ودرسا للنائمين.
نافذة:
من يقول إن الدول لا تفلس هو واحد من اثنين إما جاهل مسكين أو مسرف كذاب فالدول تفلس كما يفلس الأشخاص