الورم الصهيوني
بقلم: خالص جلبي
في الطب تقسم الأورام إلى نوعين، فإما كانت انتفاخا سليما لا يخشى منه ويدعى ورما حميدا، وإما كانت ورما خبيثا ويسمى سرطانا يجب استئصاله على وجه السرعة وجذريا، أو معالجته بحيث نقتل فيه طبيعة الخبث. وهذه الكلمة جاءت بسبب أذرع هذا الحيوان البحري، الذي أصبح اسمه مقترنا بالرعب في عالم الطب والمرض. وحالة إسرائيل في العالم العربي هي مرض من هذا النوع. وحتى يعرف الأطباء أن الورم هل هو من النوع الأول، أي الحميد، أم من النوع الثاني، أي الخبيث، فإنهم يهتدون إلى ذلك إما بالدراسة المباشرة من عينة تؤخذ من المكان المشبوه، أو من المحفظة التي تغلفه. فإذا كان الورم مغلفا بقميص ذي حدود واضحة ومعزول عن الجوار بهذا الغشاء، اعتبره الأطباء حميدا غير خبيث لا خوف منه مؤقتا؛ ما لم يحمل كمونية انقلابية للمستقبل. ولذا درج الأطباء على مراقبة كل نمو غير عادي بعين الريبة، حتى تنكشف هويته. وإذا امتدت منه الأذرع إلى الجوار ومزق المحفظة كان إنذارا بشعا بالموت ولو بعد حين في فترة تزيد وتنقص، لأن السرطان لا يرحم صاحبه في العادة. فهذه مقدمة طبية مهمة كمدخل فلسفي لفهم الصراع العربي الإسرائيلي وظاهرة التورم الصهيوني. ومع أن السرطان يقضي على نفسه في النهاية عندما يهدم الجسم الذي أمده بالبقاء، أي أنه يقوم بعمل أحمق يشبه القرد الذي قطع الغصن الذي يجلس عليه، ولكن السرطان يعبر عن تمرد على قوانين الجسم وطبيعة جريان سنن الله في خلقه، وهذا (الإنذار) هو الذي سيسلم إسرائيل إلى نهايتها التاريخية. ودولة إسرائيل هي ورم سرطاني وجسم غريب زرع في المنطقة بأيادي أجنبية، وبدأ يمد أذرعه إلى الجوار من خلال الاعتراف به ومنحه الوجود الشرعي تحت دعوى السلام، الذي لن يكون سلاما في يوم من الأيام. ومتى يمكن للسرطان أن يصطلح مع الجسم الذي يقوضه؟ إن الإجابة هي في ثلاثة مسارب، فإما تفوق الجسم على الورم، وإما قضى السرطان على الجسم وما حوى، وإما تعدلت بنية السرطان بمعالجة متقدمة كيميائية وإشعاعية وجينية، ولله في خلقه شؤون. ومعالجة معقدة من هذا النوع لتغيير طبيعة الورم، هي بالتدخل إلى بنيته الأساسية في النواة من خلال تغيير الشيفرة الوراثية. وهذا يعني بكلمات علم الاجتماع، تعديل العقيدة الصهيونية في بناء دولة إسرائيل. وإذا كانت منظمة التحرير قد حذفت بند تدمير دولة إسرائيل، فإن إسرائيل يجب أن تعلم أطفالها حدود دولتها التي ليس لها حدود مثل أذرع السرطان. وإذا حدث هذا كان معناه تعديل جوهري في بنية السرطان الصهيوني، وبداية تحوله إلى ورم حميد قابل للذوبان والاندماج مع العضوية أمام مظاهر ارتكاس البدن الحادة ضده. وإذا تغيرت بنية العقيدة الصهيونية لتتحول إلى دولة ديموقراطية، كان معناه أن كل ما فعلته العقيدة الصهيونية أصبح باطلا وقبض الريح، كما في تعبير التوراة. وكل ما خطط له آباء العقيدة أضحى حراثة في الماء ونقشا على الهواء. إن هيكل إسرائيل زراعة غريبة في جسم يرفضه، يتم ترويضه بالقوة لقبوله، وهذا لن يحدث ما لم تتغير طبيعة الأشياء. ولذا فإن المشكلة الأساسية هي وجود إسرائيل في المنطقة، سواء كان بعد عام 1948م أو قبلها، وما يفعله السياسيون من المناداة بالسلام هو ضحك على الذقون، وإسرائيل تعلم والسياسيون العرب يعلمون. «وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون». الحكام يمارسون دبلوماسية النفاق ويعلمون أنهم يكذبون، ولكن الشعوب أصدق لهجة فهي تعبر عن نفسها ببراءة وصدق.
دولة إسرائيل زرعها الغرب لعدة اعتبارات وهي دولة تمتاز بعدة مزايا، فهي مصرف عبراني على حد تعبير النيهوم، وهي تكفير عن الهولوكوست، وهي خندق غربي متقدم وبارجة مدججة بالسلاح المتفوق، كما أنها دولة عصرية تجمع نخبة من المفكرين والتقنيين، أهم ميزة فيهم أنهم يعرفون آخر ما وصلت إليه التقنية الغربية. وهي ديموقراطية في داخل أحشائها لأبنائها عدوانية في جلدها الخارجي. تجتمع كل الحكومة في غرفة صغيرة متواضعة، مقابل قاعات ضخمة لوزرائنا في سرر مرفوعة وزرابي مبثوثة وكنبات عملاقة متباعدة تقول إن كل وزير يعيش لوحده. وهي دولة قومية عنصرية ارتبط منشؤها ببزوغ فكرة القومية في أوروبا في القرن التاسع عشر. ولذا فهي دولة ولدت متأخرة عن موعدها قرنا من الزمن، كما يحصل مع الحمل المتأخر ويعرف الأطباء خطورة مثل هذا، فيلجؤون إلى التحريض المبكر. إن الحمل المتأخر يقضي على الجنين، فيولد الجنين طرحا ميتا، كما يعرض الأم إلى انحلال الدم الخطير. وكذلك ولدت إسرائيل فألقيت على كرسي سليمان جسدا لا حياة فيها. إنها موضة قديمة كما في الملابس والموسيقى، دلفت إلى القرن الحادي والعشرين، وهي تلبس ملابس رجال العصور الوسطى. وفي الوقت الذي يميل العالم إلى تشكيل الوحدات الكبيرة، كما في الوحدة الأوروبية واتحاد أمريكا الشمالية من كندا حتى المكسيك، جاءت إسرائيل على غير موعدها بموضة الدولة القومية من مخلفات القرن التاسع عشر، في الوقت الذي تدفن أوروبا الدولة القومية التي ولدت فيها وتنفست.
دولة إسرائيل هي ورم سرطاني وجسم غريب زرع في المنطقة بأيادي أجنبية، وبدأ يمد أذرعه إلى الجوار من خلال الاعتراف به ومنحه الوجود الشرعي تحت دعوى السلام