الوجه الحقيقي للعنصرية
محمد قشيقش
من بين المفارقات الدالة على ازدواجية الخطاب السياسي للأنظمة السياسية الغربية، التي تسوق صورتها في العالم دولا ديمقراطية راعية لحقوق الإنسان، التزامها الصمت، حسب علمي، حيال المظاهرات التي اندلعت في المدن الأمريكية، عقب مقتل المواطن الأسود البشرة جورج فلويد. هي الأنظمة نفسها التي عودتنا دائما على التدخل في الشؤون الداخلية للأنظمة، التي تعرف تظاهرات اجتماعية، بالتعبير عن «انشغالها وقلقها حول ما يجري»، وبدعوتها الأنظمة السياسية إلى رباطة الجأش واحترام حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا. بل لا تتورع في التلويح أحيانا باللجوء إلى العقوبات الاقتصادية ضد هذه الأنظمة، لإجبارها على ما تريده منها.
وفي تزامن مع مظاهرات الولايات المتحدة، شهدت بعض المدن في هذه الدول؛ في باريس وبرلين ولندن وسيدني، بل حتى طوكيو مظاهرات منددة بعنف الشرطة وبالعنصرية. وهي في الحقيقة مظاهرات ضد عنف الشرطة والعنصرية في بعض هذه البلدان نفسها، التي يعاني منها الكثير من مواطنيها، والدليل على ذلك بالإضافة إلى الشعارات التي رفعت في مظاهرات فرنسا «لا أقدر على التنفس»، على شعارات تطالب بمحاكمة من كانوا وراء مصرع آداما تراوري، الذي فارق الحياة بالطريقة نفسها التي مات بها جورج فلويد.
وهي المظاهرات والظاهرة التي فرضت على وسائل الإعلام في هذه الدول، المواكبة والتغطية الإعلامية، حيث خصصت لها بعض القنوات التلفزية موائد مستديرة، استضافت فيها محللين سياسيين ومفكرين من مشارب فكرية مختلفة وصحافيين، من أجل فهم هذه المظاهرات التي نظمت، رغم المنع بسبب الحجر الصحي لجائحة «كوفيد- 19»، وفك شيفرة هذا الحضور البشري المكثف فيها، وكذا الرسائل التي بعثتها. وتبينت لي من المتابعة أطروحتان متناقضتان، تماما في تقييم عنف شرطة مكافحة الشغب والعنصرية. رأي يقول إن مؤسسة الشرطة ليست عنصرية، بل السلوك العنصري ظاهرة فردية معزولة خاصة بأشخاص في جسم الشرطة، وسبب ذلك ذاتي، صغر سن بعض رجال الشرطة. وتكويني الافتقار إلى التجربة والخبرة أو الاحترافية، الأمر الذي يوقعهم في المحظور في التعاطي مع بعض الحوادث. وإذا كان هذا هو الرأي السائد في فهم الظاهرة، فإن المفارقة تكمن في أن يصدر هذا الرأي عن مسؤول من أصول مغربية، إدريس آيت يوسف، الذي يرأس مؤسسة ليوناردو دافينشي للأمن. فالعنصرية حسب هذا الشخص موجودة في ذهن وسلوك بعض رجال الأمن، وتطفو على السطح عند اصطدامهم بمواقف تصعب السيطرة عليها، لذلك، فهي ليست ظاهرة مؤسساتية. وهو رأي الدولة في تبرئة مؤسسة الشرطة ومؤسسات الدولة، بتحميل المسؤولية دائما لسلوكات الأفراد، أو إلصاق التهمة العنصرية بحزب لوبين، كما عبر عن ذلك الصحافي والمحلل السياسي رونالد كايرول. وفي مقابل ذلك تظهر أصوات معزولة تقول إن العنصرية ممأسسة، أمثال المفكر كلود رير الذي قال: «لو كان لون بشرة ماكرون لون بشرتي، لما صار رئيسا لفرنسا»، فالعنصرية في نظره متجذرة في الثقافة العامة .
هذا الوضع يكشف بالملموس أن الإعلام الغربي ليس موضوعيا ولا محايدا كما قد نتوهم، بل جل المفكرين الغربيين المبدعين ليسوا أحرارا في آرائهم وأقوالهم وأفعالهم، خاصة في مثل هذه الموضوعات الحساسة. بل يخضع الكثير منهم ذواتهم لرقابة داخلية ذاتية، تجبرهم بالجهر خلافا لما يعتقدون باطنا، وهذا عليه شواهد كثيرة في الثقافة الغربية، حيث تعرض الكثير من المفكرين في الغرب للمضايقات، بل هجوم شرس ووصفهم بأبشع النعوت، عندما يتجرؤون على الخروج على الكثير من المعتقدات، التي تحولت إلى بديهيات في المخيلة الجماعية الغربية، وخاصة منها التي تعتبر طابوهات سياسية، وأحسن مثال على ذلك هذه الأيام، ما حصل أخيرا للمفكر الفيلسوف ميشيل أنفري، الذي أسس مجلة سماها «الجبهة الشعبية» وما لها من دلالة في المخيال الجماعي الفرنسي، في مقابلة مع المثير للجدل إيريك زيمو. لذلك قد لا يتجرأ أي مفكر على الجهر أمام الملأ في وسائل الإعلام العمومية، بأن العنصرية متجذرة في المؤسسات الغربية، ولها أسباب تاريخية وثقافية وحضارية، وأنها ظاهرة بنيوية فيها، تدخل في تكوين الشعور الجمعي، بسبب الماضي الاستعماري لهذه الدول الغربية، وعقدة التفوق من جهة، والتمركز حول الذات من جهة أخرى الذي نشأت وربت أجيالها عليه. لكن المفارقة الغريبة هي أن فكرة تفوق الآخر، الغير أو الغرب قد عششت عند العامة والكثير من الخاصة عندنا وتحولت إلى عقد النقص تجاهه، وهي التي اصطلح على تسميتها «عقد الموسيو». إلا أن هذا لا ينبغي أن يحجب عنا أن هذه الأنظمة السياسية، تحسب ألف حساب لمؤسسات المجتمع المدني وللإعلام، رغم علاتهما. وهذا هو الذي يفسر كيف كان رد فعل وزير الداخلية الفرنسية كريستوف كاستنر سريعا، تجاوبا مع مظاهرات فرنسا، حيث صرح أن «لا تسامح مع العنصرية في جسم الشرطة الفرنسية، ولا مكان للشرطي العنصري فيها». وقرر المنع الكلي للضغط على العنق، ولي الذراع للخلف للشخص المطروح على الأرض. لكن في ردود الفعل على تصريح وقرار وزير الداخلية الفرنسي، كشف بعض المستجوبين من الشرطة الفرنسية، ذوي الأصول الإفريقية والمغاربية على الخصوص، أن العنصرية متفشية في جسم مؤسسة الشرطة الفرنسية، والذي قد يتجرأ على الجهر بها قد يتعرض للتهميش والمضايقات.