الوباء وما بعد أمريكا
عمر محمود بنجلون
كشفت الجائحة الطريق المسدود للرأسمالية والهزيمة الأخلاقية للغرب من خلال أمثلة متعددة كالتخلي عن الشعب الأمريكي وإيطاليا، أو العودة إلى القرصنة من خلال تحويل المعدات الآتية من الشرق بالقوة، أو إفلاس المنظومة الصحية التي انتقلت من القيمة الكونية إلى السهم المالي. هذه الأحداث تنم عن إفلاس حضارة قد تَحتمل التفكك في واجهتين، الأوربية بعد خروج بريطانيا والأمريكية بعد قابلية دول من الولايات المتحدة لفك الارتباط مع الضريبة المركزية المحتجزة لدى المركب الصناعي العسكري.
هذا الحال يذكرنا بالظروف التي مهدت لانهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991، يلعب فيه الرئيس ترامب دورا لدى ورثة المعسكر الشرقي كالدور الذي لعبه ميخائيل غورباتشوف لدى أمريكا آنذاك. بعد انهيار الاتحاد قامت العقوبات الدولية والنظريات المبهمة، كـ«نهاية التاريخ» و«حرب الحضارات» و«النيوليبيرالية»، بخلط إيديولوجي من أجل إضعاف الفكر الاشتراكي والإشادة بالهيمنة القائمة والنيوكولونيالية المفروضة على دول وشعوب الجنوب. في الوقت نفسه انساق «الشرق» إلى عقيدة السِلم وتجاوز الهزات الممنهجة من أجل الإبقاء على أمل انبعاث الاشتراكية، دون قواعد عسكرية تتربص على حدود الدول ولا تدخل في شؤونها الداخلية، ما مكن الصين وكوبا وروسيا من تقديم قطاع طبي جاهز لخدمة البشرية في محاربتها للوباء.
هذا الموقف الرائد يبرز انهيار أسطورة القوة الأمريكية الغارقة في الأنانية، خاصة بعد تفشي «كوفيد- 19» الذي تسبب لها في أزيد من 30 مليون عاطل، وأكثر من 50 ألف قتيل تجاوز ضحاياها في حروب الفيتنام والعراق، وإفلاس قطاع النفط الذي «يسائلنا» عن اتفاق سعودي-روسي محتمل.
أمام عجزها عن التحدي السياسي والمادي والأخلاقي لمحاربة الجائحة، تقدمت أمريكا بشكاية ضد الصين لمنظمة الصحة العالمية في عز الأزمة وفي خطوة فريدة من نوعها في الأعراف الديبلوماسية، بدعوى «التأثير الدولي للعمل الإنساني الصيني»، في حين أنها علقت واجباتها المالية تجاه المؤسسة الأممية، في الوقت الذي رفعت فيه الصين تمويلاتها إلى 35 مليون دولار. فواقع الحال ينضاف إلى الحروب المباشرة وغير المباشرة التي راكمتها أمريكا خلال 70 سنة من الدعاية الحربية، ليجعل السلطة المعنوية الأممية ترتحل من الغرب إلى القوى الدولية الجديدة لبناء العالم الـ«ما بعد- أمريكي». فبالرغم من النكوص الذي عاشته الأقطار الاشتراكية في نهاية القرن العشرين، يعتبر عملها الهائل في هذه المرحلة الحاسمة راجعا أساسا لسياساتها الإرادية طويلة الأمد، في ما يخص «الرأسمال البشري» وإخضاع السوق للصالح العام.
لقد استمرت الإمبراطوريات في الاستغلال المؤدلج لإفريقيا رغم استقلالها منذ عشرات السنين، باستعمال الديون كأداة لتبعيتها، حيث كان أغلبية الزعماء الأفارقة يرددون المقولة الشهيرة «الاستعمار لم يَخرج الإ ليعود أقوى مما كان». هناك اليوم مواقف سياسية قريبة من هذه القناعة السائدة في الرأي العام ذات الميول المناهضة لما يعرف بـ«الاستعمار الجديد»، حيث «الديون مقابل التقويم الهيكلي»، ودوامة الاستغلال وإيداع العملة لدى الأبناك المركزية الاستعمارية أضحى محط انتقاد ومراجعة. كذلك عودة روسيا إلى إفريقيا بعدما تنازلت عمليا عن دين يُقدر بـ100 مليار دولار من الإعانات لشعوب إفريقيا أثناء الحرب الباردة، أو التعاون الصيني الإفريقي من خلال منتدى focac وطريق الحرير، أو بروز قوى داخلية كجنوب إفريقيا وإثيوبيا والمغرب، كلها عوامل تؤكد على إرادة جدية للقطيعة مع الماضي الاستعماري.
برزت كذلك خطوات أخرى على غرار تخلي دول غرب إفريقيا عن المجال النقدي cfa التابع لفرنسا وتأسيس عملة إفريقية موحدةeco ، ابتداء من يوليوز 2020، أو استرجاع المغرب لموقعه داخل الاتحاد الإفريقي بعد غياب دام 30 سنة، أو ارتفاع الخطابات المناهضة للقوى الاستعمارية كتلك التي بلغ صيتها من المؤتمر الإفريقي- الروسي بمدينة سوتشي سنة 2019، أو طرح «إلغاء الديون» على لسان القادة الأفارقة لدرجة المطالبة بها من قبل مسؤولين أوربيين. الهدف في اعتراف أوربا بضرورة إعفاء القارة السمراء من الدين، ليس مؤشرا على احترام فلسفة «العدالة الخيرية» أكثر مما هو تدارس سبل التخفيف عن القدرة الشرائية الإفريقية، لتمكينها من استيعاب العرض الأوربي الخاضع لمنافسة أمريكية – صينية، ومحاولة الحد من ذهاب «المستعمرات الإفريقية» إلى القبلة الصينية. إفريقيا تطالب اليوم بعدالة تكافئية تُوَفر الإمكانات من أجل تطوير إنتاجيتها واكتفائها الذاتي بكسر الحلقة المفرغة التي تضع المعدل التنموي تحت سقف الفوائد المالية بصفة دائمة، وتحويل التكنولوجيا مع إعادة استثمار أرباح الشركات الأجنبية مقابل باطن الأرض واليد العاملة، والتحرر من التبعية في ما يخص أسعار المواد الأولية مع التخلص من موقعها الأبدي كمصدرة للخام ومستوردة للمواد المصنعة والخدماتية، وبلورة مرافق عمومية خارجة عن إطار الرأسمالية التي تخلط بين الرعاية والصحة كما بين النمو والتنمية. إفريقيا وهي الأقل تضررا من وباء كورونا مقارنة بالقارات الأخرى، في حين أنها كانت في الأمس القريب مختبرا تجريبيا لأوبئة إيبولا والإيدز والمالاريا، ترفض اليوم تجارب التلقيح الأجنبية ضد الفيروس المستجد كتعبير عن استقلاليتها، بعد اختبارها لشراكات جديدة مع قوى بديلة لا ترقص على جروح الاستعمار، بل وتقاسمت معها النضالات التاريخية ضد الاحتلال والتخلف.
العولمة تعيش اليوم على إيقاع محاكمة دولية تَتهم الرأسمالية والغرب، يتوجه من خلالها الوعي الجماعي إلى الصين كأول قوة اقتصادية عالمية، وتعود فيها روسيا إلى طليعة القوى العسكرية، وتنهض الضحية الإفريقية بتنميتها بعيدا عن المرجع الغربي، وخاصة الأمريكي المرتكِز على «الردع الافتراضي» كآلية وحيدة للتفوق الاقتصادي والمالي.
هذه الأزمة الصحية الشبيهة بالحرب العالمية جعلت الشك ينتقل من معسكر إلى آخر، ومكنت الضمير العالمي من أن يساوي أخيرا بين المثالية والواقعية.