الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة.. اختصاصات جديدة
إعداد: محمد اليوبي
صادق البرلمان بغرفتيه، أخيرا، على قانون جديد يتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، الذي يتضمن صلاحيات واختصاصات جديدة لهذه الهيئة الدستورية، التي ظل عملها مجمدا لعدة سنوات، خلال الولاية الحكومية السابقة، بسبب عدم إخراج القانون المنظم لها. كما يتضمن القانون مستجدات تخص توسيع مفهوم الفساد ليشمل الجرائم المالية.
في هذا الملف تستعرض «الأخبار» أهم مستجدات هذا القانون الذي أثار الكثير من الجدل أثناء دراسته بالبرلمان، بسبب التخوفات من الصلاحيات الممنوحة لمأموري الهيئة، وكذلك تفتيش أماكن العمل.
عمل دستور 2011 على الارتقاء بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها إلى مصاف المؤسسات الدستورية، إلى جانب هيئات ومؤسسات دستورية أخرى تختص بتوطيد قيم ومبادئ الحكامة الجيدة، كما حددها الدستور في بابه الثاني عشر، لكن مضمون القانون 12-113 الذي أوكل إليه تصريف مهامها، اعترضته صعوبات على مستويات من أبرزها افتقار هذا النص للآليات التي تضمن لهذه الهيئة القدرة على ممارسة صلاحياتها الدستورية على مستوى المبادرة والإشراف وكذا الضمانات القانونية المخولة لمأموريها من أجل مباشرة البحث والتحري.
ثغرات القانون السابق
أثناء تقديم القانون السابق أمام البرلمان، خلال الولاية الحكومية السابقة، وجه الرئيس السابق للهيئة عبد السلام أبودرار، مذكرة إلى البرلمانيين عبر من خلالها عن تحفظه تجاه العديد من مواد مشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها المحدثة بمقتضى الفصل 36 من الدستور. ونبه الرئيس السابق للهيئة إلى الثغرات التي يتضمنها القانون والتي تعرقل محاربة الفساد والرشوة، بينها الكشف عن هوية الشهود والمبلغين عن جرائم الفساد والرشوة.
واعتبرت المذكرة أن التنصيص على إثبات هوية المشتكين والمبلغين كشرط لقبول شكاياتهم من طرف الهيئة، أمر يتعارض مع التوجهات الرائدة التي أتى بها قانون حماية الشهود والمبلغين، الذي أسس لمبدأ إخفاء الهوية بمجموعة من المقتضيات التي تتضمن على الخصوص إخفاء الهوية في المحاضر والوثائق، واستعمال هوية مستعارة أو غير صحيحة، وعدم الإشارة إلى العنوان الحقيقي للمبلغ، كما يتعارض كذلك، حسب المذكرة، مع مطلب تحفيز المواطنين على التشكي للتمكن من رصد مكامن الفساد، وبالتالي النهوض بصلاحية إعداد قواعد معطيات وطنية حول مظاهر الفساد وفقا لمقتضيات المادة 17 من مشروع القانون، حيث تشكل الشكايات مصدرا أساسيا لإغنائها، ولكل هذه الاعتبارات، يقول أبودرار في مذكرته، «يتعين إلغاء شرط إثبات هوية المبلغين والمشتكين من المقتضيات المنصوص عليها في المادة 19 من مشروع القانون».
ومن جملة التحفظات التي عبرت عنها الهيئة، في مذكرتها، اعتبارها اشتراط إرفاق جميع المستندات والوثائق والمعلومات المثبتة لحالات الفساد المنصوص عليها بمقتضى المادة السالفة الذكر، من شأنه أن يجعل مهمة القيام بالتحريات والأبحاث اللازمة أمرا غير ذي جدوى، لأن الشرط المذكور يجعل الهيئة مقيدة بالاكتفاء بالإحالة على النيابات العامة قصد إطلاق المتابعة القضائية، لذلك يقترح تلطيف الشرط المذكور بالتنصيص على الصيغة التالية «أن ترفق به المستندات والوثائق والمعلومات إن وجدت»٠
تقييد صلاحيات الهيئة
اعترضت المذكرة كذلك على تقييد النهوض بصلاحية التدخل الفوري بشرط تلقي الشكايات والتبليغات، مما يشكل من جهة، تراجعا عن مقتضيات المرسوم الحالي للهيئة الذي منحها صلاحية التبليغ عن أفعال الرشوة التي تصل إلى علمها، ومن جهة أخرى، «يسد الباب أمام الهيئة للتفاعل إيجابيا مع ما يرد في المنابر الإعلامية من وقائع تستوجب تدخلها، وهذا وضع لا يستقيم في ظل الأدوار المهمة التي تضطلع بها الصحافة، وفي سياق تنامي صحافة الاستقصاء والتحري التي ترصد بوسائل متطورة اختلالات الحكامة وأفعال الفساد»، وأضافت المذكرة «لذلك يتعين التنصيص ضمن صلاحيات الهيئة في التبليغ عن أفعال الفساد على الشكايات والتبليغات، وعلى أفعال الفساد التي تصل إلى علم الهيئة كمصادر لإعمال سلطة البحث والتحري المخولة لها».
وطالبت الهيئة في مذكرتها بإلغاء شرط حصر الاستماع إلى كل شخص معني بقضية من قضايا الفساد بمقر الهيئة، وذلك تفاديا لما من شأنه أن يضيق مجال عمل المقررين الذين يخول لهم القانون التنقل إلى أي مكان للمعاينة أو الاطلاع على الوثائق، مشيرة إلى أن المشروع أغفل كذلك، في سياق استعراض الالتزامات المنوطة بأعضاء وموظفي الهيئة، مقتضيات الحماية التي توفرها أغلب التشريعات للأشخاص المزاولين لمهام التحري والمعاينة والاستماع باعتبارها مهاما ذات طبيعة خاصة ترفع احتمال تعرضهم لبعض الأضرار، الأمر الذي يقتضي، حسب المذكرة، التنصيص على توفير الدولة لمقرري الهيئة أثناء مزاولتهم لمهامهم مما قد يتعرضون له من تهديدات وتهجمات وسب وقذف وفقا لمقتضيات القانون الجنائي والقوانين الجاري بها العمل، وتضمن الدولة لمقرري الهيئة التعويض عن الأضرار التي قد تلحق بهم خلال مزاولتهم لمهامهم، وتحل الدولة في هذه الحالة محل المتضرر في الدعاوى ضد المتسبب في الضرر.
صلاحيات الهيئة في القانون الجديد
يأتي مشروع هذا القانون في إطار تنزيل أحكام الدستور وخاصة الفصل 167 منه، وذلك من خلال تعزيز موقع الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها كمؤسسة وطنية للحكامة، والتي تضطلع بمهامها، في إطار من التعاون والتكامل والتنسيق المؤسسي والوظيفي، مع السلطات والمؤسسات والهيئات الأخرى المعتبرة ضمن المنظومة الوطنية المعنية بمكافحة الفساد.
كما يندرج في سياق تأهيل الهيئة للنهوض بالمهام الملقاة على عاتقها، سواء في نشر قيم النزاهة والشفافية والوقاية من الرشوة، أو في مجال الإسهام في مكافحة الفساد. ويتضمن المشروع مقتضيات جديدة تهدف، بصفة أساسية، إلى توسيع نطاق مهام الهيئة، ومراجعة آليات اشتغالها وقواعد تنظيم عملها ونظام حكامتها، وذلك بغية تحقيق درجة النجاعة والفعالية المطلوبة في عملها، وتوطيد الجهود التي تبذلها الدولة من خلال الأدوار المسندة لعدد من السلطات والهيئات لمواجهة ظاهرة الفساد بكل تجلياته، والعمل على محاصرتها بالوسائل الوقائية والردعية المتاحة.
ومن أهم المستجدات الواردة في المشروع، توسيع مفهوم الفساد، وينص القانون على أن المهام الجديدة الموكولة للهيئة في مجال مكافحة الفساد، تتمثل في إعادة صياغة المقتضيات المتعلقة بتحديد مفهوم الفساد وذلك بغاية توسيع نطاق تعريفه وتطبيقاته، حتى يكون مفهوم الفساد شاملا لجريمة تبديد الأموال العمومية ولما قد يجرمه المشرع مستقبلا من أفعال، بدل حصر مفهوم الفساد في جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والغدر، كما ينص على ذلك القانون الحالي للهيئة، كما يشمل مفهوم الفساد أيضا المخالفات الإدارية والمالية، التي تشكل سلوكات تتسم بالانحراف وعدم حماية الصالح العام، وتناقض القواعد المهنية، ومبادئ الحكامة وقيم الشفافية والنزاهة.
ويميز مشروع القانون بين نوعين من أفعال الفساد المحددة لمجال تدخل الهيئة وهما الأفعال التي تشكل جرائم بطبيعتها، حيث عناصرها الجرمية واضحة، تحيلها الهيئة إلى النيابة العامة المختصة، ثم الأفعال التي تشكل مخالفات إدارية ومالية تكتسي طابعا خاصا يتنافى مع مبادئ التخليق والحكامة الجيدة وحسن تدبير الأموال العمومية، دون أن ترقى إلى درجة تكييفها جرائم قائمة بذاتها، ولكونها تعتبر مخالفات مهنية بالأساس، فإنها في حال ثبوتها تؤدي إلى متابعة تأديبية في حق مرتكبها وتوقيع عقوبات إدارية أو مالية في شأنها، مع تمكين الهيئة من إجراء أبحاث وتحريات وإعداد تقارير تحيلها على السلطات والهيئات المختصة بتحريك المتابعة التأديبية أو الجنائية حسب الحالة.
توسيع مهام الهيئة
يتضمن القانون مقتضيات تهدف إلى توسيع نطاق مهام الهيئة ومجالات تدخلها، وذلك عبر مراجعة مهام الهيئة في ضوء أحكام الدستور، والتي تقوم على ثلاثة أبعاد أساسية تتمثل في البعدين التخليقي والوقائي للهيئة، من خلال التنصيص على صلاحية الهيئة لاقتراح التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته والآليات والتدابير والإجراءات الكفيلة بتنفيذها على الوجه الأمثل، والسهر على استراتيجية وطنية متكاملة للتنشئة التربوية والاجتماعية على قيم النزاهة، ولاسيما في مجالي التربية والتكوين.
أما البعد التدخلي من خلال الإسهام في مكافحة الفساد، فقد منح المشروع للهيئة مجموعة من الصلاحيات الجديدة، نتيجة توسيع مفهوم الفساد، وتتمثل هذه الصلاحيات في تلقي التبليغات والشكايات والمعلومات في شأن حالات الفساد ودراستها، والتأكد من حقيقة الوقائع المضمنة بها من خلال القيام بعمليات البحث والتحري، عبر إجراءات ميدانية تتجسد في الصلاحيات المخولة لمأموري الهيئة من أهمها الدخول إلى مقرات الأشخاص الخاضعين للقانون العام والمقرات المهنية للأشخاص الخاضعين للقانون الخاص وطلب الوثائق والمستندات والاستماع للأشخاص المعنيين، كما يتيح المشروع للهيئة وضع يدها على حالات الفساد التي تصل إلى علمها تلقائيا ودون أن تكون مقيدة بوجود شكاية أو تبليغ، كما يمكن المشروع الهيئة من التنصيب مطالبة بالحق المدني في القضايا المتعلقة بالفساد المعروضة على القضاء في حالة عدم تقديم الوكيل القضائي للمملكة لمطالبه المدنية نيابة عن الدولة داخل أجل ثلاثة أشهر، وذلك بغرض تمكين الهيئة من تتبع قضايا الفساد المعروضة على القضاء، وعلاوة على ذلك، فقد منح مشروع القانون الهيئة أيضا اختصاصا جديدا يتمثل في إمكانية قيامها، بطلب من السلطات العمومية، بإجراء تحقيقات إدارية في وقائع خاصة تتضمن مؤشرات حول شبهة وجود فساد وإعداد تقرير بشأنها، وذلك بالنظر إلى ما تتمتع به الهيئة من استقلالية، وهذا الاختصاص يكتسي طابعا نوعيا سيمكن الدولة من التوفر على آلية موازية ومستقلة للبحث والتحري والتحقيق في القضايا التي لا تكتسي طابعا جرميا ولكن شبهة الفساد قد تحوم بشأنها.
ويحدد المشروع عمل مأموري الهيئة في مجال إجراء الأبحاث والتحريات، وذلك بتمكين الهيئة من آليات اشتغال تستجيب لمتطلبات المهام المنوطة بها، وعلى الخصوص منها الوضع القانوني لمأموريها وصلاحياتهم، والتنصيص على أدائهم اليمين القانونية أمام محكمة الاستئناف بالرباط، مع تكليفهم بعمليات البحث والتحري من قبل رئيس الهيئة وتحت سلطته، من خلال طلب المعطيات ذات الصلة بالملف وجمعها ودراستها وتحليلها، وإنجاز محاضر ترفع إلى رئيس الهيئة، وهي محاضر ذات قيمة قانونية، يوثق بها إلى أن يثبت ما يخالفها، ومن أجل ممارسة الصلاحيات المذكورة، فقد خول مشروع القانون لمأموري الهيئة في إطار مهامهم المتعلقة بالبحث والتحري، إمكانية الولوج إلى مقرات أشخاص القانون العام والمقرات المهنية للأشخاص الخاضعين للقانون الخاص، وفي هذه الحالة نص مشروع القانون على إلزامية مشاركة ضابط أو عدة ضباط للشرطة القضائية في عمليات البحث والتحري داخل هذه المحلات، وينص المشروع على تطبيق عقوبات تأديبية وجنائية في حق الأشخاص الذين يقومون بعرقلة عمل الهيئة، بامتناعهم عن الاستجابة لطلباتها دون مبرر قانوني.
ويتضمن القانون مستجدات تتعلق بإعادة النظر في اختصاصات أجهزة الهيئة، والتنصيص على تعيين ثلاثة نواب لرئيسها، وإحداث لجنة دائمة لدى مجلس الهيئة، تتكون من الرئيس وثلاثة نواب له معينين من قبل مجلسها، تكلف بدراسة ملفات القضايا المتعلقة بحالات الفساد المعروضة ذات الصلة، واتخاذ القرارات المتعلقة بها باسم المجلس، وذلك بإحالة استنتاجاتها وتوصياتها إلى الجهات المعنية بتحريك مسطرة المتابعات الإدارية أو الجنائية، مع إطلاع رئيس الهيئة للمجلس على المعطيات المتعلقة بجميع الملفات التي عرضت على الهيئة أو أحيلت على اللجنة الدائمة، وينص القانون على تخويل رئيس الهيئة إعداد كل الآليات اللازمة لتمكين الهيئة من ممارسة اختصاصاتها، كما هو الشأن بالنسبة لصلاحيات في إعداد جميع مشاريع القرارات المزمع عرضها على مجلس الهيئة وإعداد مشاريع النظام الداخلي للهيئة والنظام الخاص بالصفقات والنظام الأساسي الخاص بالموارد البشرية العاملة بالهيئة وتقريرها السنوي، وغيرها من النصوص، شريطة أن تعرض هذه النصوص على مصادقة مجلس الهيئة للتداول في شأنها.
بنشعبون: يجب صياغة سياسات وطنية مندمجة وفعالة ومنسقة في مجال تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد
أكد محمد بنشعبون، وزير الاقتصاد والمالية، أمام البرلمان، أثناء المصادقة على القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، أن هذا القانون يأتي بعد مصادقة المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وأوضح بنشعبون أنه كان لابد من الاشتغال على مراجعة المنظومة القانونية بغاية ملاءمتها مع أحكام هذه الاتفاقية، وترسخ الاقتناع بهذه المراجعة بعد صدور بلاغ الديوان الملكي بتاريخ 14 دجنبر 2018 على إثر استقبال وتعيين رئيس الهيئة؛ حيث جاءت مضامينه مؤكدة على ضرورة التفعيل الأمثل للمهام التي أوكلها الدستور لهذه الهيئة الوطنية.
وتجسيدا لهذا المنظور الجديد، يقول بنشعبون، ومن أجل إذكاء الدينامية المطلوبة في المجهود الوطني لمكافحة آفة الفساد، يستهدف مشروع القانون النهوض بأدوار الهيئة كمؤسسة قادرة على إشاعة قيم النزاهة والشفافية والتدبير الرشيد، ومؤهلة لمواجهة التطور الكمي والنوعي لمظاهر الفساد، مع الأخذ بعين الاعتبار المعايير المتعارف عليها بخصوص هيئات مكافحة الفساد، خاصة ما يتعلق بالاستقلالية وتوسيع مجال التدخل والجمع بين الحكامة والوقاية والمكافحة، وذلك وفق رؤية يؤطرها مبدأ التعاون والتكامل بين الهيئة ومختلف المؤسسات وسلطات إنفاذ القانون، حيث بمقتضى هذا القانون ستتبوأ الهيئة دورا رئيسيا في نشر قيم النزاهة والشفافية والوقاية من الفساد، ودورا متميزا في مجال المساهمة في مكافحة الفساد مع باقي السلطات والهيئات الأخرى.
وأشار بنشعبون إلى أن مشروع هذا القانون يتضمن مقتضيات جديدة موزعة على 54 مادة و7 أبواب، تستهدف توسيع نطاق مهام الهيئة، ومراجعة آليات اشتغالها وقواعد تنظيم عملها ونظام حكامتها، بغاية تحقيق درجتي النجاعة والفعالية المطلوبتين في عملها، أخذا بعين الاعتبار الأدوار المسندة إلى عدد من السلطات والهيئات المتدخلة في المجال، من أجل محاصرة ظاهرة الفساد بالوسائل الوقائية والردعية المتاحة.
وتتمثل أهم مستجدات هذا المشروع، حسب بنشعبون في أربعة محاور أساسية، وهي توسيع مفهوم الفساد، من خلال تبني مفهوم أكثر استيعابا لأفعال الفساد يشمل المخالفات الإدارية والمالية، ويشمل أيضا ما قد يجرمه المشرع مستقبلا من أفعال، بدل اعتماد مفهوم ضيق يقتصر على جرائم الرشوة واستغلال النفوذ والاختلاس والغدر، وثانيا توسيع نطاق مهام الهيئة ومجالات تدخلها، حيث تم استحضار ثلاثة أبعاد أساسية في المهام المنوطة بها، وهي البعد التخليقي المتمثل في نشر قيم النزاهة من خلال إعداد استراتيجية وطنية متكاملة للتنشئة التربوية والاجتماعية، بشراكة مع كل الفاعلين التربويين والاجتماعيين، والبعد الوقائي المتمثل في الإسهام في وضع سياسة وقائية من الفساد عبر آليات الاقتراح وإبداء الرأي، وتقديم التوصيات وإنجاز الدراسات والتقارير الموضوعاتية في كل ما يتعلق بالتوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة في المجال، والآليات والتدابير والإجراءات الكفيلة بتنفيذها على الوجه الأمثل، وأخيرا البعد التدخلي المتمثل في الإسهام في مكافحة ظاهرة الفساد عبر تلقي التبليغات والشكايات والمعلومات ودراستها والبت فيها، وتمكين الهيئة من وضع يدها على حالات الفساد التي تصل إلى علمها تلقائيا ودون أن تكون مقيدة بوجود شكاية أو تبليغ، وكذا التنصيب مطالبة بالحق المدني في قضايا الفساد المعروضة على القضاء.
ويتعلق المحور الثالث بتقوية عمل مأموري الهيئة في مجال إجراء الأبحاث والتحريات، حيث سيمكن هذا المشروع الهيئة من آليات اشتغال تستجيب لمتطلبات المهام المنوطة بها، وعلى الخصوص تعزيز الوضع القانوني لمأموريها وصلاحياتهم، من خلال تخويلهم إمكانية الولوج إلى المقرات الإدارية والمهنية وطلب المعطيات ذات الصلة بالملفات موضوع تحرياتهم وجمعها ودراستها وتحليلها، وإنجاز المحاضر انطلاقا من الزيارات والمعاينات والاستماع إلى الأشخاص المعنيين، وإمكانية التماس تسخير القوة العمومية وتطبيق العقوبات التأديبية والجنائية على كل الأشخاص الذين يعرقلون عمل المأمورين دون مبرر قانوني، كل ذلك مع مراعاة الضمانات المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية للأفراد، وكذا خصوصية بعض المرافق الحساسة.
أما المحور الرابع فيخص إعادة النظر في اختصاصات أجهزة الهيئة، والتنصيص على تعيين ثلاثة نواب لرئيسها، وذلك بغرض ضمان فعالية الهيئة في أدائها لعملها، إذ أدخل مشروع القانون مجموعة من التعديلات على الاختصاصات المنوطة بأجهزتها، من أبرزها إحداث لجنة دائمة لدى مجلس الهيئة تتكون من الرئيس وثلاثة نواب له معينين من قبل مجلسها، تكلف بدراسة ملفات القضايا المتعلقة بحالات الفساد المعروضة عليها، واتخاذ القرارات المتعلقة بها باسم المجلس، وذلك بإحالة استنتاجاتها وتوصياتها إلى الجهات المعنية بتحريك مسطرة المتابعات الإدارية أو الجنائية. ويطلع رئيس الهيئة المجلس على المعطيات المتعلقة بجميع الملفات، التي عرضت على الهيئة وأحيلت إلى اللجنة الدائمة.
وفي السياق نفسه، يقول بنشعبون خول مشروع هذا القانون لرئيس الهيئة إعداد كل الآليات اللازمة لتمكين الهيئة من ممارسة اختصاصاتها، من إعداد مشاريع القرارات المزمع عرضها على مجلس الهيئة، وإعداد مشاريع النظام الداخلي للهيئة والنظام الخاص بالصفقات والنظام الأساسي الخاص بالموارد البشرية العاملة بالهيئة وتقريرها السنوي، وغيرها من النصوص، التي تعرض على مجلس الهيئة من أجل التداول والمصادقة.
وخلص بنشعبون إلى أنه مع التسليم بأهمية التشريع الجنائي كأداة رادعة لمختلف جرائم الفساد، فإن مقاربة الظاهرة تستلزم رؤية أكثر شمولية، رؤية تتأسس على صياغة سياسات وطنية مندمجة وفعالة ومنسقة في مجال تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد، وذلك من خلال تقوية صلاحيات وأدوار كل الفاعلين، بما يُمكن من تعزيز مناخ الثقة وتحقيق نتائج ذات أثر ملموس على عيش المواطن وكافة الفاعلين الاقتصاديين.
هل ستنجح هيئة النزاهة في تحسين ترتيب المغرب في مؤشر إدراك الفساد؟
كشف مؤشر إدراك الفساد عن تزايد مظاهر الرشوة خلال سنة 2020، ودعت المنظمة العالمية جميع الفاعلين المعنيين بمحاربة الرشوة، إلى الوعي بخطورة الوضع الحالي وآثاره على الاقتصاد والمجتمع والولوج إلى الخدمات العمومية، إلى جانب تأثيره السلبي على تصنيف المغرب وصورته على المستوى الدولي، مشددة على ضرورة تفعيل مجموعة من الآليات لمكافحة الرشوة.
وتؤكد التقارير الدولية المنجزة أن الحكومة لم تبارح مكانها في محاربة الفساد ونهب المال العام، ولم تلتزم بما ورد في البرنامج الحكومي بمكافحة الفساد في تدبير الشأن العام. وسبق لرئيس الحكومة الإعلان عن اتخاذ مجموعة من الإجراءات، تتمثل في العمل على تقوية مؤسسات الرقابة والمحاسبة وتكريس استقلالها وتفعيل توصيات تقاريرها عبر توطيد دور المفتشية العامة للمالية من خلال تحديث المنظومة القانونية المؤطرة لتدخلاتها، لكن بقيت مجرد شعارات بدون تنفيذ. كما أن حزب العدالة والتنمية جعل من شعار «محاربة الفساد» قضيته المركزية خلال حملته الانتخابية، والتي بوأته نتائجها المرتبة الأولى التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة، لكن الحزب الذي يقود الحكومة لولايتين لم يلتزم بتنزيل وعوده الانتخابية.
وسجلت دراسة أنجزتها جمعية «ترانسبرانسي المغرب»، حول تقييم النظام الوطني للنزاهة، انعدام الإرادة السياسية للتصدي بقوة للفساد، وأكدت أن قياس حجم الفساد الذي تم في المغرب لأكثر من عقد من الزمان، يثبت أن البلاد مستوية جيدا في الفساد، وهذه المعاينة تؤكدها القياسات والمؤشرات المختلفة المتعلقة بالحكامة وسيادة القانون والوصول إلى المعلومات، أو ممارسة الحريات السياسية والمدنية. وبخصوص مؤشر إدراك الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، حصل المغرب على مراتب متأخرة خلال السنوات الأخيرة.
وأعلنت «ترانسبرانسي المغرب» عن معطيات صادمة بخصوص انتشار الرشوة في المغرب، حيث احتل المرتبة 86 محصلا 40 نقطة في مؤشر إدراك الرشوة، متراجعا بذلك بنقطة واحدة وست مراتب مقارنة بسنة 2019. كما أشارت المنظمة الدولية إلى أن هذه النتائج استمرارية للتراجع الذي يعرفه المغرب طيلة الأربع سنوات الماضية، وقالت المنظمة ذاتها حين عرض نتائج المؤشر، إن النتائج المسجلة تعكس كون الفساد في المغرب يحمل «طابعا مؤسساتيا مستقرا ومعمما في مختلف القطاعات المستويات»، ولفتت إلى تأثير التصنيف والنقطة المحصل عليها على صورة المغرب ومؤسساته في الخارج.
ورصد المؤشر العالمي، تأخر المغرب في محاربة الرشوة مقارنة بدول الإمارات العربية المتحدة الأولى عربيا، ثم قطر وسلطنة عمان والسعودية، ثم دول تونس والبحرين والكويت والأردن، التي حققت بدورها نقاطا أحسن من المغرب، الذي تفوق على الجزائر. كما أشارت المنظمة إلى أنه، عدا الخطاب المناهض للفساد، فلا وجود لإشارة إيجابية عن إرادة حقيقية في مكافحته بشكل فعال، مؤكدة أن «محاربته ممكنة من الناحية التقنية عبر قوانين وآليات، كما فعلت عدة دول، لكن سؤال الرغبة يبقى الفيصل».
وفي السياق ذاته، قدمت جمعية «ترانسبرانسي المغرب» عددا من التوصيات الإجرائية «لإخراج المغرب من الفساد المتفشي والوقاية من الرشوة ومحاربتها»، من ضمنها تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، واستكمال قانون الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة. وأوصت الجمعية نفسها بسن قانون يتعلق بتضارب المصالح، وتنفيذه بهدف وضع حد لهذه الحالات التي يتم رصدها بشكل يومي، سيما في الصفقات العمومية، فضلا عن مراجعة قانون ضمان حماية فعالية الشهود والمبلغين عن الفساد.
كما دعت «ترانسبرانسي المغرب» إلى تجريم الإثراء غير المشروع في إطار المبادئ الأساسية التي ينص عليها القانون، وتعديل القوانين المتعلقة بالتصريح بالممتلكات وتنفيذها. ويعرف المغرب تزايدا لمظاهر الرشوة في مختلف القطاعات، ما ضاعف من معاناة المواطنين، ودفع العديد من النشطاء إلى المطالبة بإحداث آليات جديدة لمحاربة الفساد بشكل عام، في ظل استمرار العديد من تجلياته، رغم الجهود المبذولة لوضع حد له. وأشار التقرير إلى أنه «ما زال المغرب يصنف ضمن البلدان التي تعرف استفحال هذه الآفة»، بل إنه لم يصل بعد إلى المستوى الذي يسمح بانتشاله من خانة الدول، التي ما زالت مجهوداتها في مكافحة الفساد «غير كافية وغير فعالة».
وأكدت المنظمة على ضرورة تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، وإنهاء قانون الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، منبهة إلى أهمية تجنب إفراغه من محتواه، والإبقاء على كافة مرتكزاته الأساسية على رأسها استقلالية الهيئة، إلى جانب فرض قانون متعلق بتضارب المصالح، على حد تعبير «ترانسبرانسي المغرب»، التي أشارت إلى أن سن قانون يهم تضارب المصالح، من شأنه أن يضع حدا لكل الحالات التي تتضارب فيها المصالح، والتي يتم الوقوف عليها ورصدها بشكل يومي، وفق المنظمة، خصوصا في الصفقات العمومية، مع ضرورة إعادة النظر في قانون حماية الشهود والمبلغين عن الفساد، والحرص على الرفع من فعاليته، إضافة إلى تجريم الإثراء غير المشروع. وقد اعتمد مؤشر إدراك الرشوة للسنة الفارطة، على عدد من البحوث والدراسات الاستقصائية التي أجرتها بعض الوكالات الدولية، مركزة على وضعية الفساد في القطاع العام بدرجة أولى، قبل أن تحال على مجموعة من الخبراء لتقييمها، قبل إصدار التقرير النهائي الذي يتضمن نقاط وترتيب البلدان الـ189 التي شملها الاستقصاء.
محمد المسكاوي رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام نجاح هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة في أداء مهامها يتطلب إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد
صادق البرلمان، مؤخرا، على مشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، ما هي أهمية هذا القانون بالنسبة لكم في الشبكة المغربية لحماية المال العام؟
بخصوص مشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، الذي صادق عليه البرلمان مؤخرا بغرفتيه فإننا في الشبكة المغربية لحماية المال العام نعتبره متقدما مقارنة مع القانون الحالي الذي حافظ على الطابع الاستشاري لهذه الهيئة، ضدا على المادة الدستورية التي ارتقت بها إلى مؤسسة دستورية ضمن هيئات الحكامة وعيا بأهمية التحسيس والوقاية والزجر في مجال مكافحة الفساد والرشوة. ومن بين أهم مستجدات القانون الذي يتماشى مع مطالب الشبكة هو التنصيص على المأمورين الذين بإمكانهم معاينة حالات الفساد بالقطاع العام وكذا القطاع الخاص بحضور أفراد الشرطة القضائية، وتحرير المحاضر وإحالتها على النيابة العامة، وهو ما سيمكن الهيئة من لعب أدوار أساسية وجدية على غرار بعض التجارب المقارنة، ولضمان أداء مهامهم بشكل جيد فقط نص القانون على العقوبات في حالة عدم التعاون معهم أو إخفاء الوثائق عنهم.
ومن جهة أخرى، فقد نص المشروع انطلاقا من الفصل 167 من الدستور، على مهام الهيئة الممثلة في الإشراف وتتبع التنفيذ وتنسيق السياسات العمومية المتعلقة بالوقاية من الرشوة ومحاربتها حتى لا تبقى مشتتة بين القطاعات الحكومية أو بيد الجهاز التنفيذي لوحده وهذا الأمر سيضمن التكامل والالتقائية ومراقبة أداء الحكومة في تنفيذ الاستراتيجيات المتعلقة بذلك وتقييمها إضافة إلى استشارة الهيئة من قبل الحكومة والبرلمان بمناسبة إعداد مشاريع ومقترحات القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد، ومن الإيجابيات كذلك إمكانية فتح تمثيليات لها بالجهات كلما اقتضت الضرورة إلى ذلك على غرار بعض مؤسسات الحكامة الأخرى.
ذكرت مجموعة من المستجدات المتعلقة بصلاحيات واختصاصات الهيئة، هل هذا يعني أنه ليست لديكم أي انتقادات أو ملاحظات حول هذا القانون، الذي أثار الكثير من الجدل أثناء دراسته بالبرلمان؟
صحيح، لدينا ملاحظتان يمكن اعتبارهما سلبيتين في القانون وتتعلق الأولى بأعضاء مجلس الهيئة حيث ينص القانون على إعطاء حق التفرغ والاشتغال اليومي إلى جانب الرئيس لثلاثة نواب فقط من أصل 12 عضوا، حيث سيكون دور ما تبقى من الأعضاء التسعة استشاريا يتم إخبارهم في الدورات عن ما تم القيام به من طرف الرئيس ونوابه، ونعتقد في الشبكة أن تغلغل الفساد في المغرب يتطلب استغلال كل قدرات أعضاء مجلس الهيئة وإشرافهم على اللجان الدائمة وهو ما يتطلب الحضور اليومي والتفرغ على غرار نواب الرئيس الثلاثة، واستغلال تجربتهم في المجال لاغناء ممارسة الهيئة للصلاحيات والاختصاصات المخولة لها، والدفع بعملها وتجويد أدائها. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالصياغة المبهمة التي جاءت في المادة المتعلقة بضرورة حضور ضباط الشرطة القضائية إلى جانب مأموري الهيئة أثناء زيارتهم لاحد أشخاص القانون الخاص، ويبقى التساؤل عن ماذا يمكن عمله في حالة عدم حضور هؤلاء الضباط هل سيسمح لمأموري الهيئة القيام بعملهم في حالة رفض المعني بالأمر؟ وفي هذا الصدد كان يمكن الاستعانة بتجربة إدارة الجمارك حيث يقوم أفرادها بتحرير المحاضر والتنصيص على غياب ضباط الشرطة القضائية وتصبح معها المحاضر متمتعة بالصفة الإلزامية.
هناك من يقول إن المشكل ليس في القوانين وإنما في تطبيقها على أرض الواقع، هل تعتقد أن هناك إرادة سياسية لمحاربة الفساد؟
على العموم يمكن القول إن القانون الجديد يعد لبنة مهمة وإيجابية ضمن التشريع الوطني في مجال مكافحة الفساد وسيسهم في تحسن مرتبة المغرب على مستوى مؤشر إدراك الفساد السنوي، كما أن أداء مهام الهيئة بشكل كامل وتعاون الجميع معها سيؤدي إلى خلق جو من الثقة ما بين المواطنين والمؤسسات وكذا تحفيز الاستثمارات التي تبحث عن الاستقرار وغياب الفساد.
وفي الختام نؤكد أن نجاح الهيئة في أداء مهامها يتطلب وجود إرادة سياسية حقيقية لمحاربة الفساد من قبل كافة أجهزة الدولة حتى لا تتحول إلى أداة لتأثيث المشهد السياسي ببلادنا.