الهنود السمر
لعل أصدق ما يعبر عما يعيشه العالم اليوم من فوضى هو كتاب أمين معلوف «اختلال العالم»، حيث يتساءل هل بلغت البشرية عتبة إفلاسها الأخلاقي؟
وحسب أمين معلوف، فمع مطلع القرن الواحد والعشرين بدأت تظهر على العالم علامات اختلال عديدة، حصرها الكاتب في الاختلال الفكري الذي ظهر على شكل انفلات للمطالب المتعلقة بالهويات من عقالها. وكذلك «اختلال اقتصادي ومالي يجر الكوكب بأسره إلى منطقة من الاضطرابات يتعذر التكهن بنتائجها، ويجسد بحد ذاته عوارض اضطراب في نظامنا القيمي، وأخيراً اختلال مناخي ناجم عن فترة طويلة من الممارسات غير المسؤولة».
ما يقع في العالم من انفجارات وتفجيرات وحروب يجب أن تتم قراءته داخل هذه المنظومة، أي منظومة الإفلاس الأخلاقي للبشرية.
اليوم تتضامن مع فرنسا فيأتي من يقول لك عليك أن تتضامن أولا مع فلسطين، تتضامن مع فلسطين فيأتي من يقول لك عليك أن تتضامن مع تازة قبل غزة.
تتضامن مع العرب يخرج عليك أمازيغ متعصبون ويطالبونك بالتضامن مع أبناء عرقك عوض التضامن مع هؤلاء العرب الأجلاف المحتلين الذين اجتاحوا المغرب وطردوا الأمازيغ نحو الجبال.
تكتب شعار «صلوا لفرنسا» على صفحتك فيأتي من ينصحك بأن تؤدي الصلوات الخمس أولا قبل الصلاة لفرنسا أو غيرها.
تضع علم فرنسا على صورتك في صفحتك بـ«الفيسبوك» فيأتي من يقول لك مستنكرا كيف تقبل على نفسك أن تضع علم الدولة التي استعمرت بلادك على بعد يومين من ذكرى عيد الاستقلال احتفالا بطرد علم هذه الدولة من أرضك، فيما لم تبادر إلى وضع علم لبنان التي سبقت انفجاراتها انفجارات باريس؟
تسارع إلى موقع «فيسبوك» وتبحث عن «فيلتر» راية لبنان لكي تعلقه على وجهك فتكتشف أن إدارة «فيسبوك» لديها أولويات ولا تتعامل مع كل الجثث على صعيد واحد، فهناك الضحايا الأوربيون والغربيون الذين تعتبرهم ضحايا من الدرجة الأولى، وهناك الشواذ الذين تعتبر قضيتهم ذات أولوية، ولذلك تخصص لشعاراتهم القوس قزحية ولرايات هذه البلدان «فيلترات» لكي يغطي بها منخرطو الموقع وجوههم، فيما الآخرون الذين يدخلون في عداد الدول العربية والأفريقية والإسلامية، فهؤلاء ضحايا من درجة ثالثة ولا عزاء لهم ولا رايات ولا «فيلترات».
نحن إذن أمام آلة إعلامية ورقمية جبارة تمارس الاختيار التمييزي للجثث والقتلى، فهناك جثث أهم من جثث، وضحايا أهم من ضحايا، والسبب ديني بالأساس.
لذلك أحببنا أم كرهنا فالقرن الواحد والعشرون، كما تنبأ بذلك أندريه مالرو، سيكون دينيا أو لا يكون.
لذلك فهذه الحرب، الخفية تارة والمعلنة تارة أخرى، ضد الوجود الإسلامي في أوربا، ستأخذ أشكالا «ديمقراطية» و«قانونية» حتى لا يظهر العالم الحر والمتقدم عاريا على حقيقته، فتتحطم الصورة المثالية التي يريد تقديمها عن نفسه كمجتمع يعطي الدروس حول الأخلاق والمبادئ الديمقراطية لدول العالم الثالث وبلدان العالم «المتوحش».
لذلك، فالعالم «الحر» يتخذ قراراته من أجل التضييق على المسلمين بطريقة ديمقراطية، وذلك عبر الاستفتاء والتصويت وقوانين الهجرة التي يصوت عليها ممثلو الشعب في البرلمان ومجالس الشيوخ، وعبر حمل الماء إلى طواحين أحزاب اليمين المتطرف وتمكينه من وسائل الإعلام العمومية لكي يعبر عن حقده الدفين تجاه العرب والمسلمين.
وهكذا، مثلا، عوض أن ينصب النقاش الإعلامي اليوم في إسبانيا على قانون الهجرة الجديد الذي يعد الأسوأ في تاريخ إسبانيا، بعد قانون الاشتراكي «فيليبي غونزاليس»، نظرا إلى تشدده مع المغاربة، خصوصا في ما يتعلق بالتجمع العائلي، نجد أن النقاش اتجه نحو اقتراح رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي تقديم إسبانيا اعتذارها الرسمي على طرد الكنيسة الكاثوليكية للموريسكيين من الأندلس نحو شمال إفريقيا، والمغرب على وجه الخصوص.
شخصيا، وجدت أن هذا النقاش يبعث على قدر كبير من السخرية. فإسبانيا، التي تخطط لأكبر عملية طرد «قانونية» للمغاربة من فوق أراضيها، منشغلة بقضية الاعتذار إلى مغاربة مسلمين سبق لها أن طردتهم من أراضيها قبل قرون.
وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكية هي من تولى طرد العرب والمسلمين من الأندلس قبل قرون على عهد الملكة «إزابيلا» والملك «فيرديناند»، فإن بصمات الآلة الكنسية المتحكمة في دواليب القرار في الاتحاد الأوربي، عبر وسائل إعلامها وصحافييها ومثقفيها النافذين، ليست بعيدة عن صياغة بعض بنود القوانين المتشددة مع المهاجرين العرب والمسلمين.
ما يقلق الدولة الأوربية العميقة هو سرعة توالد المهاجرين العرب والمسلمين، وارتفاع أعداد الأوربيين الذين يعتنقون الإسلام.
الخوف من الإسلام وقدرته الكبيرة على الانتشار ليست مقتصرة على إسبانيا، ففي روسيا أعربت دوائر أمنية صراحة عن مخاوفها من زيادة نسبة الأشخاص المعتنقين للدين الإسلامي من أصل روسي، وأشارت معطيات نشرتها صحيفة «أزفيتسيا»، الصادرة في موسكو، إلى أن هناك 300 ألف روسي اعتنقوا الإسلام مؤخرا.
وألمانيا، على سبيل المثال، يفوق عدد المسلمين بها عدد المسلمين بلبنان.
أما صحيفة «الديلي تلغراف» البريطانية فقد نشرت تقريرا حذر من أن أوربا تواجه قنبلة زمنية ديموغرافية تتمثل في تزايد مطرد للجاليات المسلمة المهاجرة، ما يهدد القارة بتغيرات جذرية لا يمكن تدارك أبعادها خلال العقدين المقبلين.
والأفكار والأرقام التي نشرتها «الديلي تلغراف» ليست سوى ترجمة أمينة للأرقام والمعطيات التي قدمها «فيلدرز»، الأمين العام للحزب اليميني الهولندي المتطرف «هولندا الحرة» ومخرج فيلم «فتنة»، والذي طالب في خطاب وجهه إلى حكومة هولندا والحكومات الأوربية، بوصفه عضواً بالبرلمان الأوربي، بضرورة اتخاذ إجراءات من شأنها إلزام المسلمين المهاجرين إلى أوربا بتحديد النسل، والاكتفاء بطفل أو طفلين كالأسر الأوربية، مؤكدا أن الديموغرافيا السكانية تسير لصالح المسلمين، فبحلول عام 2050 سيشكل المسلمون نسبة 20 في المائة من سكان أوربا بعدما كانوا لا يزيدون عن 5 في المائة، أي أن الأسماء التي ستكون أكثر تداولا في أوربا بعد أربعين سنة من الآن، هي محمد وآدم وريان وأيوب ومهدي وأمين وحمزة، وهذا وحده يشكل بالنسبة إلى الفاتيكان كابوسا مخيفا.
لذلك، بدأت كل الحكومات الأوربية في التنسيق في ما بينها على الصعيد الأوربي لوقف هذا الزحف الأخضر. فجاءت قوانين فرنسا لحظر ارتداء الحجاب في المدارس قبل سنوات، وتبعها حظر ارتداء البرقع الأفغاني، مع أنه لا علاقة له بالإسلام بل هو زي ابتدعه طالبان، وتبعتها بريطانيا عندما وضعت قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، اتضح أنها كانت موجهة أساسا لتجفيف منابع تمويل الجمعيات الإسلامية الخيرية في بريطانيا. ووصلت هذه الحمى إلى إسبانيا عندما منعت مدارسٌ دخولَ طالبات بالحجاب، ومنع قاض محامية مسلمة تضع الحجاب من دخول قاعة المحكمة. لكي نصل، في نهاية المطاف، إلى كارثة تصويت السويسريين لصالح منع بناء المآذن في المساجد الإسلامية فوق أراضيهم استجابة لدعوة عنصرية أطلقها الحزب اليميني وباركتها الحكومة من وراء الستار بقبولها عرض المسألة للتصويت.
ورافق التشدد والصرامة في تطبيق هذه القوانين تراخ واضح في التصدي للجرائم العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون المسلمون في كثير من الدول الأوربية. والرسالة التي تريد هذه الحكومات الأوربية إيصالها إلى مسلمي أوربا واضحة بما لا يدع مجالا للشك، وهي أن المكان لم يعد يتسع للجميع، عليكم أن تختاروا، إما أن تندمجوا معنا كليا أو أن ترحلوا إلى بلدانكم حيث تستطيعون القيام بما يحلو لكم.
وهذا هو عمق دعوة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي حول قضية «الهوية الوطنية»، فإما أن يقبل المسلم في فرنسا بالانسلاخ والتجرد من جذوره الإسلامية العربية أو الإفريقية أو الأمازيغية لكي ينتمي بالكامل إلى العرق الفرنسي والثقافة الفرنسية والهوية الفرنسية، وإما أن يعود إلى حيث توجد جذوره التي يفتخر بها.
إن وضع أوربا، كقارة تجمع دولا تتفق جميعها على احترام المبادئ الديمقراطية، لا يسمح لها بأن تقوم بإحياء محاكم تفتيش جديدة على الطريقة الكاثوليكية لطرد العرب والمسلمين من أراضيها كما وقع في إسبانيا تحت مبررات التعرض لهجوم إرهابي، ولذلك تلجأ إلى استعمال القوانين للضغط وإحراج ومضايقة وإهانة هؤلاء المهاجرين حتى يفهموا أن الخلاص يكمن في عودتهم إلى بلدانهم.
إنها، في نهاية المطاف، حلقة جديدة ومعدلة ومنقحة من مسلسل «محاكم التفتيش» التي اعتاد الغرب المسيحي القيام بها كلما أحس بزحف الإسلام والمسلمين على أراضيه.
المثير في الأمر أن اليهود الصهاينة، الذين تعرضوا على يد النازية للاعتقال والإبادة في المعسكرات، هم من يحرض الغرب على طرد العرب والمسلمين من بلدانهم عبر الإعلام الذي يتحكمون في دواليبه، وعبر السينما التي يصورن فيها المسلم كمرادف للإرهابي السفاك.
قبل قيام ألمانيا النازية بجمع اليهود في معسكرات ومعتقلات من كل أوربا، قامت آلة إعلامية رهيبة ومنظمة بتسهيل المشروع الألماني لهتلر، وذلك بتصوير اليهود كسبب رئيسي للأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها الدول التي كانوا مستقرين بها.
وهكذا عندما دك هتلر أوربا تحت أقدامه، سلمته الدول يهودها ولم يحرك ذلك في نفوس الأوربيين أي شعور بالرأفة أو الشفقة تجاههم. فقد كانوا جميعهم يرون أن ثراء اليهودي هو سبب بؤس المسيحي. هذا ما يحدث للمسلمين اليوم على يد الإعلام الأوربي اليميني، فالدعاية اليمينية تصور المهاجرين المسلمين اليوم في الإعلام كلصوص يسرقون خبز الأوربيين من أفواه أبنائهم.
فهل سيفهم المسلمون أن دورهم قد أتى لكي يكونوا الهنود الحمر المعاصرين، الذين يمكن تسميتهم بالهنود السمر بسبب بشرتهم، أم أنهم سيفسرون كل هذه المؤامرات التي تحاك ضدهم كمصادفات تاريخية لا غير؟