شوف تشوف

الرأي

الهندسة الأخلاقية والصيام

بقلم: خالص جلبي
عمد الفيلسوف الهولندي (اسبينوزا) في كتابه «الأخلاق مبرهنة بالدليل الهندسي» إلى محاولة إثبات الناظم الأخلاقي، كما يُبرهن على السطوح والخطوط والنقط الرياضية، وهو ما يجب فعله الآن من خلال البيولوجيا. وحينما ناقش عالم النفس (ج. ا. هادفيلد) موضوع الأمانة الزوجية؛ فإنه وضعه تحت (قانون الأمانة الزوجية)، ووجهة نظره أنه يخالف أولئك الذين يرون أن (القانون الطبيعي مضاد للقانون الخلقي الذي يُظن أنه مشتق من مصدر خارج الطبيعة)، وأنه (ليس ثمة تعارضا بين البيولوجيا وبين الخلقية، فالقوانين الخلقية هي تقرير للقوانين البيولوجية العليا). ومن أجل توضيح الارتباط بين القوانين البيولوجية والمبادئ الخلقية، علينا أن نعلم أن الغاية الرئيسية للطبيعة من خلال العمل الجنسي هي المحافظة على النوع، وأن تطور هذا النظام عبر التاريخ، أوصله إلى الأحادية الزوجية، من خلال التطور البيولوجي البحت. وبذا يمتزج القانون الأخلاقي بالقانون البيولوجي، بحيث يصبحان وجهين لعملة واحدة.
يقول هادفيلد: «فإذا احتكمنا إلى الطبيعة، فيجب أن نحتكم إلى الطبيعة كلها لا إلى مظاهرها الأدنى والأقدم، وهنا سوف نرى أن القانون الفطري والقانون الأخلاقي إن هما إلا طوران في تطور الإنسان نحو تحقيق الذات، فالإنسان البدائي في حالته الفطرية لا يعتبر آخر ما جاءت به الطبيعة وكثيرا ما توصف حياة الإنسان البدائي بأنها بسيطة، وقد تكون كذلك في التنظيم الظاهري، ولكنها من الناحية السيكولوجية أشد تهويشا من الحياة المرئية للرجل المتمدن، الذي توجه قواه الغريزية إلى غرض مشترك، وكذلك الحال بالنسبة إلى الفرد الذي يسمح بالتعبير المطلق عن اندفاعاته، فإن هذا الفرد لا يجد في الحياة سلاما».
إن كل كيان حي ويدخل في ذلك العقل الإنساني الذي يتجه نحو التركيب لا نحو التعبير فحسب، وكل مذهب في السلوك أو الطب النفسي يهمل ذلك عمليا فهو يهمل مبدأ سيكولوجيا وبيولوجيا أساسيا، وعلى هذه الصخرة سوف يتحطم.
وإذا كنا قد استشهدنا حتى الآن لتنظيم أعظم غريزة في كياننا، التي تشبه المستعر الأعظم (السوبرنوفا)، والتي اعتبرها فرويد هي وراء كل تصرف وكل عقدة وكل إحباط، بل ووراء كل مرض نفسي، فإنه أصاب في قسم من الحقيقة، ولم يقنص كل الحقيقة، فالطاقة الجنسية هي طاقة أساسية وهامة في كياننا، ولها الحق في الهيمنة لأنها خلف إيجاد النوع. وهذه يشترك فيها الإنسان مع الأرانب والسلاحف، وتبقى الثقافة هي التي ترقي النوع. إلا أن (رقي النوع) يتركب كطابق علوي فوق (حفظ النوع)، لذا فإن عمق هذه الغريزة وحرارتها واستعارها وإلحاحها الدائم تخبي خلفها حقيقة هامة وبنيوية، وهي أن توقف الإنجاب لجيل واحد فقط يهدد الجنس البشري بالانقراض. بل وفهمتُ منه حقائق عزَّتني كثيرا في حياتي، وأفهمتني حقائق جوهرية في الحياة، فلقد صدمت عندما وصلني خبر موت صديق عزيز علي في ميعة الصبا، لم يتجاوز الثلاثين من العمر بسرطان في المستقيم. جاءه المرض كالصاعقة الحارقة، بحيث إن المرض تسلط عليه فلم ينفك عنه حتى نقله إلى العالم الأخروي، وفي مدى شهر واحد لا يزيد. وعندما كنت أعزي زوجته في الحادث، شعرت بتألق هذه الحقيقة ودمعة حارة تسيل على خدي. قلت لها: لقد صرعه الموت، ولكن الحياة أقوى من الموت لأنها من الله الحي الذي لا يموت. هو قد رحل ولكن طفلين اثنين احتلا مكانه، فالموت الغاشم قد خطفه، ولكن الحياة وسعت مقعده إلى مقعدين. نعم إن الحياة هشة إلى أبعد الحدود كما قال الفيلسوف الألماني (شوبنهاور): بقدر ما تسحق الحياة الفرد بدون أي رحمة ولا تعبأ به، بقدر ما تحافظ على النوع البشري وتنميه، وكل هذا يتم من خلال الإنجاب، الذي تكمن خلفه تلك الغريزة المتقدة كالنار النووية المستعرة التي لا تنطفئ بالماء.
إن استراتيجية الصيام لتنظيم هذه الغريزة والحد من لهيبها ولجمها، تفعل كما تفعل قضبان الفحم والكادميوم التي تلجم الطاقة النووية. ولكن الصيام انقلاب في أيامنا ليس فقط إلى موسم للنوم، بل موسم للحلويات وزيادة الوزن وقلب النظام الطبيعي، فأصبح النهار سباتا والليل معاشا. وأما المحطات الفضائية فتستغرق انتباه المشاهد وتخلب الألباب في المسابقات والمسلسلات وحفلات الرقص في قسم لا يستهان به من البرامج، بعد أن ودع الإنسان الكتاب والقراءة، وانقلب إلى عالم المشافهة والصورة. في نكسة إلى الخلف عشرة آلاف من السنين، ونحن نعرف أن إنسان الكهوف كان يعتمد الصورة ولم يكن يعرف الكتابة، وأن الحرف تم اختراعه منذ خمسة آلاف سنة لا يزيد، وأن كل العلم والمعرفة والإنجازات المدهشة بما فيها اختراع الراديو والتلفزيون لم تكن لتتم لولا الكتابة، وهذه فلسفة هامة أن نعرف معنى الكتابة والحرف في تاريخ الإنسان. وهو ما جاء في أوائل السور مثل الم .. كهيعص.. طسم.. فلم تكن الكتابة لتبدأ قبل صياغة الحرف الصوتي والجامد، ومن شبك الحروف ببعضها ولدت الكلمات وتدفقت المعاني شتى.
وحديثنا كله هنا له علاقة بموضوع الإقبال على برامج المحطات الفضائية، وقضاء ساعات طويلة خلف شاشة التلفزيون يحدقون ولا يحصل منها بناء معرفي وهي أقرب للتسلية، وإن كانت هناك برامج تثقيفية ومفيدة، ولكن الكتاب يبقى هو المصدر المكثف بناء العقل، وهو القلم الذي أقسم به القرآن «نون والقلم وما يسطرون». وأعتبر أن عصر التلفزيون هو كارثة في مصير العقل والكتاب، خاصة عندما تتعدد المحطات بقدر عدد الدول العربية، حيث تعني كل إضافة زيادة في الكمية وليس القيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى